اعداد: السفير : محمد العرابى . وزير الخارجية الاسبق
خلال العقد الماضي، أسفر تصاعُد الصراعات والأزمات في منطقة الشرق الأوسط وفي أفريقيا عن عدد من التفاعلات، وعدد من الظواهر التي تُعتبر تطورًا في العلاقات بين الدول بشكل عام، وفي فترة الصراعات بشكل خاص، فمنذ بداية القرن الماضي، شهد عدد من الدول الأفريقية، وشرق المتوسط، الظاهرة التي كانت سببًا في الصراعات، تلك الظاهرة هي خضوع الدول للاستعمار، وتقسيم الدول إلى أقاليم استعمارية، ساهمت في نشوب حروب أهلية، ومطالب انفصال وصراعات داخلية، لكن بالنظر إلى موجة الصراعات التي نشهدها حاليًّا، والتي اندلعت في العقد الأخير، وجدنا اختفاء الظاهرة تمامًا، وأصبح الوضع عكسيًّا، فلم تخضع الدول للاستعمار، بل طالبت بتدخل دولة أُخرى، وهي ظاهرة جديدة على ساحة العلاقات الدولية والسياسية، وفي هذا الصدد نحاول تأصيل هذه الظاهرة.
استدعاء القوى كمفهوم صاعد
تحتاج هذه الظاهرة إلى تأصيل مفاهيمي يعبر عنها، وترى أن الظاهرة يمكن تسميتها باستدعاء القوى، وأن تُطلَق على الحالة التي تقرر فيها حكومة دولة الصراع الاستعانة بدولة أُخرى، بناءً على طلب رسمي من الأُولى للثانية، تتمثل في الاستعانة بالقوات العسكرية من الدولة الثانية؛ لمواجهة حالة صراع تشهدها سواء داخليًّا، أو خارجيًّا.
التعريف اللغوي: مُكوَّن من شقين، الأول هو استدعاء، والاستدعاء في اللغة يعني اِسْتَدْعَى الطَّبِيبَ: طَلَبَ مَجِيئَهُ، دَعَاهُ، أما قُوَى، فهي جمع قُوَّة، والقُوَّة ضد الضعف.
التعريف الاصطلاحي: ودولة الصراع/ الدولة الأولى هنا هي الدولة التي تتعرض وتشهد حالة الصراع، الدولة الثانية / هي الدولة التي يتم استدعاؤها لدعم موقف دول الصراع.
الصراع هو تعارض في دوافع الدول وفي تصوراتها وأهدافها وتطلعاتها وفي مواردها وإمكاناتها؛ ما يؤدي في التحليل الأخير إلى اتخاذ قرارات أو انتهاج سياسات خارجية، المختلف فيها أكثر من المتفق عليها، أي أن الوجود العسكري: هو المزود بالأسلحة، والصراع يعني، وجود خلاف نشط بين الأشخاص ذوي الآراء أو المبادئ المتعارضة.
حالات برز فيها استدعاء القوى:
لبيبا: طلبت “حكومة الوفاق الوطني” الليبية، في 26 يناير 2019، بشكل رسمي، مساعدة عسكرية جوية وبرية وبحرية من تركيا؛ لمواجهة تقدم قوات اللواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، نحو طرابلس في يناير 2020، صوَّت البرلمان التركي بالموافقة على طلب الرئاسة التركية إرسال جنود إلى ليبيا، بناءً على اتفاق تعاون عسكري وأمني، وقَّعته أنقرة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، المعترف بها دوليًّا، وفي ديسمبر من العام ذاته صادق البرلمان التركي، على طلب الرئيس رجب طيب أردوغان، بتمديد عمل قوات عسكرية تركية في ليبيا لمدة 18 شهرًا، في وقت تدعم فيه أنقرة بشكل قوي حكومة الوفاق الوطني بطرابلس.
وهو ما نتج عنه الوجود التركي بليبيا، سواء عسكريًّا أو سياسيًّا في تحرِّي التحالفات السياسية بشأن مواقف الداخل الليبي، أو باعتبارها وسيطًا في الأزمة، كما أسفر الوجود التركي في ليبيا عن تعقيد جديد في الصراع؛ لأنه خلق حالةً بعدم الرضا عن الأداء الليبي داخليًّا، وكذلك بين دول الجوار.
