أيمن سلامة : مبدأ الإنسانية وحماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة

أيمن سلامة : مبدأ الإنسانية وحماية البيئة أثناء النزاعات المسلحة

يعني لفظ الإنسانية معاملة الأشخاص الذين حُرموا من حريتهم لأسباب تتصل بالنزاع المسلح معاملة إنسانية في جميع الاحوال، و في معناها  العام كل ما يمس الإنسان في جسده وكرامته في زمن السلم وزمن الحرب ، ومن الطبيعي أن تحظى الإنسانية بحظ وافر من قواعد القانون الدولي الإنساني، لأنها تمثل أولي اهتماماته في مجال تحسن حال الجرحى و المرضي العسكريين في الميدان .

عند البحث في مبادئ القانون الدولي الإنساني فمن الضروري الإشارة إلي النص الذي ما فتئت تُستَمد منه سائر مبادئ القانون الدولي الإنساني الأخرى،  وهو ذلك النص الذي وضعه فاتيل دي مارتن (Vettel De Martens)، الذي قدم البرهان على عميق حكمته منذ عام 1899، إذ نص : “يظل المدنيون والمقاتلون في الحالات التي لا ينص عليها في الاتفاقيات، تحت حماية وسلطان مبادئ قانون الشعوب كما استقر بها العرف ومبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام ، لأنه باختصار يشير إلى تحريم كل ما يُخِل بمبادئ الإنسانية والضمير العام وفي كل الأوقات”.

وبرهنت التجربة على عظم أهمية هذا النص الذي أصبح صمّام الأمان والذي من شأنه أن يغطي أية حالة لم تنص عليها قواعد القانون الدولي الإنساني العرفية أو الاتفاقية.

وتفرض أحكام القانون الدولي التالي على الأطراف المتحاربة احترام الضمانات الواردة في مواثيقه، وتقييد أو حظر استخدام وسائل وأساليب معينة في  القتال، وإن كان القانون الدولي الإنساني لا يمنع الحرب، فإنه يسعى إلى الحد من آثارها حرصا على مقتضيات الإنسانية التي لا يمكن أن تتجاهل الضرورات الحربية، وفي المسافة التي تقع بين طرفي هاتين الحقيقتين المتباعدتين، يعمل مبدأ الإنسانية، فمع الإقرار بوجود الحرب واقعياً، تعمل الاعتبارات الإنسانية على الحد من آثارها وتقليل الخسائر الناجمة عنها.

ووصف ستان سلاف أ. نهليك شرط مارتنز بأنه صَمّام الأمان قائلا بأن أكمل تقنين يستطيع أن يتنبأ بكل ما يمكن أن يحدث مستقبلا…. وبيّن أنه كلما تعددت التفاصيل، كلما ازدادت خطورة انطوائها على نقص معين وهكذا ينبغي التأكيد دائما على أهمية القواعد ذات الصفات العامة، ويمكن استخدام” صمام الأمان” في حالة حدوث وضع لم يكن متوقعا على الإطلاق، لا يمكن فيه الاستناد إلى قاعدة اتفاقية مها كانت تلك القاعدة عامة.

وتوضح صياغة مبدأ الإنسانية أو مبدأ مارتنز بهذه العمومية بأن من الصعب تحديد نطاق هذا المبدأ فهو يتعلق بالهجمات العسكرية التي تسبب معاناة غير ضرورية، باستخدام الأسلحة والسموم وما تتركه من آثار مدمرة على الصحة والبيئة البشرية، وعلى الحياة بكل مكوناتها الطبيعية، وعلى كل المستجدات التي تحصل في النزاعات ولم يشملها أو يعالجها أي نظام قانوني دولي. 

و تلتزم الدول بمراجعة مشروعية الأسلحة التي تعتزم استخدامها، وهذا المبدأ الذي ينطبق على الأسلحة الجديدة منصوص عليه في المادة 36 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949، وأحد الأسباب التي تدعو إلى اعتبار أي سلاح غير شرعي هو أنه يتسبب في إحداث “الإصابات المفرطة أو الآلام التي لا مبرر لها”.

