الأمن الغذائي المصرى والحرب الروسية الأوكرانية

د. أحمد الشحات

في إطار متابعة تطورات الحرب الروسية-الأوكرانية والتي ألقت بظلالها على مناطق مختلفة من العالم ،وإن كانت الحرب محدودة جغرافيا فإن تداعياتها لم تتوقف عند السياسة والتحركات العسكرية، وإنما عبرت إلى الاقتصاد العالمي الذي تأثر سلباً بسبب المشاكل التي خلقتها العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا من ناحيةٍ ،والرد الروسي على هذه العقوبات من ناحيةٍ أخرى ،خاصّة وأن إقتصادات العالم لم تتعاف بعد من آثار جائحة كورونا وموجة التضخم العالمية.

ومن المنتظر أن يطال الأثر الاقتصادي للحرب معظم دول العالم ،نتيجة إرتفاع أسعار النفط والغاز والحبوب ،وهو ما سيزيد من الكلفة على الاقتصادات العالمية ،بالإضافة إلى ما سوف يسببه ذلك من التضخّم الذي سوف يقلل من معدلات النمو الإقتصادي في العديد من البلدان التي مازالت إقتصاداتها تعاني من تأثيرات جائحة كورونا.

وتبرز التداعيات الاقتصادية للحرب، إنطلاقاً من ثقل روسيا وأوكرانيا في سوق تصدير عدد من أهم السلع الأساسية وفي مقدمتها الطاقة بمختلف مصادرها ،والغذاء، وكذلك المعادن ومدخلات الإنتاج.

وبالتالي فقد  ترتب على ذلك وصول أسعار الغذاء عالمياً إلى مستويات قياسية ،قد تساهم في تهديد الأمن الغذائي في عدد كبير من بلدان العالم، ويشير تقرير المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، خلال  فبراير الماضي بأن صادرات روسيا وأوكرانيا تمثل حوالي 12٪ من إجمالي السعرات الحرارية المتداولة في العالم، ويُعَد البلدان من أكبر خمسة مصدرين عالميين للعديد من الحبوب والبذور الزيتية المهمة ،متضمنةً القمح والشعير والذرة وعباد الشمس ،والأخير تنتج أوكرانيا وحدها نصف إمدادات السوق العالمية منه.

كما تُعد روسيا أكبر مصدر للأسمدة في العالم ،وقد ساهم إرتفاع أسعار الأسمدة قبل إندلاع الصراع في إرتفاع أسعار المواد الغذائية ،وسيؤدي المزيد من الاضطراب في إنتاج الأسمدة أو تصديرها إلى الإضرار بالزراعة في أوروبا ،مما قد يُسهم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم.

ففي مجال الطاقة ،قارب سعر برميل النفط 140 دولارًا، وأرتفعت أسعار الغاز الطبيعى لتصل 4.8 دولار ،وقد يطول الوقت إلى أن يتم توفير مصادر أخرى لتعويض واردات النفط والغاز الروسية التي سوف تتوقف بفعل العقوبات الغربية ،خاصّة وأن السعودية ترفض زيادة الإنتاج للمحافظة على إرتفاع الأسعار ،في حين أعلنت قطر أنه لا يمكن لها أن تعوض حصّة روسيا من الغاز في سوق الطاقة.

أما الحبوب فإن صادرات أوكرانيا وروسيا عام 2021 تمثل حوالى 29 % من إجمالى صادرات القمح للعالم  ،وقد صعدت فى بداية الأزمة 7% للعقود الأجلة فى أسواق السلع ،وينتظر أن تتزايد أسعار القمح مع استمرار التصعيد العسكرى .

وقد أكد العديد من الخبراء الدوليين بأن توقف صادرات القمح الروسية والأوكرانية يمثل خطرًا على الأمن الغذائي العالمي ،خاصة وأن معظم المناطق المنتجة للحبوب والزيوت النباتية في أوكرانيا تقع على الجانب الشرقي من البلاد ،وهو الساحة الأساسية للمعارك.

