اقتصاد الصين.. إلى أين؟

إعداد: مصطفى مقلد

مقدمة:

فيما كان العالم ينظر بتفاؤل إلى سرعة تعافى الاقتصاد الصينى وتحرره من قبضة وباء كورونا لتحفيز الطلب عليه فى الاقتصاد العالمى، أظهرت مؤشرات اقتصادية حكومية عن شهر يوليو الماضى ضعف ثانى أكبر اقتصاد فى العالم جراء انكماش الأسعار وتراجع الصادرات والواردات، كما لم يحقق نمو الناتج المحلى الإجمالى المستوى المتوقع، فتُظهر البيانات أن نمو الاقتصاد كان بنسبة 0.8٪ فقط فى الربع الثانى هذا العام، بانخفاض من 2.2٪ فى الأشهر الثلاثة الأولى.

وفيما تكافح القوى الاقتصادية الكبرى التضخم، دخلت الصين، مرحلة انكماش فى الأسعار هى الأولى منذ أكثر من عامين، تحت وطأة استهلاك داخلى متباطئ يشكل عقبة بوجه الانتعاش الاقتصادى فى البلاد، وشهدت الصين فترة قصيرة من انكماش الأسعار فى نهاية 2020 ومطلع 2021، نجم عن انهيار أسعار لحوم الخنزير، الأكثر استهلاكًا فى البلاد، ويخشى كثير من المحللين هذه المرة أن تكون فترة الانكماش أطول فى ظل تعثر محركات النمو الرئيسة فى الصين، وارتفاع بطالة الشباب إلى مستوى قياسى تخطى 20٪.

ورغم أن تراجع الأسعار يبدو من حيث المبدأ مفيدًا للقدرة الشرائية، فإنه يشكل فى الواقع خطرًا على الاقتصاد ككل، إذ يحمل المستهلكين على إرجاء مشترياتهم بدلًا من الإنفاق، على أمل الاستفادة من تراجع إضافى فى الأسعار، ومع تراجع الطلب، تضطر الشركات إلى خفض إنتاجها وتجميد عمليات التوظيف أو حتى تسريح موظفين، وتقر تخفيضات جديدة لتصريف مخزونها، ما يؤثر فى مردوديتها مع بقاء تكاليفها بمستواها، ويُصعب الانكماش على المقترضين خدمة ديونهم، حيث إن ارتفاع قيمة الأموال يجعل مدفوعات القروض الثابتة أكثر تكلفة مقارنة بتكلفة السلع والخدمات، وتزايد المديونية الحكومية.

مؤشرات اقتصادية ضعيفة:

سجلت الصين الشهر الماضى أكبر تراجع فى صادراتها بوتيرة سنوية منذ عام 2020 بلغت 14.2 فى المئة، تحت وطأة طلب عالمى ضعيف وتباطؤ داخلى، وينعكس هذا الوضع مباشرة على عشرات آلاف الشركات التى باتت تواجه تباطؤًا فى نشاطها، وتجعل هذه الظروف من الصعب على الصين تحقيق هدف النمو الذى حددته الحكومة بنحو خمسة فى المئة العام الحالى، ولم يتعد النمو الاقتصادى الصينى 0.8 فى المئة بين الفصلين الأول والثانى من 2023، بحسب الأرقام الرسمية.

من جهة أخرى، سجل مؤشر أسعار الإنتاج انكماشًا جديدًا فى يوليو الماضى، للشهر الـ10 على التوالى متراجعًا بنسبة 4.4 فى المئة، وفق أرقام مكتب الإحصاءات، ويعكس هذا المؤشر الذى يعتبر مقياسًا لكلفة البضائع عند خروجها من المصانع، وضع الاقتصاد بصورة عامة، وسبق أن تراجع بنسبة 5.4 فى المئة فى يونيو الماضى، ويؤدى انكماش أسعار الإنتاج إلى تقليص هامش الربح للشركات، وسجل قطاع التجارة أرقامًا ضعيفة بشكل خاص، ففى يونيو الماضى وحده، انخفض بنحو 6٪ ، مع تراجع الصادرات بنسبة 8.3٪ إلى 2 تريليون يوان (280 مليار دولار أمريكى) وتراجعت بنسبة الواردات 2.6٪.

