أبرز محطات الخطر الروسى.. من غروزنى حتى ماريوبول الأوكرانية

إعداد/ دينا لملوم

تتقابل الحروب غالبًا فى صنع المآسى والويلات، على الرغم من اختلاف مضمونها، ففى الوقت الذى تدخل فيه الحرب السورية عامها الثانى عشر، تعيش أوكرانيا حربًا مصيرية، تعد روسيا الفاعل المفصلى فيها، حيث بدأت حروبها على الشيشان، مرورًا بجورجيا، وسوريا، حتى وصلت الآن إلى أوكرانيا، ويعد العامل العسكرى عاملًا مشتركًا فى صنع المآسى التى عانت منها هذه الدول، وتشابه الأوضاع والعوامل التى كانت ذريعة للتدخل الروسى، مع اختلاف نسبى لشكل ومضمون هذه العمليات، وقد تمكن “بوتين” من توظيف الأداة العسكرية، بشكل يضمن تحقيق أهدافه؛ بالاستناد إلى سياسة الأرض المحروقة، التى عمدت إلى التدمير الشامل للبلاد وقصف المنشآت والمنازل.

أبرز محطات الخطر الروسى:

أولًا: غروزنى – الشيشان:

عقب انهيار الاتحاد السوفيتى، شنت روسيا حربين لمنع الشيشان من الحصول على استقلالها، فاندلعت الحرب الأولى عام 1994، عندما أرسلت روسيا قوات عسكرية للقضاء على حركة انفصالية تأسست على أراضى الشيشان تسعينيات القرن المنصرم، إلا أن القتال توقف عام 1997 إثر إبرام اتفاق سلام عام 1996، وعلى الرغم من ذلك اندلعت الحرب الثانية عام 1999، مع عودة انتشار القوات الروسية فى الشيشان عقب سلسلة من الهجمات الإرهابية الدامية فى الأراضى الروسية زُعم أن أمراء الحرب الشيشانية هم من كانوا وراءها، وبلغت هذه الحرب ذروتها فى الحصار الدموى لمدينة “غروزنى” عاصمة الشيشان، مما أسفر عن خسائر مادية كبيرة ومقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وشهد العام الأول والثانى من الحرب صعود نجم “بوتين” ووصوله إلى السلطة فيما طويت الحرب صفحتها فى أبريل عام 2000.

وبعد ذلك بشهرين قام بوتين بتعيين “أحمد قديروف” رئيسًا للشيشان، والذى استمر حكمه حتى اغتياله عام 2004، وخلفه فى الحكم نجله رمضان، وأصبح رئيسًا للبلاد عام 2007، وحتى الوقت الحالى، لتشهد الشيشان سلسلة من التدهور فى سجل حقوق الإنسان، خاصة قيامه بقمع المعارضة والنشطاء والصحفيين، ليس فقط داخل البلاد، وإنما خارجها أيضًا، وبالنظر إلى الحرب الدائرة فى أوكرانيا حاليًا، نجد أن صور الدماء وحصار المدن الأوكرانية كماريوبول وغيرها يستحضر فى الأذهان حصار مدينة “غروزنى” الشيشانية، التى حولها القصف الروسى عام ١٩٩٩ إلى رماد.

ونجد أن محاولات موسكو لفرض سيطرتها على أوكرانيا تسلط الضوء على المحاولات السابقة ونضال الشيشانيين لنيل استقلالهم ضد آلة الاستعمار الروسية، وتتمحور أوجه التشابه بين الغزو الروسى للشيشان، ونظيرتها أوكرانيا، فى أن الروس اتبعوا نفس أساليب وتكتيكات التدمير، فقد أدت الغارات المدفعية والجوية إلى تحويل “غروزنى” تلك المدينة التى كانت تهيمن عليها المبانى المصنوعة من الصلب والخرسانة إلى مجرد أنقاض، وأضرمت “مينوتكا” مركز المقاومة الشيشانية بالقنابل العنقودية والنيران، وعرض المدينة للقصف الصاروخى، تلك الأحداث تعيد إلى الذاكرة ما يحدث فى المدن الأوكرانية جراء العملية العسكرية الروسية، ولكن نجد أن الفيصل فى الحرب فى أوكرانيا هو مشاركة بعض فصائل الشيشان مع القوات المهاجمة الأوكرانية ضد موسكو، وإذا كان الهدف من تطويق روسيا للشيشان هو إعادتها إلى الأحضان الروسية.

