إدلب ساحة الصراع التركي الروسي تعود لدائرة الحدث

إعداد: رابعة نورالدين وزير

عادت إدلب مؤخرًا لواجهة الحرب السورية، بعد فترة من الهدوء والاستقرار النسبي لمدة 18 شهرًا، وذلك على أثر توقيع الجانب التركي والروسي اتفاق وقف إطلاق النار في مارس 2020، وبعد مرور هذه الفترة، عادت المواجهات بين الطرفين بمنطقة إدلب مرةً أخرى؛ حيث تشهد المدينة أحد أكبر عمليات الحشد العسكري بالميدان السوري، فقد أرسلت تركيا تعزيزات عسكرية ضخمة؛ ووصل عدد الآليات التركية الموجودة بسوريا حتى أكتوبر 2021 لحوالي 556 آلية عسكرية، على سبيل المثال؛ قطع المدفعية والمدرعات وناقلات الجنود وغيرهم، وتوزعت هذه الآليات بعدة نقاط، تمثل نقاط قوة الجانب التركي وقواعده، مثل منطقة (رأس العين- تل أبيض- عين عيسى).

ولم يقف الجانب الروسي مكتوف الأيدي، بل واصل عمليات تحشيد على المستوى البري ببعض المناطق، مثل؛ جبل الزاوية بمدينة إدلب، وكذلك مناطق شرق الفرات، بالقرب من نقاط التماس مع الفصائل السورية المسلحة الموالية للجانب التركي، ومواقع الجيش التركي هناك، فقد أجرت القوات السورية والروسية مناورات في بلدة “تل تمر” بأقصى شمال الحسكة، خلال الأسبوع الماضي؛ لذا أرسل الجيش السوري تعزيزات أيضًا لمناطق التماس مع المجموعات الإرهابية والمسلحة بريف إدلب،  شملت مدرعات وآليات عسكرية ومئات الجنود والضباط؛ لذا نجد أن إدلب تشهد تحركات موسعة من جوانب عدة، ويمكن أن تؤدي هذه التحركات لمجموعة من السيناريوهات بشأن الوضع.

وعليه فنتناول بهذه الورقة أبرز المستجدات فيما يتعلق بالصراع التركي الروسي بسوريا، وأهم مظاهر التصعيد من كل جانب؛ للخروج بسيناريوهات مستقبل التنافس ومصير سوريا منه.

قراءة في التطورات الأخيرة بإدلب

على خلفية قيام الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ونظيره التركي “رجب أردوغان” بمباحثات “سوتشي” للحوار حول الوضع بسوريا، والاتفاق على خريطة طريق بشأن الوضع بمحافظة “إدلب” بالشمال الغربي من سوريا؛ للعمل عليها، وقد تناول اللقاء الحديث حول إيجاد حل نهائي ومستدام للأزمة السورية، مع التأكيد على التزام الطرفين بالاتفاق التركي الروسي بشأن الوضع بالشمال الشرقي من البلاد، وفيما يتعلق بإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية المسلحة – التي تصنفها تركيا على لوائح الإرهاب بالمنطقة- أكدت تركيا التزامها الكامل بما انتهت إليه هذه المباحثات، والتأكيد على الالتزام بمخرجات “سوتشي” 2018، إضافةً لتناولهم الحديث حول دعم العلاقات الثنائية بين البلدين على الصعيد التجاري، ودعم الاتجاه نحو التعاون على المستوى العسكري، وأخيرًا تناولت المباحثات الحديث حول ملف الأزمات الإقليمية، وشمل (أفغانستان- ليبيا- الوضع بمناطق التماس الأذري الأرميني).