ويظهر أن “بكين” ممزقة بين العودة إلى إجراءات التحفيز التقليدية مقابل نهج تصاعدى يطلق المزيد من الديناميكية الاقتصادية، خاصة أن إنهاء القيود الصارمة التى تفرضها الصين لكبح انتشار فيروس كورونا فى أواخر العام الماضى لم يؤدِ إلى طفرات شاملة فى الطلب المحلى حيث انخفض مؤشر أسعار الاستهلاك الذى يعتبر المقياس الرئيس للتضخم فى الصين إلى النطاق السلبى فى يوليو الماضى مسجلًا تراجعًا بنسبة 0.3 فى المئة على أساس سنوى، بحسب أرقام نشرها مكتب الإحصاءات الوطنى، وكذلك الطلب العالمى رغم جهود صانعى السياسات للحفاظ على ريادة الصين فى التجارة العالمية من خلال تقديم تخفيضات ضريبية للمصدرين والسماح لعملتها بالانخفاض.

وذكرت وكالة الإحصاءات الرسمية فى الصين أن قطاع التصنيع الصينى انكمش للشهر الثالث على التوالى فى يونيو الماضى، وتراجع القطاع غير الصناعى، مع انخفاض الطلبيات الجديدة لكليهما، كما انخفض التوظيف فى كلا القطاعين الواسعين، مما يشير إلى النقص المزعج فى الوظائف، خاصة للشباب، حيث جاء مؤشر التوظيف فى القطاع غير الصناعى عند 46.8 نقطة، مسجلًا انكماشًا للشهر الرابع على التوالى.

فى الوقت نفسه تراجعت الأنشطة فى قطاع الخدمات، وهو المحرك الرئيس لانتعاش الصين بعد تفشى الوباء، بشكل أكبر فى شهر يونيو الماضى إلى 52.8 نقطة من 53.8 نقطة فى مايو السابق له، فى أدنى قراءة منذ ديسمبر الماضى، كما تراجع مؤشر فرعى آخر لتتبع أنشطة البناء إلى 55.7 نقطة فى يونيو الماضى من 58.2 نقطة فى مايو السابق له، وهو أدنى مستوى فى ستة أشهر، حيث استمر الانتعاش قصير الأجل فى نشاط الإسكان فى التلاشى، كما بددت البيانات الآمال فى حدوث انتعاش مستدام فى سوق العقارات، إذ تراجعت مبيعات المنازل لأكبر 100 مطور عقارى صينى بنسبة 28.1 فى المئة من حيث القيمة يونيو الماضى.

الأسباب:

يبدو أن الأسباب متداخلة ومترتبة على بعضها على مدار سنوات سابقة، وليست نتيجة تغيرات جارية فقط، بل تتعدد الأسباب بين ما يخص طبيعة سياسات الحكومة الصينية الاقتصادية والمستجدات الدولية وكذلك نشاط الأفراد والمؤسسات، وفقًا لما يلى:

  1. تبرز الحملة التى شنتها السلطات الصينية على عمالقة التكنولوجيا فى البلاد، والتى استمرت لعامين، وهو ما رتب استشعار المستثمرين تحولًا فى الصين، إذ تعرضت بعض الشركات الخاصة الأكثر نجاحًا فى الصين لمزيد من التدقيق من قبل الحكومة مع زيادة إحكام “تشى جين بينج” قبضته على السلطة، ويبدو أن الشركات المملوكة للدولة تتمتع بالأفضلية فى السوق الصينى، مما يدفع المستثمرين إلى سحب أموالهم من البلاد.

فعلى سبيل المثال، سحب بنك “سوفتبانك” اليابانى مبالغ ضخمة من استثماراته فى عملاق التجزئة الصينى “على بابا”، وما نتج عنه فقد عشرات الآلاف من الشباب وظائفهم، وهو ما يضاف إلى أزمة التوظيف التى تعيشها البلاد بالفعل، فشركات التكنولوجيا الصينية العملاقة، مثل “تنسنت وعلى بابا”، أعلنت تعرضها لخسائر للمرة الأولى فى الفترة الأخيرة، إذ أعلنت هبوط أرباحها بحوالى 50 فى المئة فى حين تراجع صافى دخل “على بابا” لحوالى النصف.