وقد عملت اللجنة الدولية للصليب الأحمر فيما يتصل بالأسلحة الكيميائية في وقت مبكر من هذا القرن، كما كان عملها مؤخراً فيما يختص بالألغام الأرضية وأسلحة الليزر المسببة لفقدان البصر مدفوعاً باهتمامها بآثارها المروعة على الصحة.

وقد رجعت محكمة العدل الدولية في رأيها الاستشاري بشأن شرعية استخدام الأسلحة النووية إلى شرط مارتنز، “الذي لا يمكن الشك في استمرار وجوده وقابليته للتطبيق وذكرت أنه أثبت أنه وسيلة فعالة لمواجهة التطور السريع في التكنولوجيا العسكرية”؛ وعلى هذا الأساس أكدت المحكمة أن المبادئ الأساسية للقانون الإنساني تظل منطبقة على جميع الأسلحة الجديدة بما فيها الأسلحة النووية، وذكرت أنه لا توجد دولة تجادل في ذلك وذكر القاضي ویر ما نتري Christopher Weeramantry أن “شرط مارتنز يبين بوضوح أنه توجد وراء هذه المبادئ المحددة التي تمت صياغتها بالفعل مجموعة من المبادئ العامة الكافية لتطبيقها على الأوضاع التي لم يسبق تناولها..”.

ورأى القاضي كوروما Abdul G. Koroma أن انتهاك المعاییر الإنسانية أكثر تطوراً الآن مما كان عليه الحال عندما وضع شرط مارتنز، ولا سيما تطور قانون حقوق الإنسان والحساسية فيما يتعلق بضرورة المحافظة على البيئة، وهذه المبادئ “أصبحت الآن متعمقة في البشرية بحيث أصبحت قواعد أساسية بوجه خاص في القانون الدولي الإنساني”.

 بينما أورد القاضي شهاب الدین تفاصيل أكبر حول شرط مارتنز فقد ذكر أن شرط مارتنز لا يقتصر على تأكيد القانون العرفي، وإنما سمح بمعالجة مبادئ الإنسانية  وما يمليه الضمير العام باعتبارها مبادئ للقانون الدولي التي ينبغي التأكيد عليها في ضوء الأحوال  المتغيرة،  واستشهد بالمحكمة العسكرية في نورمبرغ في قضية كروب، التي ذكرت عن شرط مارتنز أنه:

” أكثر من إعلان إنه شرط عام، يجعل العادات المستقرة بين الأمم المتحضرة، وقوانين الإنسانية وما يمليه الضمير العام جزءاً من المقاییس القانونية التي يجب تطبيقها عندما لا تُغطي أحكام الاتفاقية المحددة حالات معينة… “.

وحفاظاً على مقتضيات الإنسانية يجب ألا تستهدف العمليات الحربية الأعيان والأشخاص الذين لا يشاركون في القتال، ولا أولئك الذين أصبحوا خارج حلبة القتال ؛إذ إن القتال ينحصر في فئة المقاتلين وأن النهي عن الاعتداء يقتضي التوقف عند حدود معينة، ويقتضي العمل بموجب مبدأ الإنسانية أن يكتفي المتحاربين بالأسر بدلا من الجرح، والجرح بدلا من القتل وحماية غير المتحاربين إلى أقصى حد ممكن، وأن تكون الجراح أخف ما يمكن أن تسمح به الظروف حتى يمكن للجريح أن يشفي بأقل ما يمكن من الآلام، وأن يكون الأسر محتملاً بالقدر المستطاع.

نعلم أن مواثيق القانون الدولي الإنساني وضَعت لكل فئة من الفئات المشمولة بالحماية نظام قانوني محدد، لكن منطلقات كل تلك المواثيق وأهدافها واحدة، وهي تقوم على مبدأ المعاملة الإنسانية، وتحظى النزعة الإنسانية بالقبول من قبل الدول التي لا تكون طرفا في الاتفاقيات الدولية لأنها تعبر عن العرف السائد لدى كل الشعوب.

