الإستراتيجية المصرية لمواجهة تهديدات الأمن القومي

إعداد: رضوى رمضان عبد الفتاح شريف

هبت رياح التهديدات الأمنية الإقليمية منذ العام الماضي على مصر من الاتجاهات الإستراتيجية الأربعة، فالخطر الذي اعتاد الظهور بالاتجاه الشرقي بوجود الجماعات الإرهابية بسيناء، أصبح يحيط مصر من الغرب والجنوب والشمال معًا، حيث شهدت الفترة الأخيرة أوضاعًا جديدةً، بدءًا من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وصولًا بتهديدات شرق المتوسط ووجود قوات أجنبية ومرتزقة بليبيا، فضلًا عن الأزمة السودانية الجارية وصراعات القرن الأفريقي المستمرة.

 تزامنت الأوضاع، ففُرض تغيير المعادلة بالمنطقة، وبخطوة نادرة أعلنت مصر وإسرائيل اتفاقهما بتعزيز الوجود العسكري المصري بمنطقة رفح الشرقية الحدودية شمال جزيرة سيناء بالتاسع من نوفمبر الجاري، وأعلن المتحدث العسكري المصري نجاح اللجنة العسكرية المشتركة، بناءً على الاجتماع التنسيقي مع الجانب الإسرائيلي بتعديل الاتفاقية الأمنية بزيادة عدد قوات حرس الحدود وإمكاناتها بالمنطقة الحدودية “منطقة ج” برفح.

وأضاف بيان للقوات المسلحة، ذلك بضوء المساعي المصرية للحفاظ على الأمن القومي المصري، واستمرارًا لجهود القوات المسلحة بضبط وتأمين الحدود بالاتجاه الإستراتيجي الشمالي الشرقي، وبإطار اتفاقية دولية لتعزيز ركائز الأمن، طبقًا للمستجدات والمتغيرات، ويأتي الاتفاق الأخير استنادًا للملحق الأول بمعاهدة السلام التي وُقعت بين مصر وإسرائيل عام 1979، والتي تتيح تعديل ترتيبات الأمن المتفق عليها بناء على طلب أحد الطرفين وباتفاقهما.

جاء الإعلان بتعديل الاتفاقية الأمنية متزامنًا مع قيام مصر بأول حوار إستراتيجي مع الولايات المتحدة بعد توقف دام 6 سنوات، وتبادلت وجهات النظر بعدد من القضايا المهمة، على رأسهم؛ (دور مصر بالمنطقة العربية والشرق الأوسط – تعميق التعاون الثنائي والإقليمي- الوضع بالسودان -الوضع بغزة – الجهود المصرية لتحويل القاهرة لمركز للطاقة على المستوى الإقليمي – وغيرها)، تناول القضايا بجوهره اعتراف صريح بفاعلية الدور المصري على المستوى الإقليمي، واكتسبت السياسة الخارجية المصرية بالسنوات الأخيرة زخمًا كبيرًا، رغم التهديدات الأمنية من جميع الاتجاهات الإستراتيجية.

أولًا: مفهوم الأمن القومي

قبل الحديث عن التحديات الأمنية المصرية، يجب التطرق بشكل سريع عن مفهوم الأمن القومي، فطبقًا لمقالة ” الأمـــــن القـومـــي – الأسس والمفاهيم النظرية” للواء الدكتور كمال عامر، لا يوجد تعريف متفق عليه للأمن القومي، وتدور معظم التعريفات الخاصة بالأمن القومي حول ارتباطه بحماية الدولة من جميع الأخطار الداخلية والخارجية، فالمفهوم الشامل للأمن القومي، والذي يعني تهيئة الظروف والمناخ المناسب للانطلاق بالإستراتيجية المخططة للتنمية الشاملة؛ لتأمين الدولة من الداخل والخارج، بما يدفع التهديدات باختلاف أبعادها، بالقدر الذي يكفل لشعبها حياة مستقرة، توفر له أقصى طاقة للنهوض والتقدم.  

والهدف الأساسي لإستراتيجية الأمن القومي، هو توفير إرشادات حول إدارة المخاطر المرتبطة بالتحديات المستقبلية، وبالتالي ضمان الأمن الدائم للأمة على المدى الطويل بمواجهة كل من عدم اليقين العام والتهديدات المحددة جيدًا.