فإن المشروع الذى تطمح إليه روسيا هو إعادة أوكرانيا إلى دائرة النفوذ الروسى أيضًا، وفى حرب روسيا على أوكرانيا سعت إلى استخدام بعض الشيشانيين الموالين لها، كرمضان قديروف الموالى للكرملين، فانقسمت الشيشان على نفسها ما بين قوات تحارب جنبًا إلى جنب الأوكرانيين، وقوات أخرى تحارب مع روسيا ضد الأوكرانيين، فقد أدت السياسة الروسية إلى إرهاب الأوكران  وزعزعة ثباتهم، بإدخال قوات مثل قوات “قديروف”، التى لها سجال مروع فى التعامل مع المدن المحتلة، وممارسة القسوة والانتهاكات التى ارتكبوها مع الشيشان ذاتها، إلا أن المناضلين الشيشانيين الذين يحاربون فى صفوف الأوكران يعتبرون أن الحرب فى أوكرانيا عبارة عن حلقة فى سلسلة كانت مقدمتها الحرب الشيشانية؛ لذا فقد أرادوا تحقيق نصرًا لم يتمكنوا من تحقيقه على أراضى الشيشان، فبات القتال فى أوكرانيا بمثابة طار مشترك، ومحاولة للثأر من عدو مشترك، لم يقتصر الجهاد فيه على مسلمى الشيشان فقط، بل امتد إلى مجموعات مسلمة أخرى.

ثانيًا: تبليسى – جورجيا:

قام فيلق من الجيش الروسى باجتياح جورجيا عام ٢٠٠٨؛ ردًا على إقدام الرئيس الجورجى آنذاك “ميخائيل ساكاشفيلى” على محاولة استعادة “أبخازيا وأوسيتيا” الجنوبية الانفصالية المدعومة من روسيا، وكانت الذريعة وراء اجتياز الروس حدود جورجيا تكمن فى أنهم يحمون “أبخازيا وأوسيتيا” من الأعمال الإرهابية الجورجية والاعتراف باستقلالهما، وتكرر نفس السيناريو مع أوكرانيا إبان غزو موسكو لأراضيها؛ مدعية أنها تهدف إلى حماية “دونتسك ولوغانسك” التابعين لإقليم الدونباس من الأعمال الإرهابية الأوكرانية، والاعتراف بسيادتهما، كما أن موسكو استشعرت محاولات حلف الناتو لضم جورجيا إليه، وهو ما ظهر جليًا فى قمة الحلف التى انعقدت أبريل عام ٢٠٠٨؛ الأمر الذى دفع روسيا إلى تجهيز العدة للتدخل فى جورجيا للحيلولة دون انضمامها إلى الناتو، كما فعلت مع أوكرانيا، وعملت على تأطير هذا التدخل بدعمها لملف “أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا”.

وبالنظر إلى أوجه الشبه بين الحالة الانفصالية الجورجية والحالة الانفصالية فى أوكرانيا، نجد أنها متعددة، أهمها يكمن فى كون كلتا الحالتين من إرث الاتحاد السوفيتى السابق، وكذلك استغلال موسكو لهما من أجل فرض أمر واقع ميدانى وسياسى، عبر تقديم الدعم العسكرى أولًا، ثم الاعتراف بالجمهوريات الانفصالية بشكل يسمح لموسكو فى أى وقت بالوجود ضمن أراضى هذه الجمهوريات، فى حال دعت الضرورة إلى ذلك، الأمر الذى عرقل محاولة انضمام جورجيا إلى حلف الناتو، وقد يعرقل مسار انضمام كييف إلى الحلف أيضًا، أما فيما يتعلق بالواقع الميدانى العسكرى، ففى الحالة الجورجية، انخرطت موسكو فى معارك شرسة مع القوات الجورجية، فى حين كان إقليم الدونباس، منذ عام 2014، بمنزلة خط مواجهة عسكرى لمعارك مستمرة بين القوات الانفصالية المدعومة من موسكو، والجيش الأوكرانى، وهى معارك تغيرت وتيرتها حتى بعد توقيع اتفاقية “مينسك” أوائل عام 2015، والتى كانت تستهدف وقف إطلاق النار فى الإقليم، وسحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، وهو ما لم يحدث فعليًا.

ثالثًا: حلب – سوريا:

يُعاد المشهد ثانية فى أوكرانيا بعد سنوات من القصف الجوى والتهجير بذات الأسلحة والتكتيكات التى استخدمت من قبل فى سوريا، وتستخدم حاليًا فى أوكرانيا، وقيام الطائرات الروسية بتكثيف الغارات على قوات المعارضة السورية فى حلب، والعمل على قمعها، وذلك منذ بدء التدخل العسكرى فى سوريا، وتلاقى الأوضاع فى سوريا ونظيرتها الأوكرانية، ففى حين استخدمت روسيا الفيتو (الروسى – الصينى) ضد إدانة الرئيس بشار باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد الشعب السورى، نجد نفس المشهد يتكرر، حيث استخدام “الفيتو الروسى” ضد محاولات إدانة العملية العسكرية فى أوكرانيا، ونجد أن بعض التكتيكات التى استخدمت فى الحرب الأوكرانية، كان وقد سبق تعلمها فى سوريا، كما أن الاستخدام المستمر والشامل للقصف العنيف، والذخائر الموجهة فى “ماريوبول”، استخدم فى سوريا من قبل.

