إعداد: شيماء عبد الحميد
في سياق من التوتر المتزايد الذي تشهده العلاقات بين إيران وأذربيجان في الآونة الأخيرة، قررت أذربيجان في السادس من أبريل الجاري، طرد أربعة دبلوماسيين بالسفارة الإيرانية في باكو باعتبارهم أشخاصًا غير مرغوب فيهم، وذلك على خلفية اتهامهم بالقيام بأنشطة لا تتوافق مع وضعهم الدبلوماسي وبتدبير محاولة انقلاب عسكري في البلاد، فيما استدعت السفير الإيراني لديها عباس موسوي حيث عبرت عن استيائها الشديد من استفزازات طهران الأخيرة حيالها، مطالبة بضرورة احترام السياسة الخارجية المستقلة التي تنتهجها أذربيجان على أساس مصالحها القومية، وعلاقاتها الثنائية مع بلدان المنطقة، وقد أثار قرار باكو العديد من التساؤلات بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين والأسباب الكامنة وراء الصدام المتسارع بينهما.
ملامح التوتر بين البلدين
لم يأتي القرار الأذري بطرد دبلوماسيين إيرانيين من باكو بشكل مفاجيء، بل سبقه عدد من مؤشرات التصعيد المتبادل على مدار العامين الماضيين، وخاصةً منذ نهاية حرب ناغورنو كاراباخ الثانية عام 2020، وفيما يلي أبرز مؤشرات التصعيد بين الدولتين:
استفزازات عسكرية متبادلة؛ في كثير من الأوقات تحولت الأزمات السياسية بين طهران وباكو إلى توتر عسكري حدودي بينهما؛ ففي أكتوبر 2021 أطلق الجيش الإيراني مناورات فاتحو خيبر العسكرية شمال غرب البلاد، على الحدود مع أذربيجان بمشاركة ألوية من المدفعية والمدرعات والطائرات المسيرة، لترد أذربيجان باستنفار عسكري كبير على الحدود.
وفي 13 سبتمبر 2022، بدأت أذربيجان بشن هجمات على أهداف في جنوب أرمينيا، للسيطرة على ممر زانجيزور، الذي يقع على الحدود بين إيران وأرمينيا ويربط بين أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان، لتبدأ التوترات من جديد، حيث أطلق الحرس الثوري الإيراني في 17 أكتوبر 2022 مناورات “إيران القوية” في محافظتي أردبيل وأذربيجان الشرقية المتاخمتان لحدودها الغربية مع أذربيجان وأرمينيا، وخلال هذه المناورات، تدربت القوات الإيرانية للمرة الأولى على إقامة جسور عائمة مؤقتة لتدريب القوات والمركبات العسكرية على التنقل عبر العقبات المائية وعبور نهر أراس الذي يشكل قسمًا منه جزءًا من الحدود بين البلدين.
وقد جاء الرد سريعًا من أذربيجان؛ ففي 2 نوفمبر 2022 أطلقت القوات الخاصة الأذربيجانية مناوراتها العسكرية الخاصة “القبضة الأخوية” على الحدود مع إيران، وشارك فيها سلاح الجو وقوات المدفعية الصاروخية ووحدات من القوات الخاصة، وبالتشارك مع القوات التركية، وقد شملت المناورات عبور الدبابات الأذربيجانية الجسور العائمة فوق نهر أراس بالقرب من الحدود مع إيران، ما يعكس ردًا مباشرًا على ما شهدته المناورات الإيرانية.