يقوم الأمن القومي المصري بشكل خاص على عدة ركائز، ولعل من أهمها وأقدمها هو الجانب العسكري، ، وتغيرت الإستراتيجية العسكرية المصرية بالسنوات الأخيرة؛ نظرًا للتهديدات الحالية، وأصبحت الإستراتيجية العسكرية المصرية دفاعية، لكن إذا هُدِّد الأمن القومي تتحول لشكل هجومي.

لا يقتصر الأمن القومي المصري على الجانب العسكري، فأصبحت مصر تنتهج إستراتيجية أكثر شمولية بالفترة الأخيرة، فالحفاظ على الأمن القومي بصورته الحديثة بدأ يتركز على جوانب التنمية والمجتمع والبيئة والطاقة والموارد الطبيعية والاقتصاد بشكل عام، ويأتي ذلك بإطار إستراتيجية مصر للتنمية المستدامة (رؤية مصر 2030)، وعند ربط كل الركائز ارتباطًا وثيقًا يعطي ذلك عناصر القوة الوطنية.

ثانيًا: الاتجاهات الإستراتيجية المصرية والتهديدات الأمنية الإقليمية

تماست اتجاهات مصر الإستراتيجية الإقليمية الأربعة مع الأمن القومي المصري بشكل مباشر كالآتي:

  • الاتجاه الإستراتيجي الشرقي

يعتبر الاتجاه الشرقي منذ الأزل، بوابة التهديدات لمصر، بدءًا من أولى الغزوات عليها بالعصر الفرعوني، ومن أبرز التحديات فيه تأمين الملاحة بالبحر الأحمر، والقضاء على العناصر الإرهابية، ومكافحة عمليات تهريب المخدرات والذخيرة والمواد الممكن استخدامها بصناعة الأسلحة.

لم ينته الخطر بحدود مصر الشرقية تمامًا، وان تراجع نسبيًّا في 2020، بعد انخفاض التهديدات الإرهابية بشمال سيناء؛ لأنشطة مصر الأمنية المكثفة وحملة احتواء الإرهاب، ومع خطر محدود من الشرق، أحدقت أخطار أخرى من كافة الاتجاهات بالحدود الشرقية، وبحسب تقارير المتحدث الرسمي للقوات المسلحة، فقد شهد عام 2020 مقتل 320 من العناصر الإرهابية بسيناء خلال العمليات الأمنية التي قامت بها القوات المسلحة، وأسفرت العمليات عن مصرع وإصابة أكثر من 55 من عناصر القوات المسلحة بسيناء، تلك الأرقام إن كانت تعني تراجعًا ملحوظًا لخطر الإرهاب بالشرق، إلا أنها تعني أن الخطر لم ينته بالكامل.

  • الاتجاه الإستراتيجي الغربي

أما الاتجاه الإستراتيجي الثاني، فهو الاتجاه الغربي، ويقصد به الحدود (المصرية- الليبية)، فالأمن القومي المصري مرتبط بليبيا، وتطورات الأوضاع فيها، فبالعامين الماضيين، بدت الحدود الغربية مصدر إزعاج رئيسي لمصر؛ لنشاط الجماعات الإرهابية شرق ليبيا، والتي لها انعكاسات بظاهرة تهريب الأفراد والسلع والأسلحة والمخدرات بين البلدين.

رغم أن الوضع السياسي بليبيا مستقر نسبيًّا، إلا أن استمرار وجود قوات أجنبية ومرتزقة وتنظيمات مسلحة بالأراضي الليبية لا يمثل خطرًا كبيرًا على الأمن الليبي ومستقبل ليبيا كدولة فقط، بل على الأمن المصري أيضًا، تقف عملية إخراج المرتزقة من الأراضي الليبية، وكذلك حل الميليشيات المسلحة حجر عثرة أمام أي جهود تستهدف الحل السياسي بالبلاد، كما يوجد مخاوف بقيام تلك التنظيمات ببيع وتهريب الأسلحة مختلفة الطرز للجماعات الإرهابية بالشرق والجنوب الغربي لليبيا.