  1. من ناحية أخرى، بدأ المناخ المتطرف فى ترك بصمته السلبية على الكثير من القطاعات الاقتصادية فى الصين، فاضطرت مصانع كثيرة فى المنطقة، من بينها “فوكسكون” الذى يصنع هواتف iPhone وتيسلا، إلى تقليل ساعات العمل أو الإغلاق الكامل، كما أكد مكتب الإحصاء الوطنى فى الصين أن قطاع صناعة الصلب شهد تراجعًا فى الأرباح بحوالى 80 فى المئة على مدار الأشهر السبعة الأولى من 2022 مقارنة بنفس الفترة من العام 2021.
  2. الخروج من الجائحة كان مخيبًا للآمال، فالعالم كان ينتظر انفتاح ثانى أكبر اقتصاد فى العالم وخروجه من قبضة جائحة كورونا فى آواخر ديسمبر 2022 وأوائل يناير من هذا العام، لكن اتضح أن هذه العودة كانت مخيبة للآمال، لأن العملية كانت قصيرة المدى من خلال ارتفاع الأسواق الصينية والمؤشرات التكنولوجية وكذلك زيادة الطلب لمدة شهر أو شهرين فقط.

ويعود ذلك إلى اختلاف إستراتيجية الحكومة الصينية عن إستراتيجيات الحكومات الغربية خلال فترة الإغلاقات، إذ إن هذه الحكومات حفزت الأفراد ماليًا وشجعتهم على الإنفاق (أونلاين) أثناء الجائحة، وحتى عند انفتاح الاقتصادات كان هناك سيولة كبيرة والتى تم ضخها للتشجيع على الاستهلاك، لكن الحكومة الصينية ركزت أثناء الجائحة على الإنفاق باتجاه إنقاذ الشركات العقارية المتورطة فى الديون وليس على الأفراد، وبالتالى خرجت الصين من الجائحة وأصبح المواطن دون وظيفة ودون أى قوة استهلاكية وهذا أدى إلى النتائج الاقتصادية الحالية مثل انكماش الأسعار.

  1. أزمة سوق العقارات: فهناك إحجام عن الحصول على رهون عقارية لشراء المنازل أو المبانى غير المكتملة لشك البعض فى أن أعمالها لن تكتمل على الإطلاق، كما انخفض الطلب على المنازل الجديدة، مما أدى إلى تراجع واردات مواد البناء، ورغم الجهود التى تقوم بها “بكين” لدعم سوق العقارات، يستمر تراجع أسعار المنازل فى العشرات من المدن الصينية.

الموقف الحالى:

على الرغم من الدعوات المتزايدة التى تتلقاها “بكين” لاتخاذ إجراءات لدعم الاقتصاد، فإن معظم الإجراءات حتى الآن كانت محدودة النطاق، فقد خفض البنك المركزى سعر الفائدة الرئيسى الشهر الماضى بمقدار صغير، ووسعت الحكومة الإعفاءات الضريبية لمشترى السيارات الكهربائية.

وتحدّث رئيس مجلس الدولة “لى تشيانغ” إلى بعض الاقتصاديين الصينيين عن المساعدات المحتملة، رغم أنه شدد على أن السياسات ستكون “مستهدفة وشاملة ومنسقة جيدًا”؛ مما يعزز التوقعات بأن التحفيز لن يكون ضخمًا. ومن العوامل المقيدة، عبء الديون المرتفع الذى ترزح تحته الحكومات المحلية، المسؤولة تقليديًا عن دفع النمو من خلال المزيد من الإنفاق.

ورأى المتخصص فى الشأن الاقتصادى من مكتب “غافيكال دراغونوميكس” أندرو باتسون، أن “أزمة القطاع العقارى الذى لطالما مثل ربع إجمالى الناتج المحلى فى الصين، هى السبب الرئيس لهذه الصدمة الانكماشية”.