وتعتبر هذه الخطوة مهمة بحسم الصراع التركي الروسي بسوريا، ولكن عمليات التحشيد العسكري التي شهدتها سوريا، تؤكد أن قمة “بوتين” “أردوغان”، انتهت دون التوصل لاتفاق جديد بشأن الوضع بسوريا، وإنما كانت مجرد تأكيدات على الاتفاقات السابقة بين الطرفين، وهذا لايعني تنازل أي من الطرفين على الاتفاقات المنصوص عليها مسبقًا، خاصةً الجانب الروسي في تأكيده بضرورة الفصل بين المعارضة المتطرفة والمعتدلة، وإنشاء الممر الآمن بمحيط الطريق الدولي؛ ما يعني رغبة الجانب الروسي حسم الوضع وإمهال الطرف التركي فرصة أكبر لتنفيذ ما التزم به باتفاق موسكو 2020، المكمل لاتفاق “سوتشي” 2018،  وقد أشار وزير الخارجية الروسي باجتماعه مع وزير الخارجية المصري، أنه كلما أسرعت تركيا بالقضاء على التنظيمات الإرهابية صار الوضع أفضل؛ ما يؤكد أن المباحثات الأخيرة جاءت بصيغة تأكيدية على ما سبق الالتزام به.

وقد ظهرت معالم هذه الصيغة بالتكتيكات الروسية المتبعة قبل أي عملية هجومية داخل الأراضي السورية؛ حيث تم الحديث عن التنظيمات المتطرفة والمسلحة بسوريا، وضرورة القضاء عليها بشكل عاجل، كجزء من الحل المستدام للأزمة السورية، مع التأكيد على ضرورة التزام الطرف التركي بتنفيذ بنود الاتفاقيات الموقعة، التي تقضي بمسؤوليته عن تطهير الأراضي السورية من التنظيمات المسلحة الإرهابية.

ولم تتوقف اللقاءات بين الجانبين منذ انتهاء هذه القمة (بوتين- أردوغان) سبتمبر 2021، بل التقت وفود الدولتين عدة مرات بإدلب بسوريا، ولكن لم ينتج عن هذه المحادثات أي اتفاقات جديدة، بل مجرد تأكيد على الالتزام بما سبق التوقيع عليه، وهنا ننتقل لتحركات الجانبين باتجاه التحشيد بسوريا، وأهم مظاهره ودوافعه.

إدلب من التهدئة للتحشيد العسكري

شهدت سوريا تحركات عسكرية من الجانب الروسي والتركي بمحافظة إدلب، تم على أثرها نقل معدات عسكرية ضخمة من الطرفين لأهم المواقع الإستراتيجية ونقاط التماس مع التنظيمات المسلحة، على أثر تضارب مصالح الطرفين بالشمال السوري؛ حيث يرى الجانب الروسي أن تعامل تركيا مع الوضع بالشمال السوري، لا يمهد لحل الأزمة بشكل كامل، ولا يحقق الالتزامات التركية السابقة، وتتبنى روسيا وجهة النظر هذه؛ لعدة أسباب يمكن ذكرها كما يلي: –

  • الرغبة الروسية بإعادة استثمار الوضع الحالي؛ لتشكيل المشهد السياسي السوري برمته؛ لنزع اعتراف بنهاية مشروع إسقاط النظام السوري، وما يتبعها من ضرورة اعتماد مقاربة جديدة للتعاطي مع الملف، وتأتي هذه الفرضيات من منطلق وجود صمت دولي وتفهم إقليمي للمتغيرات الأخيرة، المتعلقة بعودة سلطة الدولة على الأراضي الخارجة عنها – سيطرة القوات السورية على الجنوب السوري- وبالتالي، فإنها تريد إدخال محافظة “إدلب لنفس الدائرة”؛ للتخلص من وضع التجميد الذي أثبت فشله وسلبيته، إضافةً لرغبتها بإخراج المعارضة من دائرة التأثير بالملف السوري وإضعاف موقفها التفاوضي؛ ما يمنح الجانب الروسي سيطرةً أكبر على الملف، بما يخدم مصالحه وتطلعاته، بوسط ضعف تفاعل القوى الدولية مع الملف، وأخيرًا محاولة استثمار المتغيرات التي طرأت على الموقف الأمريكي والمتمثلة بتطور الحوار الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، باستغلال الخلاف بين تركيا وأمريكا لصالح القضية السورية.
  • رغبة روسيا بإدارة المساعدات الإنسانية بسوريا، من خلال معبر “باب الهوى” بالشمال، فقد سبق عملية التصعيد الأخيرة حوارًا حول المساعدات الإنسانية لسوريا، وهو ما يؤكد رغبة روسيا بالتلويح بإمكانية السيطرة على ممرات المساعدات الإنسانية لسوريا؛ للدفع نحو الوصول لتسوية بشأن الشمال الغربي.
  • إتاحة فرصة لتصفية العناصر القوقازية المنضوية تحت مظلة “هيئة تحرير الشام” – جبهة النصرة سابقًا- والعناصر المنتمية للحزب الإسلامي التركستاني والعناصر التركستانية النشطة بسوريا.

