إشكالية العلاقة بين الجيوش الموازية والدول الراعية لها.. الحرس الثوري الإيراني نموذجًا

إعداد: شيماء عبد الحميد

باتت القوات المسلحة غير النظامية والتي تُعرف باسم الجيوش الموازية أو البديلة، تحديًا معقدًا في المشهد الجيوسياسي المعاصر، إذ لم تعد الجيوش الوطنية هي المحتكر الشرعي الوحيد للقوة العسكرية، وخير دليل على ذلك؛ ما يحدث في السودان جراء تمرد قوات الدعم السريع، فضلًا عن محاولة التمرد الفاشلة التي قادتها قوات فاجنر ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهذا يستدعي تركيز الضوء على عديد من التساؤلات؛ منها ماهية أدوار هذه القوات وأسباب ظهورها كفاعل هام على الساحة السياسية الدولية، إضافة إلى علاقتها بالدولة الراعية لها ودوافع حالات تمردها المتكررة، إلى جانب احتمالات أن تحذو الجيوش الموازية المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط حذو قوات الدعم السريع وقوات فاجنر.

النشأة وعوامل الظهور:

القوات غير النظامية هي جماعات مسلحة أُنشأت لتأدية أدوار أمنية محددة، لكنها لا تخضع لسلسلة السيطرة والقيادة الخاصة بالقوات المسلحة النظامية، وتبدو تلك الكيانات أكثر قابلية للتعبئة السريعة من الجيوش النظامية، فضلًا عن أن تشكيلها يجعلها أشد قابلية للإذعان والامتثال لقائد محدد أو للنظام الحاكم، حيث تتألف عادةً من أفراد يجمعهم انتماء إثني أو عرقي أو عقائدي واحد.

وشهدت السنوات الأخيرة الماضية تعاظم تأثير القوات المسلحة غير النظامية في عدد من دول العالم، وعلى رأسها دول عدة بالشرق الأوسط، التي شهدت ميلاد أو تزايد تأثير جيوش مصغرة أو قوات مسلحة صغيرة، تتسلح بأسلحة خفيفة وثقيلة ولها قواعد للتدريب وتتبنى استراتيجيات دفاعية وهجومية في مسارح عمليات مختلفة، وتمزج بين الوسائل التقليدية والحديثة بما يجعلها قوة مناوئة للجيوش النظامية، فيما يشبه مجازًا “جيوش قطاع خاص” بالمنطقة.

كما عززت التكنولوجيا قدرات وفاعلية الجيوش الموازية من خلال خفض تكاليف الأسلحة المتقدمة، كسلاح المسيرات، ووفرة تكنولوجيات الرصد والتعقب وبناء منظومات تجسسية خاصة؛ ما يمنح هذه القوى قدرات تدميرية لم تتوافر في السابق إلا للدول والحكومات، وقد أدى انخراطها في ميدان الحرب الإلكترونية وأنشطة التعبئة والتجنيد إلى توفير وسائل خفية جديدة لإلحاق الضرر بأعدائها من دون الدخول إلى ساحة المعركة، ويزيد كل ذلك من فاعليتها وإحساسها بالقدرة على الاستقلال عن الدول الراعية لها.

وقد سيطرت هذه القوات على مساحات جغرافية في مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة بدول كبرى، وتمتلك موارد اقتصادية وقدرات تسليحية، ويضاهي تدريبها تدريب الجيوش التقليدية وتعلوها بالكفاءة والإمكانات العسكرية، وتدير علاقات مع دول وفاعلين خارجيين، ومنها حزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والحرس الثوري في إيران، وقوات الدعم السريع في السودان، وقد توسعت هذه الظاهرة مع انتشار الفوضى والحروب والنزاعات.