فرض أذربيجان رسوم على الشاحنات الإيرانية؛ قام وزير الخارجية الأذربيجاني في أغسطس 2021، باستدعاء السفير الإيراني في باكو على خلفية دخول شاحنات إيرانية بطريقة غير شرعية إلى أراضي قره باغ الواقعة تحت الرقابة الروسية منذ نهاية حرب 2020، حيث نجح سائقو الشاحنات في خداع الحرس الروسي باستبدال اللوحات الإيرانية للشاحنات بلوحات أرمينية، ولكن لم يتوقف مرور الشاحنات الإيرانية حتى بعد استدعاء السفير، بل أن حوالي 60 شاحنة إيرانية دخلت قره باغ بطريقة غير مشروعة بين أغسطس وسبتمبر 2021، ولم يكن من باكو إلا أن تغلق الطريق الوحيد الذي يجب أن تمر عبره كل مركبة لتسافر من إيران إلى أرمينيا، ولذلك بدأت السلطات الأذربيجانية بفرض رسوم على الشاحنات الإيرانية المتجهة إلى أرمينيا، عبر طريق جوريس- كابان السريع، حيث تتقاضى أذربيجان من الشاحنات القادمة من إيران والتي تمر عبره رسوم مرور بقيمة 130 دولارًا.
نشاط مخابراتي إيراني في أذربيجان؛ أعلنت باكو مرارًا القبض على أكثر من شبكة بتهمة التجسس والتخابر لصالح إيران؛ ففي 2 نوفمبر 2022 أعلنت أذربيجان اعتقال 19 شخصًا، بدعوى أنهم كانوا يعملون لصالح أجهزة المخابرات الإيرانية، ووفقًا لجهاز أمن الدولة الأذربيجاني، تم نقل أعضاء الجماعة المسماة حركة الوحدة الإسلامية، عبر دول مختلفة إلى طهران وسوريا من أجل الخضوع للتدريب العسكري والحصول على التمويل، حيث كان من المقرر استخدامهم كوكلاء لتنفيذ أنشطة تخريبية في باكو.
وفي 14 نوفمبر 2022، أعلنت أذربيجان توقيف 5 من مواطنيها بتهمة التجسس لصالح إيران، واتهمتهم بجمع معلومات حول الجيش الأذري، بما في ذلك مشترياته من طائرات مسيرة إسرائيلية وتركية، إضافة إلى البنية التحتية للطاقة، فضلًا عن أنه في 31 يناير الماضي، اعتقلت وزارة الداخلية في أذربيجان، 7 أشخاص ضمن عملية خاصة استهدفت مواقع في العاصمة باكو، وعددًا من مناطق البلاد، بما في ذلك في المؤسسات الإعلامية الموالية لإيران “سلام نيوز” و”انتر آز”.
وفي السياق ذاته؛ أعلنت وزارة الداخلية الأذربيجانية في فبراير 2023، اعتقال 39 شخصًا بتهمة القيام بأعمال تخريبية تحت ستار الشؤون الدينية، وفي الأول من أبريل الجاري اعتقلت السلطات الأمنية في أذربيجان ثمانية أشخاص بتهمة التجسس لصالح إيران، أعقب ذلك اعتقال ستة أشخاص أذربيجانيون اتهمتهم باكو بالعمل لصالح الاستخبارات الإيرانية لزعزعة استقرار الوضع في البلاد بالتخطيط لانقلاب عسكري ضد النظام الدستوري في البلاد، وبناءً عليه تم اتخاذ القرار الأخير بطرد دبلوماسيين إيرانيين من باكو.
الهجوم على السفارة الأذربيجانية في إيران؛ في 27 يناير 2023 تعرضت سفارة أذربيجان في طهران إلى هجوم مسلح أودى بحياة كبير مسؤولي الأمن بالسفارة وإصابة فردين، وفيما أعلنت إيران أن الهجوم جاء بدافع شخصي يتعلق بأسباب شخصية للمهاجم، ندد الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف بالحادث مؤكدًا أن باكو تعتبره هجوم إرهابي، متهمًا إيران بتجاهل طلبات بلاده السابقة بضرورة توفير أمن السفارة، بينما اعتبر البرلمان الأذري أن حملات الإعلام الإيراني ضد أذربيجان شجعت على تنفيذ هذا النوع من الهجمات.
وانطلاقًا من موقف أذربيجان من الهجوم؛ أعلنت باكو في 29 يناير وقفًا مؤقتًا لأنشطة سفارتها في إيران، وبناءً على ذلك، غادر الوفد الدبلوماسي برائسة السفير علي علي زاده وموظفو السفارة وعائلاتهم إيران، فيما أبقت باكو على قنصليتها مفتوحة في مدينة تبريز وأنشطتها مستمرة. وفي 31 يناير أصدرت وزارة خارجية أذربيجان تحذير سفر ونصحت مواطنيها بعدم السفر إلى إيران، وتوخي الحذر للمتواجدين من رعاياها في الأراضي الإيرانية.