ويكمن الخطر بالنسبة لصانعى السياسة فى الصين فى أنه إذا أصبح الاتجاه الانكماشى مترسخًا فى توقعات المستهلكين والأعمال، ستعمل الشركات على كبح الاستثمار بشكل أكبر حيث تجف الأرباح، بينما سينفق المستهلكون أقل لأنهم قلقون بشأن أمنهم الوظيفى والمزيد من الانخفاض فى أسعار العقارات، كذلك تشديد “شى” قبضته على السلطة وعدم الاعتراف بالأخطاء، يجعل من المستحيل عمليًا على التكنوقراط فى الصين إجراء التعديلات اللازمة لتنشيط الاقتصاد، ومن ناحية أخرى يزيد التوترات مع الغرب، وهو ما قد يدفع لتباطؤ الطلب الغربى على الصادرات الصينية خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم المرن ما أثر على الدخل الحقيقى، وهو ما أدى إلى تراجع الطلب على السلع، كما تشن الولايات المتحدة حملة على الشركات الصينية المدرجة فى مؤشرات الأسهم الأمريكية.

الحلول التى اتخذتها الصين:

كشفت الحكومة الصينية، النقاب عن سلسلة من الإجراءات لتعزيز الاستهلاك المحلى بعد مزيد من البيانات القاتمة حول صحة الاقتصاد، لكنها لم تصل إلى حد الإعلان عن حزمة كبيرة من الإنفاق الجديد أو التخفيضات الضريبية، حيث أصدرت لجنة الدفاع الوطنى، وثيقة سياسة تحتوى على 20 إجراء لاستعادة وتوسيع الاستهلاك.

وتضمنت الخطط الحكومية الجديدة تعزيز الاستهلاك باعتباره المفتاح لتحفيز الانتعاش وتوسيع الطلب، وتغطى الإجراءات مجموعة واسعة من الصناعات، بما فى ذلك السيارات والعقارات والمنتجات الإلكترونية وصناعة الخدمات، وزيادة القروض الاستهلاكية لتشجيع شراء السيارات، وبناء مزيد من مرافق شحن السيارات الكهربائية، وبناء منازل أكثر بأسعار معقولة للشباب، وتشجيع الحكومات المحلية على إقامة المهرجانات الغذائية والموسيقى والرياضية لجذب السياح.

كما كشفت بكين عن خطة مدتها سنتان لتعزيز ما يسمى “الصناعة الخفيفة”، التى تشمل السلع الاستهلاكية المعبأة، والسلع الاستهلاكية المعمرة، والمعدات الرياضية والترفيهية، والآلات الصناعية الخفيفة، باعتبار أن الهدف هو تسريع نمو الصناعة إلى أربعة فى المئة لعامى 2023 و2024، بعد أن سجلت توسعًا بنسبة 0.4 فى المئة فحسب فى النصف الأول من العام.

كذلك حاولت السلطات أن تبدو أكثر استباقية فى دعم القطاع الخاص، وهو محرك نمو رئيس أضرت به قيود كورونا، إضافة إلى حملة تنظيمية شاملة فى ظل الرئيس الصينى “شى جين بينغ” استهدفت قطاعات من التكنولوجيا إلى التعليم الخاص.

ومع ذلك، يرى مراقبون هذه الإجراءات أنها لم تُترجم إلى نوع من “حوافز السياسة المالية الكبيرة” التى توقعها كثيرون.

سيناريو الخروج الآمن من الأزمة:

يشير محللو الأزمة إلى أنه لابد من لجوء الصين إلى اتخاذ قرارات سريعة لكى يستطيع الاقتصاد الوقوف على قدميه، على أن تراعى تنفيذ حزم التحفيز الاقتصادى الكبير والسريع والمستدام والتى تهدف إلى تعزيز الطلب الكلى، وأن يتجه الإنفاق التحفيزى إلى الأسر، وإن كان سيصطدم بحقيقة انخفاض ثقة المستهلك فى الوضع الحالى، كذلك الابتعاد عن الاعتماد على محركات النمو القديمة مثل الاقتراض المفرط للبناء والاستثمار المتهور وتوسيع نطاق المشروعات.

ويؤكد خبراء أنه لكى يكتسب الانتعاش الاقتصادى زخمًا فى الصين يجب عودة ثقة القطاع الخاص المحلى والأجنبى لأن الشركات الخاصة هى المحرك الرئيسى للاستثمار الجديد والتوظيف، ويشددون على ضرورة أن تكون الحوافز الحكومية منتجة، بجانب تقديم إصلاحات نحو السوق، وتوجيه إشارات قوية لصالح الإصلاح لرفع معنويات المستثمرين، وحل مشكلة ديون الحكومة المحلية عن طريق الإصلاح المركزى والمحلى، والتشجيع على الاستهلاك من خلال تركيز الحكومة على توجيه السيولة إلى الأفراد والشركات وليس إلى البلديات والبنوك والمؤسسات المالية المتورطة فى الديون، فضلًا عن عدم الاعتماد على محركات النمو القديمة مثل الاقتراض المفرط للبناء والاستثمار المتهور وتوسيع نطاق المشروعات.