في حين يرى الجانب التركي، أن منطقة الشمال شديدة الحساسية، ويجب أن تكون التحركات فيها مدروسة، لأن أي خطأ سيترتب عليه نزوح ما يزيد عن مليون سوري بالشريط الحدودي بين تركيا وروسيا، وبالتالي يهدد أمنها القومي بشكل مباشر؛ لذا قامت بعمليات التحشيد الأخيرة لتحقيق ما يلي: –

  • قيام السلطات التركية بدفع عمليات التحشيد الأخيرة للشمال السوري، والتي بدأت من نقاط رئيسية، أهمها؛ (تل رفعت- منبج- عين عيسى- الحسكة)؛ لرغبتها بالسيطرة ميدانيًّا على الشريط الحدودي مع سوريا؛ لحماية أمنها القومي المهدد حالة النزوح.
  • تعتبر المنطقة التي دعمتها السلطات التركية عسكريًّا، آخر مناطق النفوذ الكردي المتنامي على الحدود بين سوريا وتركيا، وبالتالي، فإن سيطرتها على هذا الشريط، يمثل عنصر قوة بالتحكم في الإمدادات المقدمة للجماعات المسلحة، ودعم رؤيتها بالتغيير الديمغرافي، فيما يخص اللاجئين السوريين بتركيا في هذه المنطقة، وهو هدف كبير، بذلت لأجله أربع عمليات عسكرية سابقة بالشمال السوري، هم؛ (درع الفرات- غصن الزيتون- نبع الزيتون- درع الربيع).

وقد شكلت التحركات الروسية مؤخرًا ضغوطًا كبيرة على الجانب التركي؛ ما دفعه للقيام ببعض التكتيكات؛ بهدف تفادي التصعيد الروسي، ومحاولة لإدارة الأزمة.

الجهود التركية لتعزيز التواجد الميداني بالشمال السوري

  • عملت على دمج “هيئة تحرير الشام بإطار قوات المعارضة، التي تشرف عليها تركيا؛ تنفيذًا لمخرجات مباحثات “سوتشي” 2018، البند المتعلق بعزل الفصائل المتشددة، وقد أصدرت لتحقيق هذا الهدف العديد من القرارات والتصريحات من الجيش الوطني؛ لدعم اندماج هذه الفصائل.
  • العمل على إعادة تشكيل فصائل المعارضة السورية بشكل غرف عمليات، على سبيل المثال؛ (غرف عمليات عزم، التي ضمت خمس فصائل مسلحة كبري بالشمال السوري)، وكان الهدف من هذه الاندماجيات مساعدة الفصائل بالتصدي لأي هجوم، قد يشنه الجيش السوري، ولكن هناك مشكلة تواجه هذا النوع من الدمج، تتعلق بانتشار الولاءات التحتية.
  • العمل على إرسال التعزيزات الأمنية؛ لدعم التواجد الميداني بالشمال، ونشر القوات والمعدات العسكرية على مواقع التماس مع الجيش السوري وفصائل المعارضة.
  • محاولة التلويح بورقة النازحين وإمكانية تدهور الوضع الإنساني بحال حدوث اجتياح لمحافظة “إدلب”، إضافةً لمحاولة تقديم امتيازات، ودفع العلاقات مع روسيا بالمجال الدفاعي والتجاري ومجال الطاقة.

