اتفاق جوبا للسلام (بين سيطرة الحكومة الانتقالية وحلم الدولة المدنية)

إعداد: رابعة نور الدين وزير

اتفاق جوبا للسلام (بين سيطرة الحكومة الانتقالية وحلم الدولة المدنية)

في 3 أكتوبر 2020 تم التوقيع على اتفاقية “جوبا لسلام السودان” من قِبَل الحكومة الانتقالية بالسودان وبعض الجماعات المسلحة، بعد استمرار المحادثات أشهرًا عديدة، والذي عُرف فيما بعد باتفاق “جوبا” ومن الجماعات المسلحة التي وقَّعت على الاتفاقية “الجبهة الثورية السودانية”، التي تضم خمس حركات مسلحة وأربع حركات سياسية، كما لم ينضم فصيلان أساسيان للاتفاقية وهما (جيش تحرير السودان والحركة الشعبية جناح عبد العزيز الحلو) للمفاوضات.

وبحلول الذكرى الأولى لتوقيع اتفاقية السلام، نقدِّم رؤية تقييمية للوضع بالسودان بعد توقيعها، وأهم الخطوات التي تم اتخاذها في ضوء ما ورد بها، وهل تمَّ تحقيق ما انطوى عليه الاتفاق من خطوات؟ وهل الوضع الحالي بالسودان يؤسس لتحقيق فرضية الانتقال السلمي للسلطة من الحكومة الانتقالية إلى حكومة مدنية منتخبة وفقًا لما جاءت به الاتفاقية؟ وهل تحقيقها يُنهي الأزمات والاضطرابات التي عصفت – على مدى عقدين – بالشعب السوداني ويمهد لبناء حياة كريمة؟

أولًا: ظروف وجود اتفاق “جوبا لسلام السودان” وأهم بنوده

تعتبر السودان واحدةً من أكثر الدول تنوعًا ثقافيًّا واجتماعيًّا وديموغرافيَّا، وقد أدى هذا التنوع مع ضعف قدرة الأنظمة المتعاقبة على التعاطي معه واحتوائه إلى أزمات متعددة ناتجة من الاختلاف الثقافي وانتشار القبلية والعصبية، ورغبة بعض القبائل الحصول على النصيب الأكثر بالسلطة أو حتى الحصول على تمثيل، ولطالما كانت المناوشات والاحتجاجات ضاربة بجذورها في كل مراحل الدولة، ولكن ما يعنينا فترة تولِّي حكومة “عمر البشير” الحُكْم في السودان واستخدامها العنف في الرد على مطالب هذه الفئات، فقد لجأت لاستخدام القوة والعنف والاستعانة بالميليشيات المسلحة في التعامل معها؛ ما أدى إلى تحول بعض الميليشيات إلى أحزاب سياسية معسكرة تقاتل من أجل حقوق الأقليات المهمشة في مناطق مثل (دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأزرق).

وقد بدأ النزاع الفعلي عندما شنَّت حركة “جيش تحرير السودان” وحركة “العدل والمساواة” حربًا ضد حكومة البشير، فما كان من القوات الحكومية المسلحة سوى الرد العنيف والتعاون مع قوات “الجنجويد”؛ ما أدى إلى قتل ما يزيد عن 300.000 مواطن، وهجرة ما يتجاوز مليوني شخص وفقًا لتقديرات منظمة العفو الدولية.

ولم ينتهِ الوضع عند هذا الحد بل صدر قرار في عام 2005 عن مجلس الأمن الدولي يقضي بتحويل أزمة دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، بعد قيام “لجنة التحقيق الدولية لدارفور” – التابعة للأمم المتحدة – بدورها، تبين لها حجم ما ارتكبته القوات المسلحة بالتعاون مع الميليشيات من جرائم ضد الإنسانية، كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق أربعة مسؤولين حكوميين على رأسهم الرئيس “عمر البشير”؛ حيث وجهت له 5 تهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية (الإبادة، القتل، التعذيب، التهجير القسري، والاغتصاب)، إضافةً إلى توجيه الهجمات ضد المدنيين على الرغم من عدم كونهم طرفًا بالقتال، والسلب والنهب، وفرض أوضاع على كل مجموعة مستهدفة تدميرها جسديًّا خلال الفترة من 2003 حتى 2008.