وتخالف الدول في أوقات النزاعات المسلحة على الأغلب مبدأ الإنسانية، وما يتعلق منه بحماية بيئة الإنسان والحفاظ على استقرار وتوازن مكوناتها الطبيعية، ويمثل استخدام بعض الأسلحة المدمرة خروجا على هذا المبدأ، كاستخدام اليورانيوم المُنَضّب في نزاع كوسوفو، فقد استخدمت هذه المادة السامة في العمليات العسكرية من قبل حلف الناتو، وأثيرت مخاوف من التهديدات التي يمكن أن يسببها هذا السلاح للصحة البشرية وللبيئة، واستجابة لهذه المخاوف تم تشكيل لجنة خاصة في 14/أيار/1999 للنظر في امتثال حلف الناتو في عملياته العسكرية، لقواعد القانون الدولي الإنساني من قبل النائب العام للمحكمة الجنائية اليوغسلافيا السابقة، وذلك وفقا للمادة (18) من النظام الأساسي للمحكمة، ثم أعلن رئيس الادعاء إن الناتو يمكن ان يُحَاسب عن استخدام اليورانيوم بوصف استخدامه جريمة حرب، حيث أنه يترك آثاره تمتد لأجيال على البيئة والإنسان. 

كما شكلت القصفات الإسرائيلية المتكررة والعشوائية لقذائف الفسفور الأبيض على مناطق مزدحمة بالسكان في غزة أثناء الحملة العسكرية في أواخر 2008 ما يمكن وصمه بجرائم حرب، وقد طالت الآثار المدمرة لذخائر الفسفور الأبيض المدنيين والأعيان المدنية في غزة.

انتهى تقرير Human rights Watch في هذا السياق إلى أن الاحتلال الإسرائيلي تكرر استخدامه للفسفور الأبيض بشكل غير قانوني فوق أحياء مأهولة بالسكان، مما أدى لمقتل وإصابة المدنيين وإلحاق الأضرار بالأعيان المدنية، ومنها مدرسة وسوق تجاري ومخزن للمساعدات الإنسانية ومستشفى.

كما تمثل الألغام المضادة للأفراد المدفونة في الأرض أو “ذات رأس صاعق” من بين الأسلحة التي تسبب معاناة غير ضرورية، وهذه الأسلحة هي الوحيدة التي ينتشر استخدامها وتؤدي إلى إحداث إصابات جسيمة وتنتج عنها إعاقة محددة ودائمة، ويتطلب علاج الإصابات في المتوسط إجراء ضعف عدد العمليات ونقل أربعة أضعاف كميات الدم التي تتطلبها الإصابات الناجمة عن الأسلحة الأخرى.

وقد رأت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن استعمال أسلحة معينة كالأسلحة البيولوجية للتسبب بأضرار لا يمكن السيطرة عليها بعد عملاً إجرامياً ومنافية لمبدأ الإنسانية، ويتضمن ذلك الاستعمال:

  1. النشر المتعمد للأمراض الموجودة مثل حمى التيفوس والجمرة الخبيثة والجدري للتسبب في وفاة السكان أو إصابتهم بالأمراض أو تخويفهم.
  2. تغيير العوامل الخاصة بالأمراض الموجودة بالفعل، مما يجعلها أكثر خبثا كما حدث عن غير عمد في البحوث التي أجريت على فيروس “جدري الفئران”.
  3. خلق عناصر مستجدة للحرب البيولوجية تستخدم بالاقتران بأمصال مماثلة للقوات أو السكان الخاصة بأحد الأطراف، مما يمكن أن يضاعف من جاذبية الأسلحة البيولوجية.

4- خلق عناصر بيولوجية يمكن أن تؤثر على تكوين الجينات البشرية وملاحقة الأشخاص عبر الأجيال والتأثير الضار على التطور الإنساني ذاته.

ويتضح أخيرا من خلال دراسة مبدأ الإنسانية أن هذا المبدأ يمكن أن يوفر حماية البيئة من خلال: منع استخدام أسلحة معينة في الميدان تسبب معاناة لا مبرر لها تمتد إلى البيئة وتسبب أضراراً بعيدة المدى كالأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية…. كما أن إدماج عبارة (الضمير العام) ضمن صياغة نص مبدأ الإنسانية كأساس يتعلق بالوعي الإنساني بالمخاطر التي تواجه البشرية، يترك كل إمكانيات التطور القانوني مفتوحة مما يمكن أن يساعد في تبني آليات قانونية قادرة على الاستجابة السريعة لكل التطورات التي تحدث في ساحات القتال.

 

كلمات مفتاحية