وتعتبر محاولة تركيا لإدارة الأزمة غير مجدية بصورة كبيرة، وسط رغبة الجانب الروسي حسم الوضع بالشمال السوري، بشكل نهائي دون اللجوء لحلول مؤقته؛ لأنه يرى أن الفرص الدولية والإقليمية والمستجدات الحالية تعتبر من أنسب الظروف لفرض وجهة النظر الروسية بملف الأزمة السورية؛ لذا تقاطعت رؤية الطرفين؛ ما ينذر بمجموعة من السيناريوهات حول الأزمة.

إلى أين يتجه الوضع بإدلب

السيناريو الأول: الاتجاه نحو تصعيد محدود

يذهب هذا السيناريو لإمكانية حدوث تصعيدات محدودة بين الجانبين، من خلال دفع القوات الروسية؛ للسيطرة على مناطق نفوذ الفصائل المعارضة، بحيث لا يحدث صدام مباشر مع القوات التركية؛ للحفاظ على هدف روسيا بعدم الرغبة في تصعيد العداء مع الجانب التركي، وقد يؤدي هذا التصعيد بهذه المحدودية لتمكين روسيا فرض وجهة النظر بملف إدلب، مع تقديم بعض التنازلات المتعلقة بالانسحاب من بعض المناطق؛ حتى لا تظهر بمظهر المتفرد بالحل بإدلب، وقد يؤدي هذا السيناريو لحدوث مواجهات مشتركة بين القوات الروسية والتركية، ولكن غير مرجحة في ظل الوضع التركي الداخلي المتردي؛ نتيجةً للتدخلات بسوريا وانعكاسها على الوضع الاقتصادي، ولكن يعتبر هذا السيناريو هو الأقرب للتحقق، وما يؤكده، المناوشات والتحركات التي تتم بين النقاط العسكرية لكلا الطرفين.

السيناريو الثاني: صدام عسكري واسع المدى

قد يؤول الوضع بالشمال لصدام عسكري واسع المدي بين الجانبين، بحيث تقوم روسيا بشن هجوم على مناطق إدلب بالكامل؛ بغرض تطهير المدينة من الفصائل المسلحة والإرهابية؛ ما يدفعها للدخول بمواجهات مشتركة مع الجيش التركي، وينتج عنه سيطرتها بشكل كامل على مناطق إدلب؛ وإجبار تركيا على الرضوخ لمطالبها، وفرض وجهة نظرها بملف الأزمة السورية، ويعتبر هذا السيناريو من أخطر السيناريوهات على المستوى الإنساني والأمني، ولكن قد يحدث بحال اشتداد حدة الاشتباكات بين القوات بالشمال.

السيناريو الثالث: تقديم تركيا تنازلات

يقضى هذا السيناريو بقيام السلطات التركية بتقديم تنازلات، فيما يخص الانسحاب بشكل جزئي من بعض المناطق بإدلب، وحث الفصائل المسلحة على إخلاء الطريق الدولي، أو تخفيف الوجود بهذه المنطقة، ولكنه سيناريو غير مرجح بظل حجم التحشيد العسكرية التي تقوم بها تركيا بالشمال السوري.

الخاتمة

توضح المؤشرات الحالية للوضع بسوريا لفشل المفاوضات الروسية التركية حول حسم ملف إدلب، كما أنها تشير لتراجع السلطات التركية عن فرض سيطرتها بالعديد من مناطق، وحصرها بإطار التصعيد الشامل، بما يؤثر على موقفها التفاوضي ، إضافةً لضعف حضورها بهذا الملف؛ نتيجةً للتأثيرات الاقتصادية الداخلية جراء العمليات العسكرية التي تخوضها بسوريا، يقابل هذا موقف روسيا الواضح بشأن ضرورة حل الأزمة بشكل جذري ومستدام، باستغلال التغيرات الإقليمية والدولية.

 

 

كلمات مفتاحية