وبالنسبة لمصر والتي تعد من أكبر مستوردي القمح في العالم ،حيث أن وارداتها من القمح من البلدين تشكل 80 % من احتياجاتها من هذه المادة الأساسية (50% روسيا +30% أوكرانيا). ومع توقف واردات القمح من البلدين بسبب الصراع العسكرى ،زاد سعر الدقيق بنسبة 22% ،وهو ما أنعكس على أسعار المنتجات المعتمدة علىه، كما تسبب تعطل إستيراد الذرة وفول الصويا كأبرز مكونات للأعلاف اللازمة لتغذية الماشية والدواجن والمزارع السمكية ،في إرتفاع أسعار اللحوم والدواجن والبيض ،وتوقفت مصانع عديدة ترقبًا لمسار الزيادات السعرية في الخامات.

وطبقًا لبورصة شيكاغو للحبوب إستوردت مصر فى العام الماضى نحو 13 مليون طن من القمح من روسيا وأوكرانيا  ،كما استوردنا منهما أغلب احتياجاتنا من الذرة الصفراء بنحو 10.5 مليون طن لتصنيع الأعلاف النباتية للدواجن والمواشى، ومعهما الزيوت النباتية لعباد الشمش وفول الصويا والأسماك ،وبالتالى تسببت الحرب فى توقف جميع الواردات من أوكرانيا وارتفاع أسعار البعض الآخر المستورد من روسيا والتى لم تغلق موانيها وإستمرت فى التصدير ولكن مع زيادة فى أسعار الشحن والنقل البحرى والتأمين وزيادة بدل مخاطر على سفن الشحن.

وبالتالي تعاني مصر بالفعل منذ اندلاع الحرب من زيادة سريعة في أسعار الغذاء ،مع مخاوف إضافية من إحتمالية نقص بعضها بسبب تراجع المعروض عالمياً. عكستها زيادات الأسعار بشكل مطرد وبصورة فورية في معدلات التضخم ،فقد إرتفع معدل التضخم في فبراير إلى 10% على أساس سنوي، وقفزت أسعار الغذاء خلال الشهر بنسبة 17.7%  ،وهي الأعلى منذ نوفمبر 2018 ،وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

ومن شأن هذه التطورات أن تضع الدولة أمام خيارات صعبة ،فإما اللجوء إلى ضخ إعتمادات إضافية للميزانية بملايين الدولارات لدعم المواد الأساسية التي ستتأثر بإرتفاع الأسعار ،أو المضي في نهج سياسات رفع الدعم التدريجى عن المواد الأساسية وبدرجات متفاوتة.

وفى ظل تلك التحديات تحاول الدولة في تحرك حميد إلى محاولة زيادة إنتاجها من الغذاء دوريًا بمشروعات التوسع الزراعى وغيرها كلما تيسر لها المياه اللازمة للرى والأراضى القابلة للزراعة والأموال اللازمة لوضع البنى التحتية. ولكن تحقيق الأمن الغذائي المستقر والمتنامى تحكمة أبعاد وعوامل كثيرة وعوائق مختلفة بما يمثل معضلة حقيقية فى تطور الدولة بشكل عام .

وختاماً : يبرز في المشهد جدية تعامل الدولة مع تداعيات الأزمة (حتى الأن) وسط سياسات وقرارات متعددة للسيطرة على الوضع والتعامل مع الأزمة ،ومحاولة الوصول بقياسات الأمن الغذائي إلى بر الأمان ،خاصة مع إحتمالية طول أمد الأزمة ،ومن جانب أخر أثارت الأزمة الإدراك بأننا لابد أن نخرج من طيات ردود الفعل والتي تتسم غالباً بالمسكنات المؤقتة ،وأن ندرك ضرورة التعامل مع ملف الأمن الغذائي بإستراتيجيات قصيرة المدى تتناسب مع طبيعة التحدى الدائم ،وكذا ترسيخ فكرة إعتباره كأهم روافد الأمن القومى المصرى .

د . أحمد الشحات

[email protected]

 

 

 

كلمات مفتاحية