  • الاتجاه الإستراتيجي الشمالي

يعتبر الاتجاه الشمالي لمصر المطل على البحر الأبيض المتوسط هو الاتجاه الإستراتيجي الثالث، والذي لم يشكل تهديدًا منذ غزو نابليون لمصر، عدا ذلك لم يشكل هذا الاتجاه أي تهديدات، حتى إعلان مصر اكتشافاتها من الغاز الطبيعي والبترول بشرق البحر المتوسط.

زادت الأهمية الجيوستراتيجية لمنطقة شرق المتوسط مع الاكتشافات الهائلة للثروات الطبيعية من النفط والغاز الطبيعي؛ ما أدى لحدوث توترات عكست تضارب مصالح القوى المحلية والإقليمية والدولية، واشتدت هذه التوترات بتنامي مساعي تركيا لتصبح قوة إقليمية ليس بشرق البحر الأبيض المتوسط فقط، بل بالشرق الأوسط عمومًا، وقد اتخذت هذه التوترات مظاهر عديدة، من بينها إرسال تركيا سفن الاستكشاف والتنقيب بمنطقة مُتنازع عليها مع اليونان؛ ما أنذر بنشوب مواجهة عسكرية، قد تتطور لحرب شاملة بين البلدين.

كانت التوترات المتوقعة بطبيعة الحال هي الدافع الإستراتيجي وراء قرار مصر لترسيم الحدود البحرية مع قبرص، واليونان في أغسطس 2020. ووفقًا للقوانين الدولية، تسابقت الشركات الأجنبية، العاملة بمجال التنقيب عن الغاز والبترول؛ للعمل بالمنطقة الاقتصادية، قبالة السواحل المصرية.

 تتخذ تركيا موقفًا متشددًا إزاء دول منتدى شرق المتوسط ومصر بشكل خاص، فعقب توقيع اتفاقية ترسيم المناطق البحرية، والتي بموجبها أصبح بإمكان أطراف الاتفاقية التنقيب عن الغاز والنفط بشرق البحر المتوسط، والاستفادة من الموارد المتاحة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، ولا سيما احتياطيات النفط والغاز.

 أثارت اتفاقية ترسيم الحدود استياء تركيا بشدة، فمازالت تحاول تأمين حصتها من موارد المنطقة؛ لتخرجها من أزماتها الاقتصادية من جهة، وتحقق لها، من جهة أخرى، طموحاتها بالتمدد بمناطق جديدة؛ خروجًا مما تراه حصارًا بمناطق ساحلية ضيقة.

عاندت تركيا بإصرارها التنقيب عن البترول بمناطق غير واقعة تحت سيادتها؛ ما أدى لزيادة القلق الدائم بين تركيا من جهة وبين اليونان وقبرص من جهة أخرى، ولكن مصر لا تقف بعيدًا عن الأزمة؛ حيث حددت انحيازها بالصراع على المتوسط؛ ما يجعلها طرفًا بالأزمات التي تفجرها تركيا هناك؛ باعتبار الأزمة الليبية امتدادًا لطموحات تركيا بشرق المتوسط.

  • الاتجاه الإستراتيجي الجنوبي

بينما يعتبر الاتجاه الإستراتيجي الثالث، هو الاتجاه الجنوبي، ويقصد به الحدود المصرية مع السودان، حتى منابع نهر النيل، والبحر الأحمر، وتشمل تحديات ذلك الاتجاه بالحفاظ على حصة مصر من مياه النيل والتي قد تكون الأزمة الأكثر جدية التي تواجهها مصر، ومن التحديات الأخرى تأمين المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وتنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وعمليات تهريب بالحدود بين مصر والسودان.

ومن المتوقع بأن الاضطرابات الحالية بالسودان من جانب، والحرب الأهلية بإثيوبيا من جانب آخر، ستؤثر تلك التحديات بسريان مفاوضات ملف سد النهضة.