مواجهات تجارية بين الصين والغرب:

وقع الرئيس الأمريكى “جو بايدن”، أمرًا تنفيذيًا يحظر بعض الاستثمارات الأمريكية الجديدة بالصين فى التقنيات الحساسة مثل رقائق الكمبيوتر، وانتقدت وزارة الخارجية الصينية التحركات الأمريكية باعتبارها “إكراهًا اقتصاديًا صارخًا، وتنمرًا تكنولوجيًا أمريكيًا”، مؤكدةً أن بكين “ستتحرك لحماية حقوقها”، لكن صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية نقلت عن محللين قولهم إن الصين تكافح تدهور الاقتصاد الكلى، وانخفاض ثقة المستثمرين، ما يجعلها أقل ميلًا لتصعيد المواجهة الاقتصادية مع الولايات المتحدة.

تراجع الاستثمار فى الصين من قبل شركات رأس المال الاستثمارى والأسهم الخاصة الأمريكية إلى حوالى 400 مليون دولار فى الربع الأول من هذا العام، مقارنة بذروتها التى بلغت قرابة 35 مليار دولار فى 2021.

وعلى الرغم من الحوافز التى تقدمها الإدارة الأمريكية للشركات والأعمال للخروج من الصين ونقل أعمالها إلى الولايات المتحدة ومحاولة تطوير سلاسل توريد لا تعتمد على “بكين”، نتيجة العقوبات والقيود التى تفرضها الإدارة الأمريكية من ناحية، والإجراءات المقابلة التى تتخذها “بكين” تجاه الأعمال الأمريكية من ناحية أخرى، ويستهدف القرار الأمريكى حظر الاستثمار بالصين فى مجالات تكنولوجية عدة مثل حوسبة الكم (كوانتم كومبيوتنغ) والرقائق الإلكترونية المتطورة والذكاء الاصطناعى وغيرها من المجالات بغرض منع الصين من الوصول إلى التمويل الأمريكى والتكنولوجيا لتطوير قدراتها التكنولوجية والعسكرية.

فى سياق آخر، قال مفوض التجارة فى الاتحاد الأوروبى “دومبروفسكيس”، أن عجز ميزان التجارة الأوروبى مع الصين “صاعق”، وأن العلاقة التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبى “غير متوازنة”، فمستوى الانفتاح من الجانب الصينى ليس هو نفسه لدى الاتحاد”، فى مقابلة مع صحيفة “فايننشال تايمز”، ودعا الصين لتخفيف العراقيل التى تضعها أمام الصادرات الأوروبية، وذلك بعد أن بلغ العجز التجارى بين الكتلة وبكين نحو 400 مليار يورو، العام الماضى، ويأتى ذلك فى وقت وضعت فيه ألمانيا “أقوى اقتصاد أوروبى داخل التكتل” إستراتيجية لتخفيف الاعتماد على الصين.

وردت وزارة الخارجية الصينية، أنه يجب على الاتحاد الأوروبى رفع قيود التصدير، إذا كان يريد معالجة الخلل التجارى بدلًا من توجيه اللوم إلى بكين، وأن الصين “لم تسع أبدًا إلى تحقيق فائض تجارى عن عمد”.

تأثير التراجعات الصينية على العالم:

ستشكل الاقتصادات المعتمدة على التصدير عبئًا على النمو العالمى، والصين إحدى تلك الاقتصادات، وتراجع الصادرات فى الصين تركها مكشوفة بشكل خاص، خاصة مع تراجع ثقة المستهلك، وركود سوق العقارات الذى أعاق الانتعاش بعد عمليات الإغلاق، ويكمن الخطر فى أن يمتد انكماش واهتزاز الاقتصاد الأوروبى والصينى ليصل إلى الولايات المتحدة وبقية العالم.