وتعد معركة حلب التى وقعت خلال الحرب الأهلية السورية عام ٢٠١٦، من أكثر العمليات دموية فى الحرب السورية؛ وذلك بسبب استخدام روسيا الدعم الجوى، الذى استهدفت من خلاله المنازل والأسواق والمدارس؛ مما أسفر عن سقوط العديد من القتلى، وقد اعتمدت عمليات القصف على الذخائر الحارقة والعنقودية، وهى أسلحة محظورة رسميًا بموجب البروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية، كما شنت العمليات العسكرية الروسية هجومًا على البنية التحتية المدنية، وبالرجوع إلى سيناريو الحرب فى أوكرانيا، نجد أن ذاك المشهد يتكرر ثانية، وتقوم موسكو بتكرار هذه الإستراتيجية فى أوكرانيا، ويعد مشهد استعراض القوة العسكرية الروسية فى الحرب السورية، أحد محاور معركة جيوسياسية، سعت من خلالها موسكو إلى التربع بين قوى العالم، بالتساوى مع الولايات المتحدة.

رابعًا: ماريوبول – أوكرانيا:

دوامة الحروب، هكذا تدير روسيا عملياتها العسكرية فى مستعمراتها، فالمشهد يعاد ترتيب أوراقه فى كل عملية تقوم بها موسكو، فنجد أن الغزو الروسى لأوكرانيا يستحضر بعض صور الحرب السورية، بالنظر إلى مشاهد القصف المدمر، والاتهامات المتداولة بشأن ارتكاب جرائم حرب، واستخدام أسلحة محظورة، وفقًا للاتهامات التى وجهتها منظمتى العفو الدولية، و”هيومن رايتس ووتش” لموسكو فى سوريا وأوكرانيا، وقد جاءت العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا؛ فى محاولة لنزع السلاح، والقضاء على النازحين فى البلاد، بل والسعى لتنفيذ عملية عسكرية شاملة للسيطرة على كافة الأراضى الأوكرانية، وقد مرت أوكرانيا بخمس محطات من النزاع المميت، والذى استهدف عدة مدن، منها “ماريوبول”، وتنبع أهميتها من كونها من المناطق الخاضعة لسيطرة الانفصاليين الموالين لروسيا، فى منطقة “دونباس” وشبه جزيرة القرم، وإذا نجحت موسكو فى السيطرة على “ماريوبول”، ستتمكن من إنشاء ممر بين “روسيا والدونباس والقرم”، ومن ثم السيطرة على “بحر آزوف”، وغيرها من المزايا الإستراتيجية والاقتصادية التى سعت إليها روسيا، وفى ظل الفشل الروسى فى الاستيلاء على “ماريوبول”، كثفت القوات الروسية عمليات القصف وحصار المدينة، وبدأ مسلسل الغزو الروسى يتغلغل فى كافة أرجاء أوكرانيا؛ مدعمًا بالقوة والعتاد العسكرى الروسى.

ختامًا:

نجد أن هذه الملابسات تنقلنا إلى حقيقة مفادها، أن العقيدة العسكرية لروسيا ترتكز على استخدام الأسلحة الثقيلة والقصف الجوى؛ من أجل إحكام قبضتها على أهدافها، كما أن العامل المشترك خلال حروب الشيشان وجورجيا، وحاليًا أوكرانيا يكمن فى رغبة الرئيس بوتين لإعادة إحكام السلطة الروسية قبضتها على كافة الأراضى المحيطة بروسيا الاتحادية، وتوسيع حدود إمبراطوريتها المتجهة جنوبًا؛ لإحكام سيطرتها على البحر الأسود، ثم الاتجاه صوب منطقة المياه الدافئة فى الخليج العربى، والبحر الأبيض المتوسط.

كما تشير بعض التحليلات إلى جنوح صناع القرار فى “الكرملين” عن الانصياع لقواعد القانون الدولى، والتدخل العسكرى فى هذه الدول، ربما يعيد إلى الأذهان، الشعور بالغلبة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، ونجاح حلف الناتو فى الحلول التدريجى فى حياة الدول التى انسلخت عنه، فأصبحت عقيدة قادة “الكرملين” صارمة، وكذا فقد سلط الغزو العسكرى الروسى لـ”غروزنى وحلب وماريوبول” الضوء على الدور المفصلى للقيادة الروسية فى ترجيح كفة النجاح العسكرى لصالح موسكو، فالقوة العسكرية تمتلكها كافة الدول بنسب متفاوتة، ولكن القدرة على توظيف هذه الآلية تكمن فى حسن التصرف والتوجيه.

كلمات مفتاحية