ونظرًا لكفاءة وفاعلية هذه القوات غير النظامية؛ أصبحت وسيلة هامة تلجأ لها الدول لتنفيذ مصالحها وسياساتها الخارجية، ومن ثم؛ فإن هناك عدد من الدوافع والأهداف التي تؤدي إلى نشأة هذه القوات، من بينها:

  • وجود خطر داخلي يهدد النظام الحاكم، مثل الاحتجاجات، فتظهر تلك الكيانات باعتبارها وسيلة ملائمة لمجابهة التهديدات التي قد تعجز الجيوش النظامية عن التعامل معها.
  • ممكن أن تكون واحدة من الأذرع التي تقاتل بالنيابة لصالح أطراف القوى الإقليمية أو الدولية في النزاعات والحروب، وبالتالي تعزيز النفوذ الإقليمي من خلال نهج غير مباشر وأقل تكلفة.
  • غالبًا ما تكون أقل كلفة وأكثر ليونة من قوات الأمن النظامية، حيث تتمتع بمعرفة محلية أكبر، مما يتيح لها أن تنشط بفعالية في المناطق حيث لا تستطيع قوات الأمن النظامية العمل.
  • تميل بعض الدول لاستخدام الجماعات المقاتلة المتمتعة بالاكتفاء الذاتي؛ كونها تسمح لهذه الدول بفرض خسائر وتكاليف أكبر على أعدائها.
  • تفسر أزمة الدولة القومية في بعض البلدان العربية، وجود الجيوش الموازية جزئيًا؛ حيث أفضى العجز في شرعية الدولة وعدم قدرتها على القيام بوظائفها الأمنية وانهيار سلطتها المركزية، إلى عجز هذه الدول فيما يخص احتكار القوة المسلحة.
  • غالبًا ما تكون هذه القوات ذات تأثير مدمر وطويل الأمد على التراكيب السكانية والبنى الاجتماعية، كما أن الحكومات الراعية لها متحررة في الغالب من عبء التبعات القانونية للجرائم التي ترتكبها هذه الجيوش الموازية، في حين أن الحكومات هي نفسها من يحرضها على جرائم تتجنبها الدول في العادة.

دوافع التمرد وأساليب التعامل:

طالما تتلاقى مصالح القوات غير النظامية مع مصالح الدول الراعية لها، فإنها تتجنب تحدي هذه الدول أو الإطاحة بأنظمتها، بل يمثل حفظ الوضع القائم الهدف الرئيسي لمعظم تلك القوات، ولكنها قد تعمل في بعض الأحيان على تجاهل الدول الراعية لها أو تقوم بمهامها كمؤسسات بديلة، وهذا يرجع لعدة أسباب؛ منها:

  • تحصل هذه القوات على منافع ومميزات لا يريدون خسارتها، ويعتقدون أنها صارت حقًا مكتسبًا لهم، وقادتها يرون أنهم الأجدر بحكم البلد بأكمله بعد أن كانوا مجرد قادة في الظل، وبالتالي تسعى لتوسعة نفوذها وإبعاد منافسيها، حتى ولو على حساب التصادم المباشر مع رعاتها أو المتوافقين معها.
  • تعتمد الجيوش الموازية على حصيلة ما تحصل عليه من ثروات البلاد بشكل غير مشروع لدعم قواتها وتسليحها، فهي تسعى إلى تأسيس دولة داخل الدولة، فتصبح تعيش على مقدرات الدولة وعلى جبايات تفرضها على سكان المنطقة التي تعيش فراغًا أمنيًا، ومن ثم؛ تأخذ هذه القوات ثلاثة أدوار في الاقتصاد الموازي للدولة؛ احتكار مؤسسات الدولة بالسيطرة على إدارة الموارد، فرض الإتاوات والضرائب والاستيلاء على الجمارك وإحكام السيطرة على منافذ المعابر الحدودية والتجارية، والقيام بالعمليات غير المشروعة من تهريب السلاح والنفط وغسيل الأموال، وتصبح تلك المكاسب الاقتصادية دافعًا لتمردها مع مرور الوقت.
  • فقدان الجيش النظامي في أي دولة ميزة احتكار السلاح، يجعل القوات غير النظامية في موضع قوة ونفوذ لا تستطيع الدولة تحديه، ويضعها على حافة خطر داهم، مثلما وقع في حالة قوات الدعم السريع في السودان التي تخوض حاليًّا حربًا ضد الجيش النظامي.

وما يزيد الوضع تعقيدًا؛ القصور الفادح في الآليات القانونية القوية للتعامل مع القوات غير النظامية التي ترعاها الدول، حيث تتطلب هذه الظاهرة لمواجهتها جهدًا عالميًا متكاملًا يشمل الإصلاحات القانونية وآليات المساءلة والاستراتيجيات المتعددة الأوجه لإدارة وتخفيف المخاطر التي تشكلها هذه الجيوش، فضلًا عن حاجة الدول إلى ابتكار استراتيجيات شاملة تشمل تدابير دبلوماسية واقتصادية وعسكرية.

