إعداد: رضوى الشريف
باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط
مقدمة:
مع بداية الألفية الجديدة، ووصول الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للسلطة، شهد الشرق الأوسط وأفريقيا عودةً للدبلوماسية الروسية؛ في محاولةٍ لإعادة إحياء العلاقات مع حلفاء السوفييت السابقين، وبناء علاقات أُخرى تسمح لموسكو باكتساب تأثيرٍ على السَّاحة السياسة الدولية، وعقب التغيُّرات السياسية التي اجتاحت المنطقة منذ اندلاع ما يُسمَّى بثوْرات الربيع العربي، وما تبعه من احتجاجاتٍ وحروبٍ أهليةٍ خلال العقد الأخير، ازداد الانخراط الروسي في شؤون الدول التي عاشت تلك الاضطرابات بشكلٍ عامٍ- وبشكلٍ خاصٍّ (سوريا، و ليبيا) -مع تفاوت شكل ومدى الانخراط الرُّوسي فيها، مستغلةً في ذلك عدة عوامل؛ كتراجع دور الولايات المتحدة في عدة ملفات، وضعف الموقف الأوروبي، وحاجة الأطراف المحلية والإقليمية لإمكانيات ودعم موسكو.
بشكلٍ عامٍ، يمكن القول: بأن سياسة موسكو الخارجية تجاه المنطقة تتميز بثلاث سمات أساسية: انتهاز الفرص البراغماتية، وتغييب الأيدولوجيا، وهو ما ساعدها على اكتساب تأثير في عدة ملفات، أبرزها الملف الليبي، كما اعتمدت موسكو على ما يسعى الأساليب دون الحربية أو “الحرب الهجينة”؛ لتعزيز حضورها العسكري عبْر الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة لبناء علاقات عدة مع الأطراف المحلية، وإرسال أسلحة ومعدات حربيةـ
قبل الثورة الليبية 2011، والتدخُّل العسكري لحلف الناتو، كانت العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وليبيا وثيقة ومثمرة؛ نظرًا إلى أن كلا البلديْن كانا يجتمعان على خصومة البيت الأبيض، وبعد سقوط الزعيم الليبي السابق “معمر القذافي”، بحثت موسكو عن حلفاء جُدُد لها داخل ليبيا، التي غرقت في فوضى الميليشيات، وانتشرفيها المتعصبون و”السلفيون الجهاديون”.
وفي الفترة الأخيرة، أُثيرت تساؤلات بشأن الحضور الروسي المتزايد في المشهد السياسي الليبي، والانفتاح على كافَّة الأطراف الليبية (غربًا أو شرقًا)، متجاوزةً بذلك دعمها التقليدي للمنطقة الشرقية؛ فبجانب اللقاءات والزيارات المُكثَّفة التي جمعت بين قائد الجيش الوطني الليبي المشير “خليفة حفتر” مع نائب وزير الدفاع الروسي، خلال الأشهر الماضية، قام رئيس المجلس الأعلى للدولة “محمد تكالة” (المنطقة الغربية) بزيارةٍ إلى موسكو، في شهر ديسمبر الماضي، ومن المتوقع بأن يقوم رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، بزيارةٍ إلى موسكو، خلال العام الجاري.
تسعى هذه الورقة إلى تحليل دوافع وأدوات التحرُّكات الروسية في ليبيا، والتي تُعدُّ جُزْءًا من استراتيجية أكبر تتبعها موسكو في أفريقيا والشرق الأوسط، كما تستعرض الورقة موقف الولايات المتحدة تجاه التدخُّل الرُّوسي.
أولًا: الأهمية الاستراتيجية لليبيا
تحتل ليبيا موقعًا جغرافيًّا مهمًا؛ فهي تتوسَّط 6 دول أفريقية، تقع في صميم المصالح الجيوسياسية لأوروبا والولايات المتحدة وهي (مصر ، والسودان، والجزائر، وتشاد، والنيجر، وتونس)، كما تقع في قلب حوض البحر المتوسط والمغرب العربي، وبهذا فهي تربط أوروبا بأفريقيا وشرق القارة بغربها، عبْر ساحلها الممتد 1800 كم تقريبًا، كما تقع في مركز طُرُق التجارة عبْر الصحراء، وبهذا فهي تُعدُّ بوابة أوروبا لعُمْق القارة السمراء.
