إعداد: رضوى رمضان عبد الفتاح شريف
سعت تركيا دؤوبةً منذ مطلع القرن الواحد والعشرين بإقامة روابط سياسية واقتصادية عبر القارة الأفريقية، من خلال المساعدات والتجارة، كجزء من أجندة توسيع انتشارها بجميع أنحاء العالم، وقاد هذه الأجندة، رجب طيب أردوغان، في البداية كرئيس للوزراء التركي حتى عام 2014، ومنذ ذلك الحين كرئيس للدولة، فقام بتنمية العلاقات مع القادة الأفارقة، وساعد الشركات التركية على الوصول لأسواق جديدة ومشاريع ممولة تضع تركيا حارسًا للثقافة الإسلامية بأفريقيا ذات الأغلبية المسلمة بمحاولتها كسب النفوذ بأفريقيا.
وتجدد التعاون التركي الأفريقي بشكل يثير الحنق عند الغرب خاصةً فرنسا؛ إذ اختتم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأربعاء الموافق 20 أكتوبر، جولة أفريقية استمرت 4 أيام، شملت أنغولا وتوغو ونيجيريا، وكانت أولى ثمار زيارة أردوغان لأنغولا، إطلاق الخطوط الجوية التركية رحلاتها للعاصمة لواندا، اعتبارًا من 27 أكتوبر 2021، كما جرى توقيع اتفاقيات مهمة مع توغو ونيجيريا، وبلغ عدد الدول الأفريقية التي زارها الرئيس أردوغان 30 دولة، وهذه هي المرة الـ 14 التي يقصد فيها القارة السمراء منذ عام 2002.
وفي الجانب الآخر، كانت فرنسا من أكثر الدول انزعاجًا من جولة الرئيس أردوغان لأفريقيا، فوسائل إعلامها لا تكتفي بمتابعة الجولة عن كثب، بل تقدم أيضًا تغطية واسعة بصُحفها، وعلى سبيل المثال، علقت (اللوموند) إحدى الصحف الفرنسية البارزة، على جولة أردوغان، بالقول: “رحلات الرئيس التركي الشرسة للقارة الأفريقية باتت تتضمن عنصرًا أمنيًّا”.
ماهي أجندة التوغل التركي؟
أصبحت “خطة عمل أفريقيا” أحد أهم بنود جدول أعمال السياسة الخارجية التركية في عام 1998، وبدأ التنفيذ الحقيقي لهذه السياسة في عام 2005، عندما أعلنت تركيا “عام أفريقيا”، وتاريخيًّا كان أردوغان أول رئيس غير أفريقي يزور الصومال في عام 2011، وكان البلد الأفريقي آنذاك يرزح تحت وطأة مجاعة مهلكة، ومثّلت هذه الزيارة للرئيس التركي منطلقًا ليتخذ من العمل الإنساني ومن استعطاف مسلمي هذا البلد بدايةً للعمل على توسعة نفوذ بلاده واستعادة ما فقدته الإمبراطورية العثمانية، ولم يكن أمام أردوغان خيارات كثيرة، لكنه سلك الطريق الأقرب لبلوغ هدف أنقرة المنشود وهو حشد تأييد وولاء أفريقي لتركيا، وترسيخ اسمها كقوة منافسة لفرنسا على القرن الأفريقي.
في الواقع، كانت توغلات تركيا بمنطقة الساحل حتى الآن بشكل أساسي تمرينًا على إبراز القوة الناعمة؛ حيث تركز أنشطة تركيا بالمنطقة في الغالب على دعم التنمية والمشاركة التجارية، وصحيح أنها وقعت اتفاقية دفاع مع النيجر العام الماضي، وفي الصومال، وقد أدت المساعدات والأعمال التركية لاحقًا لمزيد من المشاركة العسكرية.
تعتمد تركيا أيضًا بأجندتها للتوغل بأفريقيا على الخطاب الديني مستغلةً حركات الإسلام السياسي بدول مثل (نيجيريا ومالي والنيجر والسنغال)؛ لنسج شبكات نفوذ ومصالح تركية على أراضيها، كما أن الخطاب التركي يلقى قبولًا لدى بعض الأفارقة، لا سيما أن أردوغان يتبنى خطابًا معاديًا للممارسات الغربية واتهامها بنهب ثروات القارة.
