حسناء تمام كمال
منذ بداية الصراع باليمن، وهناك ملفات متعذر حلها، وكذلك الالتزام بالأجندات والاتفاقيات الموقع عليها بين الأطراف، أبرزها، المرتبط بتنفيذ اتفاقية ستوكهولم؛ لضبط التواجد العسكري بمدينة الحديدة، وقد شمل قوات لكافة الأطراف المتصارعة، منها (قوات التحالف، وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي، والقوات المشتركة التهامية)؛ لمواجهة قوات الحوثي، وتنتشر القوات الثلاث بمناطق مختلفة من المدينة وأطرافها، وبحدود المؤانئ.
وقع اتفاق ستوكهولم بعام 2018، وأخلى بعض المناطق من أي تواجد عسكري، وألزم الأطراف بخطة للانسحاب، وأمَّن مدينة الحديدة لتمرير المساعدات الإنسانية، ومنذ توقيع الاتفاق فشلت محاولات تنفيذه مرات عديدة؛ لعدم الثقة بين الأطراف، وتخوف من تمدد طرف لانسحاب آخر، خصوصًا بظل أهمية الحديدة اقتصاديًّا، بوجود موانئها، والصليف ورأس عيسى، والمُعوَّل عليهم بخدمة الاقتصاد اليمني؛ لذا منذ 4 سنوات تشمل الحديدة تواجدًا عسكريَّا لكافة الأطراف، وقد غيَّر الأوضاع انسحاب القوات المشتركة – التي تواجه الحوثي – من الحديدة؛ لتغير بذلك شكل التواجد الميداني بالحديدة، وتثير التساؤلات حول تبعات هذا التغير بالتسوية السياسية، والتواجد الميداني بباقي المدن اليمنية.
أولًا: كيف تغير المشهد ميدانيًّا
في 12 نوفمبر، أعلنت القوات المشتركة انسحابها من محيط ميناء الحديدة، الذي تسيطر عليه “أنصار الله” الحوثية، وأعلنت الأمم المتحدة أن الجماعة سيطرت على تلك المواقع، وقالت القوات المشتركة: إن إعادة انتشارها يأتي ضمن قرار إخلاء المناطق المحكومة باتفاق ستوكهولم؛ لكونها محكومة باتفاق دولي يجعلها منزوعة السلاح و آمنة للمدنيين.
بالوقت ذاته، استمرت الاشتباكات بكافة الجبهات بمحافظة مأرب اليمنية، قبل أسابيع من تغيرات الحديدة، وقد شهدت الجبهات الجنوبية لمأرب “ام ريش – ذنة” معارك عنيفة، وأعلنت حكومة الرئيس هادي بمنتصف نوفمبر، أنها عزَّزت جبهات محافظة مأرب بوحدات نوعية؛ لتغيير موازين المعركة لصالحها وتحويل مسار العمليات العسكرية، وكشف وزير الإعلام بحكومة الرئيس هادي، معمر الإرياني، عن وصول كتيبة مدربة تدريبًّا عاليًا ومجهزةً بالأسلحة والعتاد العسكري لمدينة مأرب للانخراط بجبهات القتال.
ومنذ إعلان القوات المشتركة إعادة انتشارها، وهناك كثافة بالتفاعلات العسكرية والميدانية بين قوات التحالف والحكومة الشرعية، وجماعة الحوثي، سواءً بالداخل اليمني، أو على حدوده مع دول الجوار، وبتفاعل سريع مع التغيرات، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن المبعوث الأمريكي الخاص لليمن “تيم ليندركينج” بصدد الوصول للسعودية بإطار جولة تشمل البحرين؛ للانضمام لفريق مشترك بين الوكالات؛ لتنسيق مقاربات الأمن الإقليمي؛ للمخاوف المتعلقة بإيران.