اتهام إيران بمحاولة اغتيال نائب برلماني أذري مناهض لها؛ تعرض النائب فاضل مصطفى في نهاية مارس الماضي، الذي يُعد من أشد المنتقدين للنظام الإيراني، لمحاولة اغتيال عن طريق هجوم مسلح على محل إقامته في باكو، وقد أكد المتحدث باسم الخارجية الأذربيجانية أيخان حاجي زاده، أن التحقيق الأولي يشير إلى وقوف إيران خلف الهجوم.
أسباب توتر العلاقات بين طهران وباكو
يأتي التوتر المتزايد في العلاقات بين إيران وأذربيجان مدفوعًا باتهامات متبادلة بين الدولتين، تتمثل في قيام كل دولة منهما بعدة خطوات تهدد الأمن القومي للأخرى؛ ويمكن إيضاح دوافع وأسباب التصعيد بين باكو وطهران على النحو التالي:
أولًا: بالنسبة لإيران:
التخوف من النزعات الانفصالية للمناطق الأذرية بإيران؛ تقطن إيران أقلية عرقية أذربيجانية يُعتقد أنها ثاني أكبر القوميات في إيران بعدد سكان يتجاوز 20 مليون نسمة، وبنسبة تُقدر بنحو 22% من إجمالي السكان، وهي تقطن المحافظات الشمالية الغربية من إيران، ويتهم النظام الإيراني، أذربيجان بمنح الانفصاليين الأذربيجانيين الإيرانيين، منصة مدعومة من الدولة، كجزء من أجندة تهدف إلى تأجيج النزعة الانفصالية في شمال غرب إيران، خاصةً بعد حديث باكو عن ما أطلقت عليه أذربيجان الجنوبية، والذي تقصد به المقاطعات التي تقطنها الأقلية التركية الآذرية في إيران، ومن ثم؛ ترى طهران في باكو خطر يهدد وحدة وسلامة أراضيها.
رفض إيران لمشروع ممر زانجيزور؛ أثارت مسألة إنشاء ممر يربط بين أذربيجان وإقليم ناخيتشيفان المحاذي لتركيا والتابع لها في جنوب أرمينيا، على طول الحدود الإيرانية – الأرمينية، حفيظة طهران لما يتضمنه ذلك من حرمانها من مزايا اقتصادية وجيوسياسية عديدة؛ منها: تهميش إيران التي كانت حتى الآن الطريق الرابط بين أذربيجان وهذا الإقليم، سيتم تطويق إيران جغرافيًا لأنه سيعزلها عن أرمينيا ومحيطها الأوراسي، كما سيحرمها من عوائد مرور الصادرات التركية إلى دول آسيا الوسطى، ومن رسوم عبور الشاحنات الأذربيجانية إلى إقليم ناخيتشيفان، أي أنه في حال إتمام هذا الممر، فإن ذلك يعني أنه لا حاجة لاستخدام الأراضي الإيرانية للعبور، بل إن إيران ستضطر لدفع رسوم للسماح بمرور شاحناتها سواء إلى الأراضي الأذربيجانية أو عبر الممر الواقع على الحدود مع أرمينيا.
وما يزيد رفض طهران إلى هذا المشروع أنها تنظر إلى منطقة أوراسيا المركزية، أي آسيا الوسطى والقوقاز، باعتبارها امتدادًا للجيوسياسيا الإيرانية، مما يفرض على طهران الحفاظ والدفاع عن هذا المجال الجيوسياسي الحيوي، وعدم السماح للخصوم الاستفادة منه، ومنع تحويل هذه المنطقة إلى نفوذ جيواستراتيجي للخصوم والمنافسين للدور والنفوذ الإيراني، وهذا الأمر أكدته تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان، الذي حذر في 12 أكتوبر 2022، من أن إيران تعارض أي إجراء لتغيير الحدود المعترف بها دوليًا بين إيران وأذربيجان وأرمينيا، وتصريحات مستشار المرشد الإيراني في الشؤون الدولية علي أكبر ولايتي الذي أكد حساسية منطقة القوقاز بالنسبة لبلاده ورفض طهران أي تغيير للحدود فيها.