وفي يونيو 2011 ونشب نزاع مسلح بين المناطق الجنوبية للسودان؛ (جنوب كردفان- النيل الأزرق) وبين القوات الحكومية وحركة “جيش تحرير السودان” بعد سنوات من الهدوء النسبي منذ توقيع معاهدة إنهاء الحرب الأهلية في 2005، وقد أطلق على الحرب في هذه الفترة الحرب الأهلية الثالثة للسودان، والتي وقعت لعدم وجود انتخابات ديمقراطية في هاتين الولايتين، وتداخل الصراع مع الحرب في دارفور واستمرت التحالفات بين جبهة تحرير السودان وبعض الأحزاب المؤيدة ضد الحكومة إلى أن أصدر البشير في 2015 أمرًا باستعادة الأراضي التي استولى عليها المتمردون؛ ما أدى إلى تهجير ما يقرب من 1.5 مليون مواطن، وفرار 200.000 مواطن لجنوب السودان وفقًا للإحصائيات الصادرة عن المفوضية السامية لحقوق اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

وقد هدأت الأوضاع بعض الشيء بفعل توقيع الأطراف على خارطة طريق في مارس 2016، ولكن عادت الاحتجاجات مرةً أُخرى للإطاحة بنظام البشير في أبريل 2019، وبعدها بدأت المباحثات منذ سبتمبر 2019، واستمرت حتى التوقيع على اتفاق “جوبا لسلام السودان” في أكتوبر 2020.

ملامح اتفاق جوبا

نصت اتفاقية السلام على 8 بروتوكولات أساسية تتعلق بـ(ملكية الأراضي، العدالة الانتقالية، تطوير قطاع المراعي، تقاسُم السلطة، وضع الثروة، عودة اللاجئين والنازحين، وأخيرًا التعويضات)، وأهم ما ورد في الاتفاقية ما يلي: –

·       تمديد الفترة النهائية لتسليم السلطة للمدنيين بعد إقامة انتخابات ديمقراطية إلى 39 شهرًا.

·       منْح الجبهة الثورية تمثيلًا سياسيًّا لتحصل على ثلاث مقاعد في مجلس السيادة الوطني، وخمس وزارات في الحكومة الجديدة، و75 مقعدًا بالبرلمان الانتقالي.

·       دمْج مقاتلي الحركة الثورية بالجيش الوطني السوداني على أن يأخذ الدمج ثلاث مراحل.

·       منْح 40% من السلطة بإقليم دارفور لمكونات مسار دارفور، 30% للسلطة الانتقالية، و10% لحركات دارفور التي وقّعت على الاتفاقية، إضافةً إلى 20% لأهل المصلحة، وتخصيص 20% من وظائف الخدمة المدنية والسلطة القضائية والنيابة العامة والسفراء للجبهة.

·       كما تم استثناء قادة الحركات المسلحة من المادة 20 في الدستور، التي تحرم من شغل منصبًا بالسلطة الانتقالية من الترشُّح بالانتخابات القادمة.

·       أضافت الاتفاقية العديد من التعديلات على الوثيقة الدستورية لعام 2019، كما وضَّحت المسارات التي يجب  اعتبارها عند وضع الدستور الجديد للبلاد.

·       وتنص أيضًا على ترتيبات انتقالية شاملة للسودان.

ما سبق هو بعض البنود الأساسية التي احتوت عليها اتفاقية جوبا للسلام، وجدير بالذكر أن الاتفاق قد حظي بتأييد واسع على مستويات متنوعة دولية وإقليمية.