كما تمثل منطقة القرن الأفريقي مصدر تهديد للأمن القومي المصري، فبظل غياب دولة قوية بالصومال، وتفتيتها لعدة أقاليم منفصلة عن بعضها، ومتحاربة منذ بداية تسعينيات القرن العشرين وحتى الآن، ويتمثل هذا التهديد بعرقلة الملاحة بالبحر الأحمر وقناة السويس؛ ما يؤثر سلبًا على مصر من خلال عمليات القرصنة، كما أن الوجود العسكري المباشر لأمريكا وفرنسا من قواعدها العسكرية بجيبوتي أو بقاعدة دييغو جارسيا وأساطيلها بالمحيط الهندي يمثل تهديدًا خطيرًا لأمن مصر والدول العربية المطلة على البحر الأحمر، كما أن التحرك الصيني بهذه المنطقة، والذى يعتمد على فكرة التنمية الاقتصادية والمصالح النفعية البحتة مقابل الهيمنة، هو الدافع الرئيسي للموقف الراهن ضد مصر من قبل دول مثل (كينيا واثيوبيا وأوغندا)، فيما يتعلق بحقوق مصر بنهر النيل.

ومن التهديدات الأُخرى، سيطرة الحوثيين باليمن – من الناحية الأخرى – على مناطق واقعة بمضيق باب المندب، وما يمثله من بوابة جنوبية، للملاحة العالمية بالبحر الأحمر، حتى قناة السويس، التي تعد البوابة الشمالية، للملاحة بالبحر الأحمر، يتطلب ضرورة تأمين البوابتين؛ لضمان سلامة الحركة الملاحية بينهما، ونظرًا لأن الحوثيين باليمن، ممولون من النظام الإيراني؛ لخدمة أهدافه بالمنطقة، فقد ظهر تهديد من تلك الناحية، على سلامة الملاحة بالبحر الأحمر، وهو ما انتبهت له الإدارة المصرية مبكرًا، واستبقته بتأسيس أسطول بحري، جنوبي، يؤمن أهم مصادر الدخل القومي المصري، المتمثل بقناة السويس، ولتأمين استثماراتها الحالية بالمنطقة.

ثالثًا: الإستراتيجية المصرية لمواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية

لطالما سعت رؤية القيادة المصرية للحفاظ على الأمن القومي ومقدرات الشعب المصري على المحاور الإستراتيجية كافة، بتنويع وسائل وطرق مواجهة التهديدات الأمنية المحتملة، والتي تتلخص بالآتي:

  • الإستراتيجية العسكرية المصرية

تغيرت الإستراتيجية العسكرية المصرية بعهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكُوِّنت قوة عسكرية كبيرة، بدعم القوات المسلحة بأسلحة جديدة، وتنويع مصادر السلاح، وإنشاء قواعد عسكرية تُغطِّي الاتجاهات الإستراتيجية المختلفة، وإجراء مناورات عسكرية بهذا الحجم من التسليح والمعدات، بما يحقق الإستراتيجية المصرية، وهي إستراتيجية دفاعية بالمقام الأول، ولكن قد تتحول لشكل هجومي بحالة وجود تهديد مباشر للأمن القومي.

أصبح يوجد فكر عسكري وإستراتيجى جديد تنتهجه القوات المسلحة المصرية، فالاتجاه للقواعد العسكرية، أصبح الأداة التي تسعى إليه بعض الدول، فتمتلك مصر عددًا من القواعد العسكرية؛ حيث افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي في يوليو عام 2017 قاعدة “محمد نجيب”، وهي منشأة عسكرية عملاقة تحتوي على ساحة تدريب رئيسية ومجموعة واسعة من المعدات العسكرية وعشرات الآلاف من القوات القتالية البرية والخاصة، بينما افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي أيضًا في يناير2020 قاعدة برنيس العسكرية البحرية التي تقع بالبحر الأحمر بقرب الحدود (المصرية – السودانية)، والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب.

كما قامت مصر حديثًا في يوليو الماضي من العام الجاري بتدشين أكبر وأضخم قاعدة عسكرية بالحدود المصرية الليبية، وهي قاعدة 3 يوليو، ويعتبر الهدف الإستراتيجي من إنشاء القاعدة البحرية، هو إنشاء كيان عسكري ومركز نقل جديد لمواجهة تزايد التهديدات والأعمال العدائية بالاتجاه الإستراتيجي الغربي؛ ما يضمن سرعة رد الفعل لتأمين الحدود الإستراتيجية الغربية.