تخوف إيراني من تموضع عسكري على حدودها؛ تشهد العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل طفرة هائلة اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا وعسكريًا؛ فعلى المستوى السياسي طبعت باكو علاقاتها مع تل أبيب وأصبح لدى الأخيرة سفارة في أذربيجان منذ 1993، وفي نوفمبر 2022 قررت باكو فتح سفارة لها في إسرائيل لتكون أول دولة ذات غالبية شيعية تتخذ قرارًا من هذا النوع، وبالفعل تم افتتاح السفارة الأذربيجانية في تل أبيب مارس الماضي.
وعلى المستوى الاقتصادي؛ اتجهت إسرائيل نحو نفط أذربيجان وغازها، حتى أصبحت تحصل على ما يعادل 40% من نفط أذربيجان المصدر للخارج، كما توسعت التجارة بين البلدين نحو مجالات اقتصادية عدة حتى بلغ حجم التجارة بين إسرائيل وأذربيجان 200 مليون دولار في عام 2020، هذا إلى جانب افتتاح أذربيجان مكتبًا تجاريًا في تل أبيب في يوليو 2021 ومكتبًا للسياحة في مارس 2022.
أما على المستوى الأمني والعسكري؛ فقد كشفت مصادر إسرائيلية وعالمية عن صفقات سنوية بمعدل مليار دولار كل عام لتزويد أذربيجان بطائرات مسيرة وبأنظمة الأقمار الصناعية الإسرائيلية، وكانت باكو عام 2016 ثاني أكبر مستورد للأسلحة الإسرائيلية، والثالثة عام 2017، وبين عامي 2016 و2020، شكلت إسرائيل 69% من واردات أذربيجان الرئيسية من الأسلحة، وبلغت مبيعات تجارة الأسلحة بين البلدين أكثر من 740 مليون دولار.
وتنظر إيران إلى هذه المعطيات بحذرًا شديدًا، حيث ترى طهران أن إسرائيل تسعى من خلال علاقتها بأذربيجان، إلى تطويقها وخلق موطئ قدم لها على حدودها الشمالية، ما يمثّل لطهران تهديدًا عسكريًا وأمنيًا إستراتيجيًا، خاصةً وأنه يمكن لتل أبيب وعبر المراقبة المباشرة والرصد القريب من أراضي أذربيجان، أن تمتلك قاعدة معلومات استخبارية واستعلامية ضخمة عن الأراضي الإيرانية.
التوسع في العلاقات بين أذربيجان وتركيا؛ تتخوف طهران من تصاعد النفوذ التركي في منطقة القوقاز، وذلك في ضوء علاقات أنقرة الوثيقة مع أذربيجان، واستعادة الرئيس التركي الحديث عن أمة واحدة في بلدين، مما يشير إلى الطموحات التركية لبناء منظومة مصالح تمتد من القوقاز إلى آسيا الوسطى بناءً على العامل القومي التركي، وقد لمست إيران هذا الخطر التركي من خلال الدور الذي لعبته أنقرة في تغيير موازين القوى خلال الحرب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا في سبتمبر 2020 لصالح باكو. وما يزيد من تخوف طهران من النفوذ التركي، أنه في حال إتمام ممر زانجيزور، سيسهم في وصول أنقرة إلى دول وسط آسيا، بالإضافة إلى كونه الطريق الأسرع للوصول إلى الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا، وهو أمر قد يؤدي إلى تآكل النفوذ الإيراني في هذه المنطقة.
