د / أحمد الشحات
المدير العام لمركز شاف
لا يمكننا التعاطي مع أي توجه أو سياسة جديدة تتبناها الولايات المتحدة وفي أي اتجاه، بمنأى عن الفلسفة المرنة التى تحكمها سواء نخب حاكمة أو مؤسسات أو أفراد التي تتواكب مع المتغيرات والتفاعلات الدولية ، بشرط ألا يكون خصما من رصيد مصالح الأطراف الأخرى الشريكة لواشنطن، أو على نحو يقوض مشروعاتها للنمو والنهوض والاستقرار، وهو للأسف ما نلمسه فى الواقع، خاصة بالنسبة لمنطقتنا العربية ، التى على الرغم من كل سنوات ترابطها الوثيق مع القوة الأهم في العالم، والذى وصل حد بناء تحالفات استراتيجية، فإن الأخيرة تضع مصالحها ومنافعها فى المرتبة الأولى، فضلا عن مصالح إسرائيل التى صنعها الغرب فى المنطقة العربية وتم ترسيخ وجودها في المجتمع الدولى ، والتي حولتها الولايات المتحدة إلى أداة لتنفيذ سياساتها بالمنطقة ، فى الوقت الذى تبنت فيها موقفاً ينطوى على مفارقة تعطى واشنطن الأولوية لإسرائيل مساحة جغرافية وسكانا، وتعمل على تلبية كل مطالبها السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها ، بصورة تجعلها متفوقة على كل جيرانها العرب، بناء على إتفاق التحالف الإستراتيجى معها، والتى تلتزم فيها بأمنها والحيلولة دون المساس بوجودها .
ومن مرتكزات التفكير الإستراتيجى الأمريكى تجاه المنطقة العربية ترسيخ مبدأ الحفاظ على المصالح الأمريكية ، والإسراع في ملء الفراغات، وحماية حلفاؤها وعلى رأسهم إسرائيل .فقبل أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001م أنتهجت الولايات المتحدة الأمريكية ذريعة حقوق الإنسان والديمقراطية للتدخل فى شئون دول المنطقة العربية لكن بعد أحداث 11سبتمبر أستخدمت الولايات المتحدة الأمريكية إستراتيجية الحرب الوقائية أو الحرب الإستباقية فقامت بإحتلال العراق وغزو أفغانستان وتم تقسيم الدول العربية إلى دول معها ودول ضدها .
فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث الثورات العربية بالتعامل مع كل حالة على حدة وتغيير مواقفها وفق متطلبات الأحداث وبما يضمن لها الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية فى المنطقة هى وحلفاؤها وأصدقائها .
وقد ساهمت بعض المتغيرات فى تغيير السياسة الأمريكية من مرحلة الإنخراط المكثف إلى الإنخراط المرن وتتمثل تلك المتغيرات فى تغير توازنات الطاقة حيث سعت الولايات المتحدة لتحقيق اكتفاء ذاتياً خلال
عام 2020 وهو ما حدث بالفعل ، وأن تصبح دولة مصدرة للنفط خلال الفترة من عام 2025م إلى
عام 2030م، بالإضافة إلى توجه الولايات المتحدة نحو آسيا بهدف العمل على الحفاظ على توازن القوى فى المنطقة الأسيوية بعد أن تركتها فريسة للصراعات والحروب الداخلية التى أوجدتها، وإتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقليص الإنفاق العسكري لها نتيجة تعرض الإقتصاد الأمريكى لأزمات مالية ضخمة وعدم قدرتها على إستنزاف مواردها فى حروب جديدة .
ولا تنفصل التوجهات الأمريكية تجاه المنطقة العربية بعيداً عن إستراتيجيتها الكبرى وثوابتها العامة والتي أشار لها الاستراتيجي (برونو کولسون) حين يقول : ” بقيت الأهداف الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة ثابتة منذ خمسين عاما وهي : القضاء على الخصوم ، الأقوياء منهم او اضعافهم سواء كانوا من الأصدقاء أو الأعداء في سبيل المحافظة على التفوق ، والحفاظ على الأمن القومي والاقليم الأمريكي والمصالح الحيوية في الأقاليم المختلفة.
وتسعى الولايات المتحدة من خلال سياستها التي تبدو مضطربة إلى حد ما توفير البيئة المناسبة والذرائع المتاحة لإحكام سيطرتها على الإقليم العربى والإبقاء على تدخلها السافر وأحياناً المقنن في شؤونها العامة الداخلية والخارجية ، وخلق المبررات والذرائع لتواجدها المباشر والفاعل بهدف تحقيق إستراتيجيتها تجاه المنطقة ، وإن كانت تتسم بالتأرجح ما بين تكثيف التواجد أو محدوديته في إطار الحرص المستمر على الحضور المستمر في المشهد الشرق أوسطى بشكل عام والعربى خاصةً .
إن سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة العربية لم تتغير حتى وإن غيرت التكتيك مع إختلاف الإدارات والتي بدورها ترسخ الثوابت الأمريكية وتدور في فلكها ولكن ويبقى الهدف واحداً بإحكام السيطرة على هذه المنطقة لضمان الحفاظ على مصالحها ومصالح حلفاؤها وأمن إسرائيل ورسم خريطة المنطقة بما يضمن تحقيق تلك الأهداف، والولايات المتحدة لا تخفي ذلك في تصريحاتها الرسمية فما بين ضرب الأنظمة غير المتجاوبة مع السياسة الأمريكية، وتقديم الدعم للدول التى تتعاون معها تبقى الولايات المتحدة غير متنازلة عن تحقيق أهدافها في هذه المنطقة .
على الإدارة الأمريكية الحالية أن تدرك أن استخفاف سياستها بدول وشعوب المنطقة العربية لن يقود إلا إلى مزيد من العنف وعدم الاستقرار ، فالسياسة الأمريكية التى تعتمد على إدامة الأزمات والصراعات فى المنطقة وجعلها تلد أزمات جديدة لتصبح أزمات المنطقة مركبة ومتداخلة وعصية على الفهم والتفكيك ، فالأزمة تلد أزمة وتلد معها سبباً جديداً لاستمرار الهيمنة الأمريكية المباشرة على المنطقة العربية ، وبمثل هذه السياسة تتحقق مصالح الولايات المتحدة وحليفتها الوحيدة في المنطقة إسرائيل .
تعتمد الإدارة الأمريكية مبدأً واحداً هو الدفاع عن مصالحها الإستراتيجية فى المنطقة العربية مستخدمة فى ذلك شتى الأساليب والوسائل المتاحة لديها سواء الأداة العسكرية أو الهيمنة التكنولوجية أو العقوبات الإقتصادية وفق كل حالة على حدة .
وخلاصة ما تقدم، يمكن القول أن الإستراتيجية الأمريكية ، تهدف بشكل أساسى الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، وحماية وسلامة مصالحها الحيوية في الأقاليم المختلفة ، وما تنطوى عليه هذه الأهداف من أهداف سياسية وإقتصادية وعسكرية وأمنية أنما تصب في تحقيق مصلحتها القومية العليا ونزوعها نحو الإمبراطورية والهيمنة على العالم كله، وهو الأمر الذى يستوجب على الدول العربية تبنى إستراتيجيات تصب في المصلحة القومية العربية تحقق أهدافها ومصالحها وتحافظ على هويتها وتاريخها من جانب والقدرة على مواجهة المخططات الغربية بشكل عام من جانب أخر.