وإدراكًا لخطر هذه القوات التي أنشأتها؛ طبقت بعض الدول مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات في التعامل مع التنظيمات شبه النظامية، بدايةً من توظيف القوة العسكرية في مواجهة تلك الفواعل المسلحة أو على الأقل تقليص قدراتها والمخاطر التي تثيرها، ومرورًا بإعادة إدماج تلك الكيانات في القوات المسلحة النظامية، ووصولًا إلى التعايش معها حيث تقبل بعض الدول تلك الفواعل إما لعجزها عن نزع سلاحها أو لرغبتها في تجنب مواجهة يمكن أن تقود إلى حرب أهلية.

وفيما يخص الإدماج؛ فإنه جدير بالذكر أن دمج القوات المسلحة غير النظامية في بنية الجيوش الوطنية وامتصاصها في الجيش النظامي، يثير الكثير من الإشكاليات والتحديات والمخاطر المحتملة بالنسبة لتماسك المؤسسة العسكرية وهيكلها التنظيمي وكفاءتها في العمليات؛ ومن تلك الإشكاليات:

  • عملية الإدماج مكلفة تتطلب استثمار الموارد اللازمة، وتأمين دعم أفراد الجيش النظامي، وبالنسبة للعديد من الدول التي تخرج من خضم حرب مكلفة، تتسم الموارد المالية والسياسية بالندرة، وبالتالي تكون تكاليف الإدماج ضخمة على نحو يُصعب على الحكومات تحملها.
  • في بعض الحالات، ترى بعض هذه القوات قدرًا ضئيلًا من المنافع جراء الانضمام للقوات المسلحة النظامية، ومن ثم تختار البقاء خارج الهيكل الرسمي للمؤسسة العسكرية.
  • تعيق القدرات التنظيمية الضعيفة لبعض الجيوش، قدرتها على السيطرة على قوات تتسم بطبيعتها بالعنف والجموح، حيث يثير إدماج تلك الكيانات مخاطر تعريض تماسك الجيش للخطر وربما تفككه بما قد يفضي إلى انهيار الجهاز العسكري الرسمي تمامًا.
  • يعني دمج هذه القوات في الجيوش النظامية، حصولهم على الخبرات وعلى السلاح والمال، والأكثر خطورة هو أن ولاءهم يكون إلى أحزابهم وأيديولوجياتهم وليس للدولة، ما يترتب عليه إضعاف المؤسسات الدولة الرسمية العسكرية والمدنية.

ومن ثم؛ إدماج التنظيمات شبه النظامية في بنية القوات المسلحة النظامية يتوقف على العديد من الاعتبارات؛ مثل خلق القبول الكافي من جانب الضباط لإدماج تلك الكيانات، واستعداد تلك الجماعات نفسها للانخراط في القوات المسلحة النظامية، ومدى توافر الشرعية لهذا الإجراء في نظر مختلف القطاعات المجتمعية، وهي أمور يجب أن تُؤخذ كلها بعين الاعتبار عند تصميم استراتيجيات فعالة لإدماج تلك الفواعل المسلحة.

الحرس الثوري الإيراني نموذجًا:

من الجيوش الموازية التي لها تأثير كبير في منطقة الشرق الأوسط، وتُعد تجربة مهمة ومختلفة هو الحرس الثوري الإيراني الذي أنشأته طهران بغرض تنفيذ سياساتها الخارجية خدمةً لمشروعها التوسعي الإقليمي، وحماية النظام الداخلي من أي مخاطر قد تهدد وجوده واستقراره؛ وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:

أ. التأسيس؛ تأسس الحرس الثوري الإيراني في عام 1979 من قبل مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني، بهدف إنشاء جيش من المؤمنين الذين ستكون مهمتهم الوحيدة حماية قيم وإيديولوجية الثورة الإسلامية من التهديدات المحلية والخارجية.

ب. القوة العددية؛ يصل عدد قوات الحرس الآن إلى 150 ألف رجل مقسمين إلى القوات البرية والبحرية والجوية، حيث يتراوح عدد القوات البرية للحرس الثوري الإيراني بين 100 و125 ألفًا، والبحرية إلى 20 ألفًا، كما يسيطر الحرس الثوري على نحو 200 ألف مسلح من خارج إيران، موزعين على دول العراق ولبنان وسوريا واليمن والأراضي الفلسطينية، يتم تنظيمهم وتسليحهم تحت قيادة فيلق القدس.