ثانيًا: الخيار الميداني العسكري بحسم الصراع السياسي
لاشك أن التحركات الميدانية لها دور كبير بحسم المواقف سياسيًّا، فواحدة من محددات قوة كل طرف، تُقاس بمناطق سيطرته ميدانيًّا، ويمكن القول: إن إعادة الانتشار التي نشهدها؛ تهدف للآتي:
إعادة الحكومة لصنعاء: إن الهدف الرئيسي الذي تحاول الحكومة الشرعية والتحالف الوصول إليه بالمرحلة الحالية – خصوصًا بعد تحقيق هدف خلق حكومة مشتركة- هو جعل الحكومة بصنعاء بدلًا من عدن؛ لخلق تقدم بالموقف التفاوضي للشرعية بمواجهة قوات الحوثي، ومن ثمَّ فالتحركات التي بدأت بالحديدة وِجْهتها النهائية هي صنعاء، وغالبية المدن الشمالية التي يسيطر عليها الحوثي.
توسيع نطاق مواجهة جماعة الحوثي: يمكن تفسير الانسحاب من الحديدة؛ واستمرار المواجهة في مأرب بأنه محاولة لتوسيع نطاق مواجهة جماعة الحوثي عسكريًا ، والثبات أن ليسوا لديهم القوة –التي يدعونها- للصمود عسكريًا، فالانتصار الذي شعرته الجماعة في الحديدة دفعها لإخراج ما تمتلك من قوات وذخائر و استنفاذها بالحديدة، ومنها كشف ضعف قدراتها في المدن الأخرى كمأرب أو تعز مقارنة بمقدرات قوات التحالف .
تحجيم التواجد الإيراني: بالنظر لتلك الأحداث بسياقها الإقليمي، خصوصًا بظل الحراك الجاري بسوريا، واللقاءات بين المسؤولين العرب والرؤساء السوريين؛ لجذب سوريا لمحيطها العربي، قد يؤدى بجملته لإرباك التواجد الإيراني بالمنطقة، وتشتيت مجهوداتها بين الحلفاء المختلفين بآنٍ واحد، والتشكيك بقدرتها باستمرار تحريك الملفات المهمة بالمنطقة، وفق تطلعاتها.
تجديد الدعم الأممي للشرعية: فسرت القوات المشتركة الانسحاب من الحديدة، بأنه محاولة لتنفيذ اتفاق ستوكهولم، وإعادة الالتزام باتفاقية ستوكهولم للواجهة؛ لكسب دعم أممي بمواجهة الحوثيين، أو حتى من موقف الحوثي من أي تسوية سياسية، وقد حاولت تأكيد موقفها و الالتزام باتفاق ستوكهولم، بفتح الطريق الواصل بين الحديدة وصنعاء.
لكن من ناحية أخرى، بقي هناك تحدٍ أمام تنفيذ الضغط على الحوثي باتفاق ستوكهولم، المرتبط بوحدة الموقف المتعلق بالانسحاب، خصوصًا بظل إعلان الأمم المتحدة، بعدم إعلامها مسبقًا بخطة الانسحاب، وإعلان الحكومة اليمينة الأمر ذاته، وبالتالي هذا قد يُساء استخدامه من قبل الأطراف الأُخرى (الحوثي وإيران)، بترويج اعتباره انقسامًا بصفوف الحكومة الشرعية والتحالف.
كما يبقى حسم المعركة بمأرب تحديًا آخر، بالسير وفق خطة إستراتيجية تعتمد بتغيير موازين القوى المدنية؛ لتغيير المواقف السياسية، ويتطلب تنفيذها لصالح الحكومة الشرعية حسم المعركة بمأرب لصالح قوات التحالف، ووقف أي تقدم نحو تعز، وإلا فسيكون الوضع ميدانيًّا أمام تقدم حوثي بمدن مختلفة وتحريك ما يجري لصالحه.