واستطاعت ليبيا من موقعها الجغرافي المتميز، بأن تكتسب عبر التاريخ قيمةً كبيرةً؛ حيث تبيَّن عمليًّا وفي أوقات الحروب -تحديدًا – الأهمية الاستراتيجية لليبيا؛ حيث يمكن أن يتم تهديد شرايين مواصلات البحر المتوسط، كما يمكن منه الزحف يمينًا إلى الشرق الأوسط ويسارًا إلى شمال أفريقيا، ومن ثَمَّ تُعدُّ ليبيا “قوة بينية صغيرة تقع بين قوتيْن قطبيتيْن” مصر من الشرق، والمغرب العربي من الغرب، كما يجدر بالإشارة، أن ليبيا لا تتوسط ساحل البحر المتوسط الجنوبي في مواجهة إيطاليا فحسب، لكنها كذلك تقع بين قوسيْ الاستعمار البريطاني في شمال شرق أفريقيا، والفرنسي في شمالها الغربي، وهي بذلك خشبة قفز من القاعدة الأم، ومَوْطِئ قدمٍ على اليابس الأفريقي، ورأس حربة داخل محيط الاستعمار القديم. [1]
وبجانب موقعها الجغرافي المتميز، يُشكِّلُ النفط عاملًا حاسمًا يُضفي على ليبيا أهمية اقتصادية كُبْرى بالنسبة للدول الصناعية الأوروبية والقوى العالمية الرئيسية، وذلك ليس فقط في الأمد القصير، بل أيضًا في المستقبل البعيد؛ حيث تمتلك ليبيا احتياطيًّا من النفط، يبلغ 48 مليار برميل نفط، بالإضافة إلى وجود النفط الصخري، الذي باستثماره سيرفع الاحتياطي إلى 70 مليارًا، وفْق المستشار الليبي في قطاع الغاز والنفط عبدالجليل المعيوف[2]، ويتمتع نفطها بجودة ممتازة وتكاليف استخراج منخفضة نسبيًّا، بالإضافة إلى ذلك، تمتلك البلاد أكثر من 1.5 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي، وتقع مواقع تصدير النفط والغاز في ليبيا على مسافةٍ لا تتجاوز حواليْ 650 كيلومترًا من أوروبا؛ ما يُعزِّزُ من أهميتها الاقتصادية.
ثانيًا: أدوات التحرُّك الرُّوسي في الأزمـة الليبية
هناك تنامٍ واضحٌ، بدأ في التشكُّل للنفوذ الروسي على الساحة الليبية، خاصَّةً في الأشْهُر الأخيرة، وذلك عبْر الانفتاح على الأطراف المتعارضة في المنطقة الغربية في ليبيا، متجاوزةً موسكو بذلك مسألة دعمها التقليدي لقوى شرق ليبيا.
ويُوجد بعض الأدوات التي تنتهجها موسكو في ليبيا، وهي الآتي:
أولًا: التواصُل مع القوى السياسية المختلفة في ليبيا
تسعى موسكو إلى ترسيخ وجودها بشكلٍ فاعلٍ في ليبيا، في كل من الغرب والشرق، متجاوزةً بذلك دعمها التقليدي لقائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر، ومتجهةً نحو توطيد علاقاتها مع الأطراف السياسية في غرب ليبيا؛ حيث تجلَّى ذلك من خلال دعوتها لرئيس المجلس الأعلى للدولة “محمد تكالة”؛ لزيارتها في 2 ديسمبر الماضي. هذا التطور جاء متزامنًا مع اللقاء الرابع للمشير “حفتر”، في بنغازي، مع نائب وزير الدفاع الروسي يفكيروف، ويُذكر أن لقائهما الأول والثاني كان في بنغازي، يوميْ 23 أغسطس و17 سبتمبر، بينما كان اللقاء الثالث في زيارةٍ قام بها المشير “حفتر” إلى موسكو، في 27 سبتمبر الماضي، التقى خلالها بالرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” للمرة الأولى منذ 2019، ومن المتوقع بأن يقوم رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، عبد الحميد الدبيبة، بزيارةٍ إلى موسكو، خلال العام الجاري.