أهم ما اتخذته الحكومة الانتقالية من خطوات

اتخذت الحكومة السودانية بعض الإجراءات المحدودة لتحقيق اتفاق جوبا للسلام وأهمها: –

قامت الحكومة الحالية بقيادة “عبد الله حمدوك” بإصدار قانون “مفوضية مكافحة الفساد”؛ لتفكيك العناصر المتبقية من النظام السابق، فضلًا عن نجاح المفاوضات السودانية بالتوسُّط لدى الولايات المتحدة الأمريكية للخروج من تصنيف الدول الراعية للإرهاب؛ ما يفتح الباب أمامها لفُرص استثمارية وتعاون على مستويات مختلفة، كما أمكنها اتخاذ بعض القرارات الاقتصادية الصعبة المتمثلة في تحرير سعر صرف العملة، ووافقت على خمس قرارات وطنية ذات أولوية، تتمثل في دفع عجلة الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتعزيز الانتقال الديمقراطي، وغيره من الأولويات الواردة باتفاق جوبا للسلام.

تمكنت من السعي لإلغاء ما يقدر ب 14.1 مليار دولار من الديون الواقعة على السودان، والحصول على إمكانية جدولة ديونه البالغة 9.4 مليار دولار لدى نادي باريس، وقد تحدث تخفيضات أُخرى بحجم ديون السودان، كما وقَّعت الدولة على الاتفاقية الدولية لحماية الأفراد من الاختفاء القسري.

الوضع الداخلي ما زال بحاجة إلى ضبط وحوكمة مع ما تبذله حكومة السودان من جهد، ومازالت هذه الجهود محدودة لا يمكن أن تؤسس عليها بناء دولة.

هل يؤسس اتفاق جوبا لانتقال سلمي للسلطة

في هذا السياق يمكننا وضع التحديات والمعوِّقات التي تواجه تنفيذ اتفاق “جوبا لسلام السودان” كما يلي: –

1-  ضعْف الحكومة الحالية؛ حيث إن الحكومة تعاني من الضعف على عدة مستويات، أهمها تنسيق الجهود ووحدة الهدف، حيث ما زال هناك خلاف مع الكثير من الحركات الموقعة على الاتفاق، وضعْف سيطرتها على مناطق عديدة من السودان؛ ما أدى إلى انتشار الميليشيات المسلحة وحركات التمرد، واشتعال النزاعات القبلية، إضافةً  لإمكانية قيام عناصر النظام السابق باتخاذ إجراءات أو إقامة شراكات مع هذه الميليشيات تهدد أمن واستقرار ووجود الدولة بالكامل.

2-  دمْج وتسريح القوات المتمردة والميليشيات ضمن قوات الجيش السوداني، حيث إن هذه العملية تكلف الدولة أموالًا طائلة، وبالرغم من وجود مساعدات من بعثة الأمم المتحدة للسودان إلا أن هذه العملية تحتاج لتمويلات ضخمة وخطة أمنية وعسكرية واضحة ووضوح للمعلومات المتعلقة بـ(الجماعات المتمردة والميليشيات المسلحة)، لكن الأمر لا يزال صعبًا لضعف الحكومة.

3-  سوء الأوضاع الاقتصادية بالبلاد أيضًا يمثل تحديًا كبيرًا أمام تنفيذ الاتفاق؛ لضعف الإدارة وانتشار جائحة فيروس كورونا المستجد، وتعرض البلاد لخطر الفيضانات بشكل مستمر دون وجود خطة واضحة للتعامل مع هذه الأزمة المتكررة، فضلًا عن ارتفاع حجم الديون وتراجع الاستثمارات الخارجية.

4-  تزايد النزاعات الطائفية الناتجة عن تحريض الجماعات ضد بعضها، وهذا تحدٍ كبير حيث لم تعالج الاتفاقية الأزمات الطائفية، واعتماد الحكومة على أسلوب التهدئة دون وجود خطة لصنع وبناء السلام في هذه المناطق، ومع العوامل سابقة الذكر سواء ضعف الحكومة وانتشار الميليشيات المسلحة وغيرها، فإن الوضع فيما يتعلق بالنزاع القَبَليّ ما زال يتجه نحو التصعيد.