زاد من تعقيد المشهد الليبي وجهود التسوية تعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة في الأزمة وتعارض مصالحها بشكل كبير للغاية بشكل يجعل أيّ حديث عن تسوية محتملةٍ أمرًا في غاية الصعوبة، وكذلك الحال بالنسبة للحسم العسكري، إضافةً إلى تبدلات مواقف هذه الأطراف بين فترة وأُخرى؛ حيث حاولت (روسيا و تركيا) قبل انعقاد مؤتمر برلين بأيام إبرام اتفاق “سوتشي ليبيا”، ما أشار إلى رغبة (روسية – تركية) مشتركة لتولِّي زمام المسار السياسي، والاستفادة من بروز الحضور الميداني والدور العسكري لكل منهما في المشهد الليبي، عبر تكرار سيناريو التفاهم (الروسي – التركي) في سوريا أو ما يُعرف باتفاق “سوتشي”؛ ما أثار قلقًا وتحفظًا أوروبيًّا وعربيًّا؛ لذا تم الضغط على “حفتر” لعدم توقيع أيِّ اتفاق في روسيا، كما أعلنت فرنسا صراحةً أن مستقبل ليبيا يجب أن يحدده الليبيون وليس مصالح قوى خارجية.
وأصبحت ضمن الحضور في مؤتمر برلين الثاني، الذي عُقد في يوليو 2021، وقد دعا وزير الخارجية الألماني لعقْد اجتماع برلين الثاني بحضور مجموعة من الدول مثل (مصر، الإمارات، تركيا، هولندا، إيطاليا).
إثيوبيا: من ناحية أُخرى قامت إثيوبيا بالأمر ذاته في الصراع الأخير الذي اندلع بين قوات أبي أحمد، وأقاليم التيجراي، استعان رئيس الوزراء الإثيوبي، أبي أحمد، لأول مرة بوجود قوات إريترية في إقليم تيجراي الإثيوبي، بعد اندلاع الصراع في نوفمبر الماضي، وكان مبرر أبي أحمد في هذا الصدد، أن القوات الإريترية جاءت خوفًا من تعرضها لهجوم من قِبَل مقاتلي جبهة تحرير تيجراي، أخذ أبي أحمد والحكومة الفيدرالية وقتًا حتى يعترف بوجود القوات الإريترية، فقد أكد وجودهم في تصريح له أمام البرلمان الإثيوبي، ووعد أن تخرج تلك القوات في شهر أبريل، غير أنه حتى الآن تؤكد الأمم المتحدة أن القوات الإريترية مازالت موجودة في شمال شرق إقليم التيجراي.
وفي مايو من العام الجاري ثبت تورط القوات الإريترية في انتهاكات بالغة واعتداءات على مواطنين فقال المدعي العام إن القوات الإريترية انخرطت في أعمال قتل انتقامية بعد أن تعرضت لهجمات من قوات موالية لجبهة تحرير شعب تيجراي، وأشار إلى أن 110 مدنيين قُتلوا على أيدي القوات الإريترية، في 27 و28 نوفمبر، وأن التحقيقات أثبتت أن 70 مدنيًّا قُتلوا في المدينة أثناء وجودهم خارج منازلهم.
من ناحية أُخرى، يبدو أن 40 مدنيًّا أُخرجوا من منازلهم وقُتلوا في مداهمات القوات الإريترية، وحتى الآن تضغط مجموعة الدول السبع لتنفيذ سحب القوات الإريترية.
جنوب السودان: في عام 2014، اعترف الرئيس الأوغندي بوجود قوات أوغندية في الجنوب؛ مبررًا وجودها لاحتواء الوضع العِرْقي والإثني في الجنوب، وأنه لا مجال لبحث إمكانية عودتها مرةً أُخرى لحين انتهاء الصراع بجنوب السودان، ولعل ما دفع أوغندا للقيام بهذا الدور، هو العلاقات الوطيدة بين النظامين، واتفاقيات التعاون في مجال الدفاع بين البلدين، إضافةً لحماية رعاياها، والأهم هو حصولها على نصيب لا بأس به من الثروة النفطية بالجنوب، إضافةً إلى الرغبة في توطيد العلاقات التجارية؛ حيث تستأثر جنوب السودان بحوالي 60% من الصادرات الأوغندية.
أوغندا هي الدولة الوحيدة التي تدخلت لصالح “سلفا كير”؛ ذريعة اقتصارها على إجلاء الرعايا الأوغنديين من جنوب السودان، باعتبارهم أكبر الجاليات الأجنبية من حيث العدد في جنوب السودان.