وتتجلَّى مساعي روسيا عبْر فتح قنوات تواُصلٍ مع عدة أطراف على الجهتيْن؛ لاكتساب تأثيرٍ واسعٍ على مسار العملية السياسية في ليبيا، وتكوين روابط بالأطياف السياسية والاجتماعية، فهي على تواصُلٍ أيضًا بنجل القذافي “سيف الإسلام “؛ ما يوضح براغماتية موسكو، التي تسعى لإحداث تأثيرٍ عميقٍ، يتجاوز الطرف السياسي الراهن، وبناء شبكة علاقات مثمرة على المدى البعيد، خصوصًا في ظِلِّ التَّمَلْمُلِ الحاصلِ من نهْج وسلوك بعثة الأمم المتحدة والمبادرات الأوروبية؛ ما يُوفِّرُ أرضية عمل خصبة لروسيا.
لذا يبدو أن روسيا تهدف إلى استغلال هذا التطوُّر في العلاقات لممارسة دوْرٍ بنّاء بين الأطراف المتنازعة في ليبيا؛ الأمر الذي يجعلها قادرةً على لعب دور وساطة بين جميع الأطراف الليبية؛ اعتمادًا على علاقاتها القائمة.
ثانيًا: زيادة الحضور العسكري في شرق ليبيا
بدأ دور الشركات الأمنية والعسكرية الروسية الخاصة في الظهور، في أواخر عام 2015، في بنغازي؛ حيث انتشرت أخبار استعانة المشير خليفة حفتر بشركات أمنية روسية في المعركة بينه وبين مجلس شورى ثوار بنغازي، وفي حين أنه كان ظهورًا خجولًا، إلا أنه ما لبث أن ظهر بوضوحٍ عقب زيارة “حفتر” لموسكو، في ديسمبر 2018؛ حيث التقى بوزير الدفاع “سيرغي شويغو “، وقد شارك في الاجتماع الذي قابل فيه “حفتر” كبار ضباط وزارة الدفاع الروسية، رئيس مجموعة “فاغنر” حينذاك “يفغيني بريغوجين”.
وقد ظهرت نتائج اجتماع كبار ضباط الدفاع و”بريغوجين” مع المشير خليفة حفتر؛ في محاولة دخوله طرابلس في 2019، حين برز دور مجموعة فاغنر بوضوح لأول مرة، فقدمت موسكو دعما كبيرا بمشاركة مجموعة “فاغنر” في العمليات القتالية بما لا يقل عن 2500 مقاتل على امتداد مراحل الحرب، حسب التقديرات الرسمية للمفتش العام لـ”البنتاغون”، كما قدمت دعمًا لوجستيًّا ضخمًا، عبْر إرسال معدات وأسلح،ة وقد رصد تقرير للأمم المتحدة (2020)، وصول 338 رحلةً لطائرات عسكرية روسية، من نوفمبر 2019 وحتى يوليو 2020.[3]
وفي الأشهر الماضية، سربّت بعض المصادر الإخبارية، عن مخططات روسية لإنشاء قاعدة عسكرية على المنفذ البحري في شرق ليبيا، وعلى الرغم من نفْي المسؤولين الرُّوس لذلك، فإن الوصول إلى منفذ بحري على سواحل المتوسط في شرق ليبيا يُعتبر جانبًا استراتيجيًا للتحرُّكات الروسية، هذه التحرُّكات في منطقة المتوسط وشمال أفريقيا تعكس أهميتها في تأثيرها المحتمل على جنوب أوروبا، بالإضافة إلى الفرص اللوجستية الكبيرة التي توفرها ليبيا في هذه المنطقة الحيوية لأوروبا والولايات المتحدة.