ثالثًا: من الحديدة لصنعاء كيف يُحرَّك المشهد؟
تعد صنعاء واجهة الطرفين بالتحركات الأخيرة بين رغبة قوات التحالف دخولها، وحسم المعركة لصالح الحكومة الشرعية، وبين الحوثي الذي يريد الاحتفاظ بصنعاء، بل والتقدم لمناطق أوسع، وانتقال الاشتباكات الميدانية بعد الحديدة ومأرب لصنعاء، يعني تقدم طرف بمواجهة آخر لصالحه بمأرب، وتبادل الهجمات بصنعاء ليس مستبعدًا، لحين حسم المعارك الجديدة، قد تكون هناك تحركات بالمشهد، ومنها مايلي:
محاولة الحوثي للحشد وحسم المعركة بمأرب بأقرب وقت: لا شك أن التحركات الميدانية، وتغيير السيطرة الميدانية، بين تقدم وتراجع الأطراف بالساحة اليمينة، وكذلك الهجمات والاستهدافات، هي السمة الرئيسية للحراك باليمن بهذه الآونة، وبالتالي فإن طلب الحوثي دعم إيران مرجح بقوة، من ناحية أُخرى، قد تزداد العمليات الحوثية المستهدفة لدول الجوار؛ لتشتيت مجهوداتهم العسكرية بحماية حدودهم ومرفقاتها بدلًا من ميدان المعركة اليمني، وهو ما بدأ بفعله، ومحاولة استهداف خميس مشيط جنوب غربي السعودية ، واستهداف مطار أبها مجددًا (17، 16) نوفمبر على التوالي.
لقاءات عربية ودولية مكثفة: غيرت التحركات بمأرب والحديدة من شكل المشهد ،بعد بقاء الوضع على ماهو عليه لفترة طويلة، كما يعد حسم الوضع بالمحافظة لصالح أحد الأطراف، بمثابة تغيير بموازين القوى باليمن، ومن ثم سيلجأ التحالف والشرعية وكل الأطراف للقاءات مكثفة خلال الفترة القادمة؛ لإعادة ترتيب أوراقهم، ويدعم هذا إعلان الخارجية الأمريكية قرب زيارة المبعوث الأمريكي للسعودية والأردن بجولة للحديث عن الأوضاع باليمن.
اتفاق ستوكهولم على المحك: لا شك أن عودة الحديث عن اتفاق ستوكهولم وبنوده وآلية تنفيذه وضماناتها، ستكون حديث الأطراف اليمنية خلال هذه الفترة؛ لاستناد القوات المشتركة عليها بعملية الانسحاب من الحديدة ،وستحاول القوات الشرعية الاعتماد على اللجنة السياسية للانسحاب، وإعادة الانتشار من الحديدة، وكذلك المبعوث الأممي، بالضغط على الحوثيين ودفعه للالتزام بعملية الانسحاب.
فيما يعول الحوثي على تصريحات اللجنة بعدم التنسيق بشأن هذا الانسحاب للتنصل من الاتفاقية بشكل نهائي، وتمييع المفاوضات بأي اتجاهات أُخرى لا تلزمه بتغيير موقفه ميدانيًّا، ويذكر أن تفاعل الأطراف بشأن اتفاق ستوكهولم سيكون واحدًا من محددات مصير اتفاق ستوكهولم، سواء كان بالتنفيذ، أو بقائمة الاتفاقات المتعثر تنفيذها.
لقد أثار الحديث عن إعادة التموضع بالحديدة جدلًا واسعًا، لكن ما يجري من إعادة الانتشار بمأرب، واستهداف قادة الحوثي، يؤكد أن ما يجري وُضِع وفق خطة إستراتيجية، تعول على الخيار الميداني بتغيير موازين قوى الأطراف بالداخل اليمني، بظل حالة التعنت والتيبس بالمواقف التي شهدها اليمن، ومن خلال حل سياسي بحشد مجدد لوسطاء الصراع، والضغط بإعادة تنفيذ اتفاق ستوكهولم، ورغم ذلك فن تعقيد الموقف يجعل الجزم بحدوث سيناريو بعينه أمرًا يصعُب التنبؤ به حاليًّا، ويجعل المشهد مفتوحًا بسيناريوهات، واردة الحدوث جميعها.