تظهر بيانات الصين أن الشحنات إلى الولايات المتحدة تراجعت بنسبة 23.1% فى يوليو، كما تراجعت الصادرات إلى الأسواق بما فى ذلك اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والاتحاد الأوروبى وأستراليا بنسب مئوية من رقمين (أعلى من 10%)، لكن شحناتها ارتفعت إلى روسيا بنسبة 73% هذا العام، وأظهرت دراسات أن نشاط المصانع فى العالم ظل يعانى من ركود فى يوليو الماضى فى إشارة إلى أن تباطؤ النمو وحالة الضعف التى يشهدها اقتصاد الصين يلحقان ضررًا بالاقتصاد العالمى، بالتالى يبدو أن الانكماش واضحًا بالفعل عندما يتعلق الأمر بالتجارة العالمية، وخلال ذلك، تبدو إعادة تشكيل التدفقات التجارية العالمية جليةً فى أحدث الأرقام الصادرة، وسط تشجيع الدول الغربية بقيادة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” على تقليل الاعتماد على الصين وروسيا.

وتزداد مخاوف الغرب من تعرض الصين لركود اقتصادى، نتيجة شروع صانعى السياسة النقدية فى دورات جريئة لتشديد السياسات لكبح التضخم، وبالتالى ما زال يتعين عليهم محاولة تفادى ركود محتمل، خاصة مع انكماش نشاط الصناعات التحويلية فى يوليو الماضى بأسرع وتيرة منذ ذروة أزمة كوفيد مع تراجع الطلب على الرغم من خفض المصانع لأسعارها بشدة.

وشهدت ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد فى أوروبا ضعفًا كبيرًا، كما تسجل فرنسا وإيطاليا صاحبتا ثانى وثالث أكبر اقتصادين بمنطقة اليورو، تدهورًا ملحوظًا منذ يونيو الماضى، وفى بريطانيا التى أصبحت خارج الاتحاد الأوروبى، انكمش إنتاج المصانع فى يوليو بأسرع وتيرة فى سبعة أشهر متأثرًا بارتفاع أسعار الفائدة وقلة الطلبيات الجديدة، على الرغم من تراجع ضغوط الأسعار، وأظهرت دراسات أن اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وفيتنام شهدت تقلصًا فى نشاط التصنيع فى يوليو، مما سلط الضوء على الضغط الذى يتسبب فيه تباطؤ الطلب الصينى على المنطقة.

وفى ظل الصين الراكدة فستكون السوق أقل استعدادًا لتمويل ميزانيات أمريكا الضخمة وعجز ميزانها التجارى، ويعنى ذلك أيضًا فقدان طلبيات التصدير التى تنشأ فى بقية العالم، وسيشكل خبرًا سيئًا فى شكل خاص لألمانيا، التى استفادت فى شكل كبير من تجارتها مع الصين، وعلى الرغم من التحركات الأخيرة نحو إبطال مفاعيل العولمة، و”إعادة الوظائف إلى مواطنها”، والحد من الاعتماد على البضائع المصنعة الصينية، لا يزال عالمنا مترابطًا بما يكفى ليعنى أن ما هو سيئ للصين ليس بالضرورة جيدًا للغرب، حيث ذكر “جيم تشالمرز” كبير وزراء الاقتصاد الأسترالى – فى تصريح – أن أستراليا أحد أكثر اقتصادات العالم الغنى اعتمادًا على الصين، وأن الاقتصاد العالمى فى وضع محفوف بالمخاطر إلى حد كبير فى الوقت الحالى.

ومن المعلوم، أن الطريقة الرئيسية للتوسع الصينى تتمثل فى التجارة والتأثير على الأعمال التجارية فى جميع أنحاء العالم، والدول المصدرة للمعادن مثل البرازيل وأستراليا معرضة بشكل خاص لدورات البنية التحتية والممتلكات فى الصين التى تعرضت لعدم الاستقرار نتيجة أزمة العقارات، وانخفضت أسعار السلع الأساسية بما فى ذلك حديد التسليح وعقود خام الحديد الآجلة هذا العام، حيث لم يرتفع الطلب فى أكبر مستهلك للمعادن فى العالم بالقوة التى توقعها التجار، كما يؤثر الركود على مصدرى السلع عالية التقنية على وجه الخصوص، مع انخفاض الشحنات من كوريا الجنوبية وتايوان بأرقام مزدوجة كل شهر فى النصف الأول من العام.