كما تتمتع تركيا بميزة أُخرى مهمة وهي عدم وجود ماضٍ استعماري لها بالقارة الأفريقية، بل على العكس من ذلك، لديها سمعة إيجابية بشكل عام، وهذا الأمر على وجه الخصوص سيؤدي لجعل تركيا تتقارب بسهولة مع هذه الدول بالمجال السياسي، والتعاون بمختلف القضايا الإقليمية والعالمية.
ماهي دوافع الصدام التركي الفرنسي بأفريقيا؟
يأتي الاهتمام التركي بأفريقيا بشكل متزايد مع إغلاق الاتحاد الأوروبي أبوابه بوجه أنقرة؛ إذ بدأت الأخيرة بالسعي للحصول على فرص جديدة وتطبيق سياسة نشطة بدول شرق أفريقيا، لا سيما إثيوبيا والصومال، قبل تحوُّل أنظارهما لدول غرب القارة مؤخرًا.
تحقيق الحلم التوسعي التركي
أثار الانفتاح التركي على منطقة الساحل الأفريقي قلق الحكومات الغربية، خاصةً فرنسا التي تخشى وجود تركيا الذي يهدد مصالحها الجيوسياسية، فالنهج العسكري الثقيل بقيادة فرنسا بمنطقة الساحل يتعثر بالفعل؛ حيث أعمال القتل الطائفي والتشدد الإسلامي والإحباط الشعبي من الحكومات التي يُنظر إليها على أنها غير مجهزة لقمع العنف وحماية المواطنين آخذةً بالازدياد، فازدادت الهجمات الجهادية منذ عام 2016 وتصاعد الصراع بين القبائل، وتكافح دول وسط الساحل الثلاث – مالي وبوركينا فاسو والنيجر – للسيطرة على الأراضي، ناهيك عن تأكيد سلطة الدولة بالمناطق التي يتنازع عليها المسلحون، وفي غضون ذلك، يقوم الجهاديون بترسيخ أنفسهم، وتصعيد التمرد بالمناطق الريفية، والاستفادة من المظالم المحلية لتجنيد المقاتلين وتوسيع عملياتهم، وأدت خيبة الأمل من الفشل بوقف انعدام الأمن لظهور مشاعر معادية لفرنسا بعواصم الساحل.
دفعت المشاعر المعادية لفرنسا من جماعات الإسلام السياسي بتركيا – التي لديها علاقة مشحونة مع فرنسا -لتقديم نفسها كشريك أمني بديل؛ ما ساعد بتفاقم التوترات، وتدعم تركيا حركات الإسلام السياسي بالمنطقة وبالشمال الأفريقي، فهي تبحث عن حلفاء جدد بعد سقوط جماعة الإخوان بالسودان، كما لدى تركيا مشروعٌ توسعيٌّ يبدأ من ليبيا متجهًا نحو منطقة الساحل والصحراء وغرب أفريقيا، ومن هناك تستطيع تركيا بالتعاون مع بعض قوى الإسلام السياسي بالمنطقة تغيير موازين القوى عبر التنظيمات المتطرفة التي ترغب أنقرة بنسج خيوط الارتباط بينها في ليبيا.
ومن الدوافع الأُخرى للتمدد التركي الغير مرغوب فيه أوروبيًّا، هو السيطرة على الموارد والثروات وطرق المواصلات، وعلى أكبر عدد من مناجم اليورانيوم والذهب بدول المنطقة، وتأمين الحصول على الطاقة؛ إذ تفتقر أنقرة للموارد النفطية الكافية، وتستورد ما قيمته 50 مليار دولار سنويًّا منها.
مناكفة التقارب الفرنسي اليوناني بشرق المتوسط
يأتي الدافع الآخر للصدام من ملف شرق المتوسط، خاصةً صفقات التسليح الفرنسية اليونانية التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في سبتمبر الماضي، فضلًا عن وجود شراكة إستراتيجية بين الدولتين؛ للدفاع عن مصالحهما المشتركة بالبحر المتوسط، الغني بالاكتشافات البترولية والغازية، وأعلنت فرنسا مؤخرًا عن صفقة دفاع جديدة مع اليونان تشمل المياه المتنازع عليها.