ملاحظات أوَّلية على حالات استدعاء القوى.
من خلال الحالات التي استعرضناها ومفارقاتها لحالات استدعاء القوى، تأتي الإجابة على استشراف أهم ملامح مفهوم استدعاء القوى، وتأثيرها على الأوضاع بدول الصراع، وقد تكون هناك ظواهر أُخرى، مصاحبة لنمو وتطور هذا المفهوم في وقت لاحق.
يُظهر الاستدعاء بالمرحلة الأُولى والثانية في الصراع : أن هناك توقيتًا يمكن الاستدلال به لظهور حالات الاستعداد، ففي حالة إثيوبيا، وقع الاستعداء في نوفمبر، فور وقوع الاشتباكات بين الطرفين، أما في ليبيا فوقع الاستعداء، بعد هجوم قوات حفتر على غرب ليبيا في أبريل 2019، في حملةٍ عُرِفت باسم “طوفان الكرامة” للاستيلاء على المنطقة الغربية من ليبيا، ومن ثَمَّ السيطرة على طرابلس، وقد بدأ الهجوم من أبريل 2019؛ لتحرير طرابلس من الميليشيات المسلَّحة، وهو وقت اتجاه الأطراف بالتصعيد لفرض قوتها على أرض الواقع، بعد أن بدا صعوبة التوصل لاتفاق بشأن تقاسُم السلطة بعد مؤتمر باريس، ومؤتمر “باليرمو” نوفمبر 2018.
أما جنوب السودان، التي لجأت للاستدعاء في أوائل عام 2014، فنجد أن الاستدعاء جرى في توترات سائدة، والمطالب باستبعاد “سلفا كير” من على سُدَّة الحكم.
ومن هنا يمكن وضْع مؤشر مبدئي لتوقيت الاستعداء بأن يكون في المراحل الأولى من الصراع، بدءًا من التوتر، وحتى التصعيدات، وأن حالة الاستعداء قد تتسبب في سرعة وقوع أزمات في منحنى الصراع.
المدة الزمنية والمهام المسندة: يلاحظ أن الحالات الثلاثة، يتم تحديد مدة وجودهم العسكرية، بأجل قصير نسبيًّا، سواء أدرج ذلك على قرار رسمي من مؤسسات رسمية كما حدث في حالة الاستدعاء التركي في ليبيا، والذي وافق البرلمان في البداية على أن يكون لمدة 9 شهور، أو كان بتصريح من مسؤول بأن الوجود سيكون مؤقتًا، كما حدث في حالة استدعاء إريتريا بإثيوبيا، وكذلك حالة استدعاء أوغندا بجنوب السودان، غير أن تلك الفترة تم تمديدها في عدد من الحالات، كما في الحالة الليبية، ولم تخرج من إثيوبيا في الموعد المحدد والذي افترض انسحابها في أبريل الماضي.
تعثُّر الانسحاب وصعوبة ترتيب الخروج: وتظهر هذه السمة من طبيعة المهام التي تستدعي بها هذه القوات، والتي عادةً ما يتم صياغتها بشكل غير قابل للصياغة.
ففي الحالة (التركية – الليبية) الهدف من مذكرات التفاهم هو حماية المصالح الوطنية انطلاقًا من القانون الدولي واتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة ضد المخاطر الأمنية.
أمَّا إثيوبيا، فكان الهدف درء هجمات مواطني التيجراي، ومنع إزاحة “سلفا كير” بالقوة في جنوب السودان.
وكلها أهداف فضفاضة غير محددة الإطار ولا المدى الزمني، ومن ثم فمدَّت تلك القوات وجودها بذريعة تنفيذ تلك الأهداف المذكورة، وهو ما جعل البحث عن ترتيبات خروج هذا القوات إشكالية لدى عدد من الدول.
ثبوت استغلال الموارد الوطنية، وانتهاكات حقوق الإنسان: ثبت للقوات التركية سيطرتها على 60% من الموارد النفطية بليبيا والمناطق التي تُوجد فيها، كما اعترفت الحكومة الإثيوبية بوجود انتهاكات لحقوق التيجراي، قام بها الجنود الإريتريون.
عدم معرفة نطاق الانتشار: بالرغم من أن مذكرة التفاهم التركية، أكدت ذكر مناطق الانتشار، إلا أنه لا توجد معلومات دقيقة عن مناطق انتشار الجنود الأتراك في ليبيا.