تهدف القواعد العسكرية المصرية لتعزيز القوات القتالية العالية للقوات البحرية؛ لحماية الحدود البحرية المصرية من التهديدات والتحديات المحتملة القادمة من الاتجاهات الإستراتيجية المختلفة.

ومن منطلق أن الأمن القومي المصري يرتبط بشكل مباشر مع ليبيا غربًا، والسودان جنوبًا، فإن مصر تعزز وجودها العسكري بالاتجاهات الإستراتيجية؛ للتصدي لأخطار الإرهاب، ومنع تسلل العناصر المرتزقة والإرهابية للبلاد، والمساعدة بتأمين ليبيا والسودان من اتجاه مصر؛ حيث لن يكون هدف القواعد العسكرية منوطًا فقط بتأمين الاتجاهات الإستراتيجية الخاص بمصر، بل وتأمين خطوط النقل البحرية والمحافظة على الأمن البحري، باستخدام المجموعات القتالية من الوحدات السطحية والغواصات والمجهود الجوي.

الجدير بالذِّكر، وفقًا لموقع ” Global Fire Power” المختص بالشؤون العسكرية للدول، بأحدث إحصائية لعام 2021، يحتل الجيش المصري المرتبة الـ13 عالميًّا من ضمن 140 دولة، بقائمة أقوى جيوش العالم، لعام 2021.

  • الإستراتيجية الاقتصادية المصرية

تعكس الخطة الإستراتيجية المصرية طويلة المدى (رؤية مصر 2030)؛ لتحقيق مبادئ وأهداف التنمية المستدامة بكل المجالات، وتوطينها بأجهزة الدولة المصرية المختلفة، وتستند رؤية مصر 2030 على مبادئ التنمية المستدامة الشاملة والتنمية الإقليمية المتوازنة، فتستغل مصر مكانتها الجغرافية الحيوية المهمة المطلة على البحر المتوسط شمالًا، والغني بثروات هائلة من البترول والغاز، وبموجب اتفاق شرق المتوسط تصبح مصر (مركز إقليمي للطاقة)، وإشرافها شرقًا على قناة السويس(أهم ممر ملاحي عالمي للتجارة).

تنوع مصر بحقيبتها لمواجهة التهديدات الأمنية، فهي لا تقتصر بتعزيز قواتها العسكرية الدفاعية فقط. بل تهدف بالمقام الأول للانفتاح العالمي؛ لتحقيق علاقات وتحالفات دولية وإقليمية، بناءً على صفقات اقتصادية مهمة، فقامت مصر بعهد الرئيس عبد الفتاح السيسي بتوقيع صفقات اقتصادية عديدة ومهمة، وكان من أحدثها وأهمها توقيع اتفاقيتين متتابعتين للربط الكهربائي الأُولى مع اليونان، وتلتها مذكرة تفاهم مع قبرص في أكتوبر الماضي؛ لإنشاء شبكة ربط مباشر لتبادل الكهرباء بين البلدين؛ لتحسين أمن الإمداد بالطاقة، وإنشاء خطوط لنقل كميات ضخمة من الطاقة الكهربائية المولدة من الطاقة المتجددة، وتمثل هذه الخطوة – حسب بيان لوزارة الكهرباء المصرية – تسريعًا بتطوير ممر الطاقة من خلال زيادة إمدادات الطاقة الكهربائية لكلٍّ من مصر وقبرص بتحقيق التوازن بالطلب على الطاقة.

ومن الناحية الأُخرى تسعى مصر حاليًّا لعمل مشروع للربط الكهربائي بين دول مجلس التعاون الخليجي؛ لإتمام الربط الكهربائي مع مصر قريبًا، فالتعاون بين مصر ودول الخليج سيُسهم بالربط الكهربائي بين دول المشرق العربي والمغرب العربي.

ولربط المشرق بالمغرب العربي، تخطط مصر أيضًا لربط المشرق بالمغرب العربي، فقد تتجه مصر بالفترة المقبلة للربط الكهربائي مع تونس والمغرب والجزائر؛ للوصول لجنوب أوروبا عبر إسبانيا وقبرص واليونان.