5-  استمرار الاحتجاجات على ارتفاع أسعار السلع والخدمات بالسودان وما يصحبها من أعمال عنف.

6-  عودة التوترات الحدودية بين إثيوبيا والسودان وهو من التحديات الكبرى التي تعيق تركيز الحكومة الحالية على الشأن الداخلي.

ما سبق يؤكد على أن الكثير من العقبات لا تزال بالطريق، وأن قيام دولة مدنية بالسودان عائدٌ لقدرة القوى المختلفة على السير نحو السلام وإنهاء الخلافات الفردية المتعلقة بالسلطة والمكانة في سبيل تحقيق الاستقرار والأمن.

السيناريوهات

يمكننا الوقوف على بعض السيناريوهات المتعلقة بمستقبل السودان في ظل الوضع الحالي وللسيناريوهات مساران رئيسيان كما يلي: –

المسار الأول

يرجح هذا المسار عدم تنفيذ بنود اتفاق جوبا للسلام، وإطالة المرحلة الانتقالية؛ للخلافات والتحديات التي تعيق تحقيق الاتفاق، وعدم إمكانية الوصول لتسوية في فترة قصيرة، وكثرتها وتشعبها في ظل حكومة ضعيفة وتردِّي الوضع الاقتصادي وانتشار السلاح وغيره؛ لذا يتوقع استمرار الحكومة الانتقالية لفترة أكبر، مع تجدد أحداث العنف والنزاع القبلي في عدة مناطق.

المسار الثاني

يرجح هذا المسار إمكانية تحقيق بعض بنود الاتفاقية الأساسية المتعلقة بإقامة انتخابات ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة مع تجميد بعض القضايا لحين تولِّي الحكومة الجديدة، ويعتمد هذا المسار على حجم التوافق بين الحكومة والمعارضة، إضافةً للدعم الدولي الذي تحظي به الاتفاقية، وبالتالي فقد يحدث ضغط إقليمي ودولي لتنفيذها، وتوفير الحماية اللازمة لإجراء الانتخابات.

التوصيات

يمكننا وضع بعض التوصيات للمساعدة في احتواء الوضع بالسودان والخروج بالدولة إلى مرحلة البناء والاستقرار.

أ‌-     يجب على كافة الأطراف بذْل المزيد من الجهود لتحقيق السلام وتنفيذ الاتفاق، وتجاهل الخلافات فيما بينها، ووضع الخطط على كافة المستويات لبناء السلام في المناطق ذات النزاع، وإيجاد تصور حول المتمردين ودمْجهم بالجيش الوطني، ومن ثَمَّ الحصول على دعْم دولي وإقليمي للتنفيذ، هذا على المستوى القومي، أما على المستوى الدولي بمحاولة الضغط على الدول الكبرى لتخفيض الديون مرةً أُخرى وجذب الاستثمارات الخارجية لما يتعلق بالجانب الاقتصادي من فوائد.

ب‌- ينبغي على الحكومة السودانية أن تكون راعية لكل الجهود الرامية نحو تحقيق السلام للسودان وذلك بفتح الباب أمام عقْد مشاورات وشراكات مع الجهات المختلفة والمجتمع المدني والقوى المعارضة وغيرها لتوحيد الجبهة الداخلية.

ت‌- يجب على الحكومة السودانية اتخاذ إجراءات مبدأية ترسخ لتسليم السلطة، من خلال تحقيقات شاملة في الانتهاكات التي حلَّت بالمدنيين من قِبَل الميليشيات والجماعات المسلحة.

ختامًا ومما سبق توضيحه، فإن تحقيق اتفاق السلام والخروج بالسودان إلى الأمن والتنمية يرتبط بشكل أساسي بوجود إرادة حقيقية داخلية.

 

 

كلمات مفتاحية