من ناحية أخرى، فبعد سنوات من قيود كوفيد، لم يستأنف المسافرون الصينيون السفر بأعداد كبيرة إلى الخارج، حيث لا يزال دخلهم وثقتهم فى العمل ضعيفًا، مما يضر بالبلدان المعتمدة على السياحة.

التأثير على أزمة تايوان:

حذر مراقبون من أن الاقتصاد الصينى الراكد بشكل متزايد قد يزيد من احتمالية حدوث أزمة عسكرية فى مضيق تايوان، حيث قد يتبنى الرئيس الصينى القومية فى ولايته الثالثة، ويأتى هذا التحذير فى تقرير موسع صدر عن فريق عمل من الحزبين “الجمهورى والديمقراطى” شكله مجلس العلاقات الخارجية، ويغطى مختلف جوانب العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان، بما فى ذلك السياسة والدبلوماسية والاقتصاد والأمن، وأشار التقرير إلى أن إطار عمل واشنطن الذى مضى عليه أربعة عقود للتعامل مع تايوان منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الصين فى عام 1979 أصبح “هشًا أكثر فأكثر”.

وكتب فريق العمل، الذى شارك فى رئاسته مايك مولن، الرئيس السابق لهيئة الأركان المشتركة، أن “هذا الواقع ، مقترنًا بعدم ارتياح شى للوضع الراهن وتصميمه على إحراز تقدم نحو التوحيد، يزيد من مخاطر نشوب صراع”.

وتوقع التقرير سيناريو لصراع، قد تطلب فيه الصين من الطائرات المدنية وسفن الشحن المتجهة إلى تايوان الامتثال لرقابة بكين للطيران والجمارك، من خلال الادعاء بأن الصين لها سلطة قضائية على المياه والمجال الجوى حول تايوان، ويمكن أن يكون هذا التكتيك بمثابة حصار فعال، ويمنع حرية حركة البضائع من البحر والجو إلى تايوان ويخنق اقتصاد الجزيرة، إذا عطلت تايوان مثل هذه العملية عسكريًا، فقد يؤدى ذلك إلى صراع عسكرى.

تهديد الصين بغزو تايوان، لا يزال يثير استعداء الغرب، كذلك تعد العلاقات الودية بين بكين وموسكو وحيادها تجاه الغزو الروسى لأوكرانيا من القضايا الخلافية الأخرى التى عرّضت التعاون الاقتصادى العالمى للخطر، لذا يرى “بوشان دوت” أستاذ الاقتصاد فى كلية إنسياد للأعمال فى سنغافورة، أن التوترات المتزايدة أو الحرب ستؤدى إلى تحول زلزالى، وستخرج الشركات متعددة الجنسيات من الصين وستغلق أسواق صادراتها وستُفرض عقوبات.

وبناءً على التكلفة الاقتصادية التى ستتكبدها الصين حال غزت تايوان عسكريًا، واحتمال اتخاذ تدابير عقابية عليها، والذى يتعارض مع رغبة الصين الأساسية، وهى الحفاظ على النظام الدولى الحالى وليس تغييره، بل تغيير موقعها فيه، فإننا نصل إلى استنتاج مفاده أن الصين خاصة على المدى القريب، لن تقوم بإجراء عسكرى يمس سلامة الجزيرة التايوانية، وأن الأمر سيستمر فى عقد مناورات عسكرية على مقربة من الجزيرة، واحتكاكات محسوبة العواقب فى ضوء تبادل الزيارات بين المسؤولين الأمريكيين والتايوانيين.

التأثير على مصر:

تسهم تلك المؤشرات الاقتصادية الصينية بمؤثرات سلبية على منطقة الشرق الأوسط وفى القلب منها مصر، فى ضوء حجم الاستثمارات والتجارة الصينية الكبيرة فى تلك المنطقة، حيث بلغ حجم التبادل التجارى بين مصر والصين 20 مليار دولار العام الماضى، غير أنه خلال يناير وفبراير هذا العام تراجع حجم التبادل التجارى بنسبة 32% مقارنة بنفس الفترة العام الماضى، وفى ضوء تلك التطورات، يتخوف مراقبون من تراجع معدلات الاستثمار الصينى فى مصر.

كلمات مفتاحية