ج. الأجهزة التابعة للحرس؛ لدى الحرس الثوري الإيراني كيانين قويين هما: الباسيج وفيلق القدس:

  • الباسيج؛ هي قوة من المتطوعين موالية للمؤسسة الدينية وتُستخدم في كثير من الأحيان لقمع الاحتجاجات المناهضة للحكومة، وفي زمن السلم، تفرض هذه الميليشيا القوانين الاجتماعية الإسلامية في إيران، ويزعم المسؤولون الإيرانيون أن لدى الباسيج أكثر من خمسة عشر مليون عضو، ولكن الرقم الأكثر واقعية لا يتجاوز على الأرجح خمسة ملايين عضو، ينتشرون على جميع مستويات المجتمع الإيراني من خلال فصول محلية تابعة للمدارس والمصانع والمكاتب الحكومية والمساجد. ويتم تمييز الباسيج عن قوات الأمن الإيرانية الأخرى بأنها خالية من التجنيد؛ فهي منظمة مكونة بالكامل من متطوعين، لا يحصل الغالبية العظمى منهم على رواتب مقابل خدمتهم.
  • فيلق القدس؛ وهو ذراع التجسس الخارجي وشبه العسكري للحرس الثوري الإيراني الذي يؤثر بشدة على الجماعات المسلحة المتحالفة معه في جميع أنحاء الشرق الأوسط، من لبنان إلى العراق ومن اليمن إلى سوريا، ويتكون من 15 ألف مقاتل، وتتركز مهماته على العمليات خارج الحدود الإقليمية مثل إجراء الاتصالات السرية وتقديم التدريب وتزويد المنظمات والجماعات المقاتلة بالأسلحة والدعم المالي وجمع المعلومات الاستخباراتية وتسهيل بعض الدعم الإنساني والاقتصادي الذي تقوم به إيران لدعم سياساتها.

د. القدرات الاقتصادية للحرس الثوري؛ بات الحرس الثوري يهيمن على عصب الاقتصاد الإيراني، بدءًا من نهاية الحرب الإيرانية – العراقية في أواخر الثمانينات ومع تأسيس شركة خاتم الأنبياء المملوكة للحرس تحت شعار إعادة الإعمار.

وفي عام 2009 سيطر الحرس الثوري على الاتصالات في إيران وأصبح مالكها الوحيد والحصري، كما توسع في صناعات وقطاعات أخرى عدة مثل البنوك وقطاع الشحن والتصنيع والواردات الاستهلاكية، كما يدير الحرس شبكة واسعة من الشركات الوهمية المتورطة في تهريب النفط وغسيل الأموال.

وتشير التقديرات إلى أن الحرس الثوري اليوم يسيطر على نحو 500 شركة، 200 منها على الأقل لديها فروع في الخارج، فيما تمتلك مؤسسة خاتم الأنبياء التي تعتبر الذراع الهندسي الرئيسي للحرس نحو 815 شركة فرعية، وتتراوح التقديرات حول نسبة سيطرة الحرس على الاقتصاد الإيراني؛ ففي حين تُقدر النسبة بثلث الاقتصاد، هناك دراسات تقدر استحواذ الحرس الثوري على الاقتصاد الرسمي للدولة بنسبة تتراوح من 50-80%.

ورغم ما يحققه الحرس الثوري من أرباح كبيرة عبر اقتصاده الموازي إلا أنه يحصل على تمويل سخي من موازنة الدولة، حيث ارتفعت مخصصاته في العام 2022 بنسبة 55% عن العام 2021، أي ما يقارب 22 مليار دولار.

هـ. النفوذ الاستخباراتي للحرس الثوري؛ توسع الحرس الثوري الإيراني بالخارج واستغل فراغات السلطة، مثلما فعل بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003، الذي أتاح فرصًا لتغلغل النفوذ الإيراني، وقد توسع هذا النفوذ بشدة في الفترة من 2013 حتى 2017، عندما ركزت الولايات المتحدة على محاربة تنظيم داعش.