ثانيًا: بالنسبة لأذربيجان:
التقارب بين إيران وأرمينيا؛ تتميز العلاقات بين البلدين بالقوة والاستقرار سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي؛ وفي أحدث مؤشرات التقارب بينهما، توجه وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان إلى أرمينيا في 20 أكتوبر 2022، في زيارة استغرقت 3 أيام افتتح خلالها قنصلية في كابان، عاصمة مقاطعة سيونيك في جنوب أرمينيا، وتعكس هذه الخطوة رغبة طهران في إيصال عدّة رسائل، أهمها أن تحالفها مع أرمينيا ثابت ويتجه نحو مزيد من التطوير في العلاقات بين الجانبين، بالإضافة إلى ما يحمله مكان افتتاح القنصلية من دلالة، حيث يقع بالقرب من المسار المخطط لممر زانجيزور، في مسعى لتأكيد إيران أن الحدود مع أرمينيا غير قابلة للتغيير.
وعلى المستوى الاقتصادي؛ شهدت العلاقة بين أرمينيا وإيران تطورًا ملحوظًا خلال الفترة الأخيرة، إذ اتفق الطرفان على إطلاق خط إنتاج للسيارات الإيرانية في أرمينيا بعد مباحثات بين رئيس منظمة التنمية التجارية الإيرانية علي رضا بيمان باك، ونائب وزير الاقتصاد الأرميني ناريك تيريان في 4 سبتمبر الماضي، كما استضافت يريفيان منتدى الأعمال الأرميني- الإيراني، بهدف رفع العلاقات الاقتصادية الثنائية إلى مستوى أعلى، وقد سجل التبادل التجاري بين البلدين نموًا كبيرًا في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، ليبلغ حوالي 307 ملايين دولار مقارنةً بـ 224 مليون دولار خلال الفترة نفسها من عام 2021.
ومن جانبها؛ تتخوف أذربيجان من هذا التنامي الملحوظ في العلاقات الإيرانية الأرمينية، خصوصًا في ظل النزاعات التاريخية بين أذربيجان وأرمينيا، والتي أدت إلى اشتباكات مسلحة متكررة خلال الأعوام الماضية، كما ترى باكو أن علاقة إيران بأرمينيا تحوّلت إلى عنصر الدعم الأساسي الذي تستند إليه أرمينيا ضدها.
التخوف من التمدد الشيعي الإيراني؛ يعكس الصراع بين طهران وباكو حالة من المواجهة بين التشيع القومي التركي الذي تمثله أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية والتشيع الأممي الذي لا يعترف بأي قومية وتمثله إيران ذات الأغلبية الشيعية أيضًا، فأذربيجان تتبنى في دستورها العلمانية بشكل واضح، وفقًا للنموذج التركي، ولهذا السبب حاولت إيران بشكل متكرر على مر السنوات الماضية التأثير في الأكثرية الشيعية داخل أذربيجان، من خلال التوسّع بدعم المنظمات الدينية الأذربيجانية الموالية لطهران، ولهذا بات النظام في أذربيجان يخاف كثيرًا من محاولة إيران خلق بيئة موالية لنظامها داخل المجتمع الأذربيجاني، من خلال استمالة الأوساط المتدنية الشيعية، وإطلاق حالة سياسية إسلامية تتبنى طروحات إيران.
التهديد العسكري الإيراني لأذربيجان؛ تتهم باكو إيران بالسعي إلى الإطاحة بالحكومة وإقامة دولة ثيوقراطية في أذربيجان على غرار إيران، وتعتمد في اتهامها على عدد من المعطيات منها؛ تعيين طهران سفيرها السابق في سوريا مهدي سبحاني سفيرًا جديدًا في أرمينيا، وهي خطوة وصفتها أذربيجان بالاستفزازية التي تحمل رسائل أمنية وعسكرية واضحة، حيث أنها تعكس نية طهران تأسيس منظومة شبيهة بحزب الله في أرمينيا وتحويلها إلى مكان آمن للمقاومة الإسلامية الآذربيجانية الشيعية المناوئة لنظام الحكم في باكو، إذ تُعتبر حركات الوحدة الإسلامية ولواء حسينيون، وهو تشكيل مسلّح يقوده إبراهيم بيلي وهو أذربيجاني منفي يعيش في إيران ويتلقى دعمه وتمويله من الحرس الثوري الإيراني، من أهم التنظيمات العسكرية الأذربيجانية المعارضة التي دعمتها إيران على مدى السنوات الماضية.