ترى تركيا أن تلك الصفقات تطوق تركيا بشرق المتوسط، خاصةً أن تركيا تحاول فرض سيادتها على منطقة البحر المتوسط، وتحاول إملاء أجندتها على قبرص واليونان؛ لذلك تحاول تركيا إيجاد بدائل أُخرى لمناكفة التنافس الغربي، بالاعتماد على الحديقة الخلفية لفرنسا؛ أي أفريقيا.
سيناريوهات مستقبلية
السيناريو الأول: تزايد احتمالية وقوع صدام تركي فرنسي بظل القلق الفرنسي من انعكاسات الدور التركي بأفريقيا على نفوذها بالقارة الأفريقية، وبصفة خاصة بمنطقة الساحل وغرب أفريقيا، فأي صعود تركي بالمنطقة من شأنه إفساد المصالح الفرنسية الإستراتيجية بأفريقيا.
السيناريو الثاني: يترك الدور التركي تداعيات سلبية تحفز الصراعات خاصةً بظل ازدياد الحركات الجهادية؛ حيث يوجد تقارير غير مؤكدة تشير لوجود اتفاق بين أنقرة وجماعة (بوكو حرام)، وتصدر تركيا من جانبها أسلحة لـ(بوكو حرام) بنيجيريا، وبالتالي قد يؤدي ذلك لتقوية التنظيمات المتطرفة والإرهابية بمنطقة الساحل وغرب أفريقيا، وخلْق بيئة جديدة حاضنة للإرهاب.
السيناريو الثالث: قد تتولد محاولة إعادة إحياء مشروع الإخوان المسلمين بالمنطقة، لا سيما ببعض الدول التي تضم نسبةً معقولةً من الجماعة بضوء التحركات التركية هناك؛ على سبيل المثال ليبيا.
ختامًا؛ منذ وصول أردوغان وحزبه العدالة والتنمية للحكم عام 2002، شهدت الدبلوماسية التركية الأفريقية نقلةً نوعيةً؛ حيث ارتفع عدد سفارات أنقرة بأفريقيا من (12 لـ 42) وهو ما يؤكد محاولة تركيا تعزيز حضورها بأفريقيا الغنية بثرواتها.
مساعٍ حثيثة من قِبَل الجانب التركي لتعزيز العلاقات مع بعض دول المنطقة وتعميق العلاقات مع المنظمات الإقليمية من خلال التحرك على المستويات كافة، واستخدام العديد من الأدوات الفاعلة اللازمة لذلك، وتوقيع المزيد من اتفاقيات التعاون بمختلف المجالات، وتحديدًا الأمنية التي تسمح لأنقرة بالوجود وفتح أسواق جديدة للصناعات التسليحية التركية، الأمر الذي يمثل تهديدًا للمصالح الإستراتيجية للعديد من القوى الإقليمية والدولية بالمنطقة، ويؤثر بالمعادلة الأمنية بالمنطقة حول إيجاد موطئ قدم بهذا الجزء الإستراتيجي من القارة والمساهمة بإعادة هندسة المعادلة الإقليمية بالساحل والصحراء، وذلك بظل إلحاح بعض القضايا التي تتشابك بتحديد علاقة تركيا بالوطن العربي وأوروبا وأفريقيا بطبيعة الحال، مثل تنامي ظاهرة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية بالساحل وغرب أفريقيا، واستمرار أزمة الهجرة غير الشرعية لأوروبا، فضلًا عن مزاحمة بعض القوى الأوروبية بالساحل والصحراء مثل فرنسا.
ومن المؤكد أن المعركة بين تركيا وفرنسا ستشهد فصولًا أُخرى بالمستقبل، ثمة احتمالية متزايدة لاندلاع صِدام فرنسي تركي مستقبلًا، قد يتخذ أشكالًا وتعبيرات مختلفة، بظل تهديد التمدد التركي للمصالح الفرنسية ونفوذها التقليدي بالقارة الأفريقية، وتزايد قلق الدول الأوروبية من التحركات التركية بالساحل والصحراء وغرب أفريقيا بضوء حساسية الملفات التي تهدد الأمن الأوروبي.