ويحتفظ الحرس الثوري بعناصر له في السفارات الإيرانية عبر العالم وهذه العناصر هي التي تقوم بتنفيذ العمليات الاستخباراتية وتقيم معسكرات التدريب كما تساهم في تقديم الدعم لحلفاء إيران في الخارج، كما تم الإعلان عن تأسيس وحدة 400 التابعة لفيلق القدس لتكون مركز تنسيق العمليات الخارجية ولعبت هيئة مكافحة التجسس “الوحدة 1500” وهيئة العمليات الخاصة “الوحدة 4000” في استخبارات الحرس دورًا بارزًا في التخطيط لعمليات اغتيال استهدفت إسرائيليين في تركيا.

و. القوة العسكرية؛ يمتلك الحرس قوات بحرية وفضائية واستخباراتية، ووجودًا في عدد من دول المنطقة عبر فيلق القدس، وترسانة صاروخية كبيرة، كما أضاف مؤخرًا ترسانة من الطائرات بدون طيار المصنوعة محليًا.

ز. موقع الحرس الثوري في النظام السياسي؛ يشغل ضباط الحرس الثوري السابقون مناصب رئيسية في المؤسسة الإيرانية، من الحكومة إلى البرلمان؛ فمعظم أعضاء حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي هم ضباط سابقون في الحرس، ويرجع تعاظم نفوذ الحرس الثوري سياسيًا إلى الاعتماد عليه لقمع المعارضة منذ بدايات تأسيس النظام.

هل يتمرد الحرس الثوري على النظام الديني الإيراني؟

تواجه إيران الآن أخطر أزمة ممكن أن تواجه نظامها الديني، وهي أزمة خلافة المرشد الأعلى علي خامنئي الذي بلغ سن متقدم ويعاني من أزمات صحية حادة، وذلك في ظل وجود انقسام داخلي حول مرشح الخلافة الجديد؛ فهناك العديد من الأسماء المطروحة مثل الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي ونجل المرشد الحالي مجتبى خامنئي، هذا إلى جانب اهتزاز شرعية النظام الإيراني بعد الاحتجاجات الواسعة التي استمرت أشهر بدءًا من سبتمبر 2022 على خلفية مقتل الشابة مهسا أميني، ويُضاف إلى ذلك النهج التصالحي الذي تحاول طهران اتباعه في علاقاتها مع دول جوارها الإقليمي مما يثير تساؤلات حول مستقبل مشروعها التوسعي الإقليمي الذي يقوده الحرس الثوري واكتسب على خلفيته نفوذ ومكاسب جمة في عدد من دول الشرق الأوسط، وكل هذه الأزمات تطرح تساؤلًا رئيسيًا حول إمكانية أن ينقلب الحرس الثوري الإيراني على النظام الديني في إيران، وفي هذا الشأن انقسمت الآراء إلى اتجاهين أساسيين؛ هما:

  1. تمرد الحرس الثوري الإيراني أمر مستبعد؛ على الرغم من تنامي قوة الحرس الثوري إلا أن فكرة إطاحته بالمؤسسة الدينية واستبدالها بنظام عسكري ذي أيديولوجيا قومية هي مجرد تفكير رغبوي؛ فالحرس الثوري والمؤسسة الدينية هما وجهان لعملة واحدة، وقد ارتكن هذا الاتجاه على مجموعة من المعطيات، أهمها:
  • تُعد قيادة خامنئي وشرعيته على ارتباط وثيق بالنفوذ الكبير والمتنامي الذي يتمتع به الحرس الثوري على المستويات الاقتصادية والعسكرية والإقليمية؛ حيث على غرار خامنئي، لدى الحرس الثوري رؤية مطبوعة بنزعة الارتياب وذات توجه أمني تتمحور حول حماية الجمهورية الإسلامية من شبح الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي، لذا دعم الحرس بقوة الرد القمعي على الاحتجاجات، باعتباره الوسيلة الفضلى لصون أمن الجمهورية الإسلامية واستقرارها، ونظرًا إلى هذا الولاء وعلاقة الاعتماد المتبادل، لا يمكن أن يتمرد الحرس الثوري على النظام الإيراني.
  • من المستبعد أن تحل قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني محل المؤسسة الدينية لأسباب عدة؛ منها أن الحرس يفتقر إلى هيكلية مؤسسية، إلى جانب تشاركه معتقدات أيديولوجية مع رجال الدين.
  • منذ تولي خامنئي منصب المرشد الأعلى في العام 1989، وهو يختار بنفسه قادة الحرس الثوري، وكذلك لا يمكن ترقية أي شخص في الرتب العليا من الحرس الثوري إلا بعد الحصول على موافقة المكتب العسكري للمرشد الأعلى.
  • تخضع قوات الحرس الثوري للرقابة من المرشد الأعلى ومكتبه على المستويَين السياسي والأيديولوجي، وهي في الوقت نفسه تحت إشراف هيئتَي مراقبة متوازيَتين؛ ممثلية الولي الفقيه في الحرس الثوري، وجهاز مكافحة التجسس التابع لقوات الحرس الثوري، والمتواجد على جميع المستويات، بدءًا من هيئة الأركان المشتركة لهذه القوات ووصولًا إلى كل فصيل فيها، وتخضع الهيئتان لإشراف المرشد الأعلى بصورة مباشرة.
  • ثمة خبرة تاريخية وسياسية تجمع بين الحرس الثوري ورجال الدين الحاكمين، رسمت معالمها الثورة والحرب والعقوبات والانتقاد الغربي، ومن هذا المنطلق، فإن إسقاط الحكم الديني من شأنه أن يقوّض الرؤية الشيعية المشتركة المتجذرة في تفوق رجال الدين، والتي تجمع بين مختلف القواعد الإيرانية المتشددة والمحافظة، ومن دون هذا الرابط الجامع، فسوف تتداعى أركان الجمهورية الإسلامية.
  • تُعد الميليشيات الإيرانية في الخارج موالية للمرشد الأعلى، وثمة خطر أن تؤدي زعزعة الإطار الديني الإيراني إلى إقصاء الأدوات الاستراتيجية الخارجية الأكثر فعالية التابعة للحرس الثوري؛ فالقوى اللبنانية والعراقية والأفغانية التي تسهم في توسيع نطاق نفوذ طهران الجيوسياسي، لا تزال موالية بشدة للمرشد الأعلى، ويفترض أنها ستمتثل لخلفه.
  1. سيطرة الحرس الثوري على الحكم أمر وارد؛ يرى هذا الاتجاه أنه ربما يكون الحرس الثوري الإيراني القوة الوحيدة المتبقية داخل إيران مع القوة والحافز للقيام بدور مباشر في السياسة الإيرانية بعد رحيل خامنئي، بحيث تعمد قوات الحرس إلى تهميش رجال الدين المحافظين النافذين، والتخلص من الكثير من متطلباتهم وفتاواهم الأيديولوجية والدينية المتزمتة وغير الشعبية، بما فيها الحجاب الإلزامي، وتحويل الجمهورية الإسلامية إلى ما يشبه نظامًا عسكريًا تقليديًا، ويرتهن هذا الرأي على مجموعة معطيات؛ منها:
  • الخلاف بين الجيش الإيراني النظامي وقوات الحرس الثوري؛ والذي ظهر إلى العلن في يونيو 2020 خلال تصريحات لاذعة غير مسبوقة، وجهها المساعد المنسق للجيش الإيراني آنذاك حبيب الله سياري، ضد الحرس الثوري، حيث انتقد انخراط الحرس الثوري الإيراني بشكل واسع في المجال السياسي والاقتصادي، مشددًا على وجوب عدم اقتحام القوات المسلحة للحياة السياسية، كما انتقد تجاهل دور الجيش الإيراني في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، خاصةً في البرامج الوثائقية المتعلقة بهذا الشأن.