إلى أي مدى قد يصل الصدام بين الدولتين؟
الخلاف بين إيران وأذربيجان محكوم باعتبارات عديدة، تتعلق بعوامل جغرافية وديموغرافية واقتصادية وأمنية، فضلًا عن الحساسية الشديدة التي تتمتع بها منطقة القوقاز باعتبارها واحدة من أهم مناطق صراع عدة قوى، على رأسها إيران وتركيا وروسيا، وفي ضوء التطورات الأخيرة، قد تأخذ الخلافات بين طهران وباكو أحد السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول: استمرار التصعيد إلى حد المواجهة العسكرية؛ ويقوم هذا السيناريو على عدة معطيات من بينها: المشاحنات الدبلوماسية التي شهدتها علاقات البلدين في الآونة الأخيرة، المناورات الحربية في المناطق الحدودية المباشرة، الخطاب العدائي المتنامي بين باكو وطهران، إصرار باكو ومن خلفها أنقرة، على تنفيذ الممر الاستراتيجي زانجيزور بين أذربيجان وناخيتشيفان، متجاهلين مخاوف إيران، مما قد يدفع طهران إلى الاندفاع نحو خيار الحرب مع أذربيجان، مع اعتقادها أن مخطط الممر سيجعلها محاصرة في القوقاز، ويؤدي إلى تراجع مكانتها الإقليمية، إلى جانب ما يفرضه ذلك من استدعاء لوجود حلف شمال الأطلسي في تلك المنطقة، يُضاف إلى ذلك، المخاوف الإيرانية المتنامية بشأن الوجود الإسرائيلي على حدودها الشمالية في أذربيجان، وإعطاء تل أبيب امتيازًا لتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية.
ولكن فرص حدوث هذا السيناريو تظل محدودة للغاية، بالنظر إلى الاعتبارات الجيوسياسية للأطراف الدولية والإقليمية المعنية، حيث أن أي مواجهة من شأنها أن تستقطب لاعبين إقليميين آخرين مثل تركيا التي وقعت اتفاقًا للدفاع المشترك مع أذربيجان، وروسيا التي لن تسمح باندلاعه، فضلًا عن عدم رغبة إيران في فتح جبهة جديدة من الصراع في القوقاز، بخلاف التوترات الأخرى مع الغرب.
السيناريو الثاني: التصعيد دون المواجهة؛ ويفترض هذا السيناريو استمرار الجانبين الإيراني والأذربيجاني في التصعيد على مختلف الأصعدة دون اللجوء إلى سيناريو الدخول في المواجهات المسلحة المباشرة؛ فمثلًا على الصعيد السياسي، قد تستمر الحرب الكلامية بين الدولتين، فضلًا على تعميق أذربيجان تحالفها مع تركيا وإسرائيل، في مقابل لجوء إيران إلى تنامي وتعزيز علاقاتها مع أرمينيا وروسيا. أما على الصعيد الاقتصادي، قد ستستمر أذربيجان في تضييقها الطريق على حركة التجارة الإيرانية نحو أرمينيا، مما من شأنه زيادة الضغط على الاقتصاد الإيراني.
وعلى الصعيد العسكري؛ قد تستمر إيران في مناوراتها العسكرية قُرب الحدود الأذربيجانية بكثافة شديدة، فيما تستمر أذربيجان في تنظيم المناورات العسكرية مع تركيا ردًا على استمرارية المناورات الإيرانية، وقد يلجأ الحرس الثوري إلى الضربات المحدودة لبعض الأهداف الأذربيجانية، بنفس الأسلوب الذي تتبعه إيران ضد خصومها في منطقة الشرق الأوسط.
السيناريو الثالث: تجنب المواجهة والاتجاه نحو التهدئة؛ يرى هذا السيناريو أنه من غير المحتمل أن تؤدي كل هذه التوترات إلى اندلاع مواجهة عسكرية بين إيران وأذربيجان، وذلك نظرًا لعدة معطيات؛ منها:
بالنسبة لإيران:
ستتجنب أي مواجهة مع باكو نظرًا لأهميتها الاقتصادية إلى طهران، حيث إن أكثر من 50% من حجم التجارة الإيرانية مع منطقة جنوب القوقاز هي مع أذربيجان، فضلًا عن موقعها بالنسبة للعديد من طرق العبور الإقليمية، بما في ذلك تلك التي تربط إيران بالأسواق ذات الأهمية المتزايدة في روسيا والاتحاد الأوروبي.