أما إثيوبيا، فما زال هناك جدل حول وجود الجنود المستدعيْن من عدمه بين الاعتراف تارةً والإنكار أُخرى، وبين صور استخباراته تُنبئ بوجودهم في شمال شرق التيجراي.
ضعف الجيش الوطني: يشيع الاستدعاء عندما يطرأ الضعف على الجيش، إما لأنه لا يُوجد لها جيش نظامي قوي، أو أنه موجود لكنه غير متماسك تنظيميًّا، أو خلاف على شرعية القوات العسكرية بالداخل الوطني، أو تخوفات من سيطرة الجيش على رأس السلطة، وهو ما ظهر في الحالات الثلاثة.
مفهوم الاستدعاء بين الاحتلال.. والتعاون العسكري
في مجموعة من المفاهيم المترابطة والمتقاربة، يجدر الإشارة إلى أن مفهوم “استدعاء القوى” يقع في خانة الاحتلال، أو التعاون العسكري، فالأول معروف، والذي يكون فيه لدولة أُخرى السيطرة المفروضة – غالبًا – على الدولة الأصلية، والاحتلال يرفضه الشعب جملةً وتفصيلًا، وعادةً ما تنشأ مقاومة داخلية متنوعة المستويات لطرده من البلاد، أما التعاون العسكري، هو تعاون بين طرفين معترف بشرعيتهم داخليًّا على تبادل الخبرات والمهارات العسكرية، أو حتى استيراد الأسلحة وتصديرها، و الاستدعاء في منطقة وسط، لكن يتفق في الرفض الشعبي له مع الاحتلال، وفي مشروعيته القانونية مع التعاون.
السيناريوهات
إن ظاهرة استدعاء القوى كفيلة بإدخال عدد النتائج المصاحبة لها على ساحة العلاقات السياسية، أو ربما قد تختفي كليًّا، لكن لا شك أن هذا المفهوم سيصحبه عدد من الظواهر، منها التحالفات الثنائية، وكذلك إحلال الاستدعاء بالميليشيات، إضافةً لكونه فعليًّا أحد السُّبُل المستخدمة للتدخل الدولي في الأزمات والتوترات بالصراع، وفي هذا الصدد نحاول أن نستشرف مستقبل مفهوم استدعاء القوى.
أولًا: تصاعُد المفهوم:-
يفترض هذا السيناريو أن الفترة المقبلة سيكون فيها تصاعُد لمفهوم استدعاء القوى، وذلك باعتباره تكريسًا لحالة جديدة من تعزيز دور أطراف النزاع في حالات التوتر والصراعات، وأنه سيكون بديل دول النزاع عوضًا عن تأسيس الميليشيات أو تسليح فصائل بعينها، باعتبار أن الطرف الذي يقوم بمهمة الاستدعاء سيضمن أن تكون القوات العسكرية التي تعمل لصالحها فرق نظامية مدربة، بل ويعطي وجودها شرعية على أراضي الدولة، وأنها أقل ضررًا من الميليشيات، وهذا السيناريو مرجح لمنطقية أسباب الاستدعاء، غير أنه مع صعوده أيضًا يزيد من احتمالية جعل الاستدعاء بديلًا للميليشيات.
ثانيًا: أن يطرأ على مفهوم الاستدعاء حالة من الخفوت والتراجع، في ظل التنديد الذي يطال حالة استدعاء القوى، وكذلك في حالة الرفض الشعبي الداخلي لتلك الحالات، وبالرغم من أن تلك المُعطيات منطقية، إلا أن السُّبُل التي يلجأ إليها الفاعلون في صراع ما للحشد وتأييد مواقفهم عادةً ما يضع التنديد الدولي، والتأييد أو الرفض الشعبي في آخر الاعتبارات، وما يعزز استبعاد هذا السيناريو، أن التحالفات السياسية آخذة في التغيير، ويطغى عليها صبغة التحالفات الثنائية والإقليمية، أكثر منها تجمعات إقليمية، و تحالفات دولية.
أما السيناريو الثالث: هو أن تختفي ظاهرة الاستدعاء موقتًا، وهذا السيناريو غير مستبعد، ويتناسب مع حداثة المفهوم والظواهر المرتبطة به، وهذا ما حدث بالفعل فقد ظهرت حالة الاستدعاء في جنوب السودان عام 2014، ثم عاودت الظهور مرةً أُخرى بعد سنوات في ليبيا وإثيوبيا.