  • وتعود أسباب غضب الجيش الإيراني تجاه الحرس الثوري إلى: حضور الحرس في مجلس الشورى بقوة، حصة الحرس الثوري في الميزانية العامة للدولة، والتي تتعدى ميزانية الجيش بنسبة 60% في ميزانية العام الحالي، فضلًا عن ميزانية أخرى إضافية غير المعلنة، حيث تم تخصيص 200 مليون يورو لفيلق القدس بعد مقتل قاسم سليماني، وذلك بهدف المواجهة مع الولايات المتحدة، هذا إلى جانب الوجود الكثيف للحرس الثوري في أجهزة استخبارات الدولة مقارنةً بوجود الجيش.
  • الموجة الأخيرة من الرفض العلني لنظام المرشد؛ والتي ظهرت بوضوح غير مسبوق في الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة.
  • مركزية شخص خامنئي في النظام الديني الإيراني؛ حيث حكم خامنئي إيران أربع مرات تقريبًا، وهي مدة أطول من سلفه الوحيد روح الله الخميني؛ زعيم الثورة ومؤسس الجمهورية الإيرانية، وبالتالي فإن النظام الحالي من صنعه الشخصي، وتعتمد إدارة مراكز القوى المتنافسة داخل إيران على دوره كسلطة نهائية، بينما همش خامنئي معظم منافسيه داخل رجال الدين، وعزز نفسه كسلطة لا جدال فيها داخل النظام، وهذا الاحتكار للسلطة والنفوذ، يجعل استبداله بعد وفاته أمرًا في غاية الصعوبة، وهذا قد يتيح الفرصة للحرس الثوري أن يتدخل في المشهد.
  • كما قد تشهد مرحلة ما بعد خامنئي، نزول ملايين الإيرانيين للشوارع للمطالبة بإنهاء نظام ولاية الفقيه وتبديله بنظام آخر، خاصةً في ظل الغضب الشعبي من سياسات النظام الإيراني، والذي عبر عنه الإيرانيون خلال الاحتجاجات التي شهدتها إيران الفترة الماضية، وظهور إرادة قوية للشارع في إسقاط النظام، وإذا حدث هذا السيناريو وأيقن بأن النظام بات على حافة السقوط، فإن الحرس الثوري قد يلجأ إلى تنفيذ انقلاب عسكري يسيطر بموجبه على الحكم.
  • تحول الحرس الثوري للاعب اقتصادي وسياسي محوري؛ الحرس لم يعد مجرد قوة عسكرية تحت قيادة المرشد الأعلى، بل بات لاعبًا اقتصاديًا رئيسًا داخل إيران، حيث يمتلك أعمالًا تجارية مربحة وممتلكات عقارية، من المرجح أن يسعى إلى الحفاظ عليها بصرف النظر عن التغييرات التي قد تأتي في السياسة الإيرانية، ونتيجة الإمكانات التي يمتلكها في مجالات الأمن والاقتصاد والإرشاد، يميل كثيرون إلى الاعتقاد بأن الحرس بات يمسك فعليًا بكل مقاليد السلطة في إيران.
  • امتعاض الحرس من تدخلات مجتبى خامنئي؛ ادعت الوسيلتان الإعلاميتان “إيران إنترناشيونال” و”إيران واير” في مارس 2023، أنهما تلقتا وثيقة توضح بالتفصيل الإحباط والانتقادات في الصفوف العليا للقيادة العسكرية في الجمهورية الإسلامية، وتضم الوثيقة ملاحظات من اجتماع عُقد في 3 يناير الماضي بين قادة في الحرس الثوري الإيراني والمرشد الأعلى علي خامنئي، حيث عبر خلاله الحرس عن امتعاضه من تدخلات مجتبى خامنئي الأخيرة في سؤون الحرس الثوري، وهذا له دلالة كبيرة خاصةً وأن مجتبى مرشح بقوة لتولي منصب المرشد الأعلى بعد وفاة والده.

 

وإجمالًا؛ القوات العسكربة غير النظامية أو فكرة الجيوش الموازية أصبحت فاعل رئيسي في مختلف مناطق الصراع في العالم، وخاصةً في الشرق الأوسط، مما يستدعي إيجاد آلية مناسبة للتعامل معها لأنها خطر مهدد للأمن والاستقرار الدولي والإقليمي، وفيما يخص الحرس الثوري الإيراني باعتباره نموذج قوى لفكر الجيوش البديلة، اعتمدت عليه إيران لتحقيق مصالحها في الداخل الخارج، فإن الرأي الراجح هو الرأي الأول الذي يستبعد فكرة تمرد الحرس على النظام الديني الإيراني، ولكن ما ليس به شك هو مركزية الحرس الثوري في ترتيب مشهد ما بعد خامنئي، بل قد يكون له الكلمةَ النافذة الأولى والأخيرة في مسألة خلافة خامنئي بما يخدم مصالحه، وهذا في حد ذاته دليل واضح أن القوات غير النظامية باتت عنصر مهدد ومتحكم في مجريات الأمور حتى بالنسبة للدول التي ترعاها ودعمتها.

 

 

 

 

 

كلمات مفتاحية