وكذلك لا تريد طهران خلق أزمة أمنية أخرى على رأس تلك التي تواجهها بالفعل في الداخل والخارج، حيث إن صراعًا عسكريًا واسع النطاق مع أذربيجان، قد يؤدي إلى إثارة غضب الإيرانيين من ذوي الأصول الأذرية ما قد يفسح المجال لأزمة شرعية أكبر للنظام الإيراني من خلال تفاقم الدعوات المتزايدة للتغيير السياسي.
هذا إلى جانب أن إيران تدرك أنه في حال نشوب صراع عسكري بينها وبين أذربيجان، فإنه من شبه المؤكد أن تركيا ستتدخل بقوة لدعم باكو، ومن شأن هذا التدخل أن يحول الصراع الإيراني الأذربيجاني إلى قلب حلف الناتو، باعتبار تركيا من أهم أعضائه، وهو تطور سيكون سلبيًا للغاية بالنسبة لطهران، هذا إلى جانب أنه من المتوقع أن تعتمد أذربيجان بشكل شبه مؤكد على الأسلحة والاستخبارات الإسرائيلية خلال تلك الحرب، ما يزيد من خطر تحول هذا الصراع إلى حرب بالوكالة تتصاعد مباشرةً مع إسرائيل.
بالنسبة لأذربيجان:
لديها دوافعها ومصالحها الخاصة فيما يتعلق بإدارة التوترات الثنائية وتخفيفها؛ فمن وجهة نظر أذربيجان، قد يدفع تدهور العلاقات مع إيران إلى شراكة إيرانية أوثق مع أرمينيا، فضلًا عن أن مقايضات الغاز الإيرانية تلعب دورًا مهمًا في إمداد نخجوان بالطاقة، وعلى الأقل حتى تنفيذ ممر زانجيزور عبر جنوب أرمينيا، الذي سيربط بشكل مباشر بين البر الرئيسي لأذربيجان وناختشيفان، واستكمال خط أنابيب الغاز أغدير بين تركيا ناختشيفان، سيظل اعتماد أذربيجان الاقتصادي على إيران في هذه المجالات أحد الاعتبارات الرئيسية لسياسة باكو الخارجية.
وبناءً على هذه المعطيات؛ قد يتجه البلدان نحو خفض التصعيد، والعمل من خلال إيجاد آليات لاحتواء التصعيد سواء بصورة ثنائية أو من خلال وساطة قوى إقليمية أو دولية، وقد تلعب موسكو دورًا مهمًا في ضبط التفاعلات بمنطقة القوقاز، والحد دون انجرار الأطراف إلى تصعيد شامل من خلال محادثات (3+3) التي تضم أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، بالإضافة إلى روسيا وتركيا وإيران، للتعاون في جنوب القوقاز، وقد استضافت روسيا الاجتماع الأول لهذا التشكيل الدبلوماسي في 9 ديسمبر 2021.
وإجمالًا:
تشهد العلاقات بين إيران وأذربيجان حالة من التوتر المشتعل، والذي يرتبط بتحولات جيوسياسية هامة في منطقة القوقاز ناتجة عن تغير سياسات قوى إقليمية ودولية تجاه هذه المنطقة وعلى رأسها تركيا وإسرائيل، اللتان تعتبرهما إيران خطرًا استراتيجيًا يمس أمنها القومي بصورة مباشرة، مما قد يدفع طهران إلى اتخاذ خطوات غير محسوبة تؤجج الخلاف بينها وبين جارتها أذربيجان إلى حد قد يهدد باندلاع مناواشات حدودية تنتهي إلى مواجهة عسكرية، وهو خيار تكلفته ستكون كبيرة سواء بالنسبة لإيران أو أذربيجان.