وعن الربط الكهربائي بين مصر ودول أفريقيا، تنوي الحكومة المصرية عمل خطة تعاونية قريبًا مع دولتي (تنزانيا والكونغو) بعد الربط الكهربي مع السودان، وحال إتمام الاتفاق مع إثيوبيا وتحسين العلاقات من الممكن الربط الكهربائي معها أيضًا.

لا تتوقف مساعي مصر بالتنمية والطاقة وعمليات إعادة الإعمار؛ لتحقيق مكاسب اقتصادية فقط، ولفتح كل القنوات والسبل لتعزيز أمن مصر القومي؛ لأنها بجانب المكاسب الاقتصادية، تعطي قوة للشرق الأوسط سياسيًّا، فالقوة الاقتصادية تعني وجود أدوات تمكن من لعب دور سياسي قوي يحمي بشكل أو بآخر الأمن القومي المصري.

فعلى سبيل المثال، تهديدات شرق المتوسط، جاء توقيت الإعلان عن اتفاقية تفاهم بين مصر وقبرص بعد اليونان بظل الأزمة المستمرة للطاقة بأوروبا، فتسعى أوروبا من ناحيتها بخطط متنوعة لتبادل الطاقة، فلا يقتصر الاعتماد على الغاز الروسي فقط، بل والكهرباء من شمال أفريقيا، ويعد البعد الإستراتيجي لقبرص بين اليونان وتركيا مهم جدًّا، فقبرص هي أضعف حلقة لوصل الطاقة بالاتحاد الأوروبي؛ حيث يجب ضرورة ضمان الكهرباء بقبرص.

تزيد مصر من جهودها الدبلوماسية، وتسخر لها السياسة والاقتصاد؛ لقيادة تحالف اقتصادي بجانب أوروبا؛ لمواجهة الخلاف التركي شرق المتوسط، فنجد أن مصر تسير بجهودها لصنع توازنات جديدة بشرق المتوسط، وهي على دراية تامة بمدى عمق حضورها، وتعلم خصومها أيضًا، فستكمل طريقها بالحوار الدبلوماسي مع تركيا؛ للتوصل لحلول من شأنها إفادة الطرفين، لكنها تعترف أن التقدم ليس كبيرًا، وبالناحية الأُخرى، نجد أن الخلاف التركي مع بروكسل لا ينتهي، فيكبُر حذَر اليونان الأمني وتذهب لتعزيز قدراتها العسكرية معتمدةً على فرنسا، وطارقةً باب إسرائيل باتفاقية مشتركة، فيما توسع مع واشنطن اتفاقها الدفاعي، تدرك مصر تلك التغيرات بالحدود الأوروبية البحرية، وتعلم مخاوف بروكسل من عجز الطاقة، فتجد ثغرةً للدخول بحلف اقتصادي، ويجعلها نقطة ارتكاز أوروبي بالشرق.

الخاتمة

رغم أن القدرات العسكرية والأمنية غالبًا ما تصوغ مفاهيم الأمن القومي، إلا أن هناك عوامل عديدة تدخل بتشكيلها، مثل الجغرافيا السياسية، وقدرات الدولة البشرية والاقتصادية، وثرواتها الطبيعية، فاستطاعت مصر ترجمة تلك المفاهيم بشكل فعال من منظور احتياجات اللحظة الحالية والتحديات المستقبلية.

لا شك بأن مصر دولة محبة للسلام، فهي تنتهج لاستخدام القوة الناعمة بسياستها الخارجية، ولحل القضايا الإقليمية، ولكن مع التغيرات الأخيرة والمستجدة بالمنطقة، نجد أنه من الطبيعي أن تبحث دول المنطقة عن تحالفات جديدة، وتقوم باستغلال أوراقها المتعددة؛ فنجد على سبيل المثال، أن تشكيل التعاون الخليجي المصري بمجال الطاقة نواة لمشروع شرق أوسطي عربي أوروبي؛ فمصر حددت ضمن أهدافها الإستراتيجية بأن حماية الأمن القومي الخليجي جزء من الأمن القومي المصري.

 

كلمات مفتاحية