ثالثًا: دوافع التحرُّكات الرُّوسية في ليبيا
دائمًا ما يُروِّجُ المسؤولون الرُّوس بانتظامٍ إلى أن الفوضى التي تعيشها ليبيا؛ هي بسبب تدخل الناتو عام 2011، والذي أدانه “بوتين” بشدة آنذاك، باعتباره المثال الواقعي لعدم الاستقرار الذي تسببه التدخلات التي تقودها الولايات المتحدة، وبذلك تكون روسيا قد أثبتت أنها تستطيع تشكيل نتائج سياسية إيجابية في الخارج، من دون عمليات عسكرية مكلفة أو حملات جوية، وبذلك تسعى روسيا لإثبات إحدى استراتيجياتها المركزية التي أعلنتها للعالم في السنوات الأخيرة؛ إذ قالت: إن ما تُخرِّبُه الولايات المتحدة، يمكن لروسيا أن تصلحه.
وتأتي دوافع التحركات الروسية في ليبيا ضمن سياقات متعددة تجتمع جميعها؛ من أجل تعزيز دور موسكو في السياسة العالمية، ونظرًا لموقع ليبيا الجغرافي والجيوسياسي المهم، خاصَّةً بعد الأحداث التي شهدتها منذ عام 2011، والتحديات الداخلية التي تواجهها، فإنها تُشكِّلُ مركزًا استراتيجيًّا لتحقيق هذه الأهداف.
وتتمثل أهم تلك الدوافع في الآتي:
الدافع الأول: ليبيا تُمثِّلُ نقطة انطلاق إلى العُمْق الأفريقي
تسعى روسيا لأن تكون جزءًا من المعادلة في ليبيا؛ لتكون نقطة انطلاق إلى العُمْق الأفريقي وحجر أساس لحماية مصالحها؛ وذلك وفقًا للمفهوم الذي صدر في ديسمبر 2016، والذي كان ينص على أن تعتزم روسيا توسيع علاقاتها مع الدول الأفريقية على مختلف المستويات، سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف، تشمل هذه الجهود تحسين الحوار السياسي، وتقوية العلاقات الاقتصادية والتجارية المتبادلة، وزيادة التعاون في مجالات متنوعة تخدم المصالح المشتركة، كما تشمل المساهمة في منْع النزاعات الإقليمية والأزمات، وتعزيز الشراكة مع الاتحاد الأفريقي، بالإضافة إلى ذلك، يعمل الاتحاد الرُّوسي على تطوير التعاون السياسي، التجاري، الاقتصادي، العسكري، الأمني، التقني، بالإضافة إلى الاتصالات الإنسانية والتعليمية مع الدول الأفريقية ومنظماتها الإقليمية.
وفي السنوات الأخيرة، لُوحظ تركيز روسيا المتزايد على عددٍ من الدول الأفريقية، ومن أبرز هذه الدول: “ليبيا، السودان، جمهورية أفريقيا الوسطى، أنغولا، زيمبابوي، مدغشقر، الكونغو الديمقراطية، غينيا، غينيا بيساو، وموزمبيق”، وقد تجاوزت مبيعات السلاح الرُّوسي لدول القارة مبيعات “فرنسا، والولايات المتحدة، والصين”، وكانت “الجزائر، ومصر، وأنغولا” على رأس قائمة المستوردين، وساهمت عدة عوامل في زيادة صادرات الأسلحة الروسية لأفريقيا، بما في ذلك انخفاض تكلفة الأسلحة الروسية، مقارنةً بالمصدرين الآخرين، النزاعات الإقليمية والأهلية، فرض حظر تسليح على بعض الدول، وعدم فرض موسكو لشروط مسبقة تتعلق بحقوق الإنسان، وقد بلغت صادرات موسكو خلال أربع سنوات 2015-2019 ما نسبته 49% من إجمالي واردات دول القارة.[4]
بالإضافة لملف مبيعات السلاح، جاء انخراط موسكو المتزايد في القارة على شكل تعاون في ملفات أخرى على الصعيديْن الأمني والعسكري؛ حيث وقَّعت موسكو منذ عام 2015 اتفاقيات تعاون عسكري مع 21 دولة، شملت مبيعات السلاح ومِنَح امتيازات وصول لموانئ بحرية وقواعد عسكرية وتدريب قوات محلية وتعاون في ملف مكافحة الإرهاب، كما تمكَّنت موسكو من عقْد اتفاق تأسيس قاعدة عسكرية بسعة 300 عسكري مع السودان[5]، وعلى الصعيد الاقتصادي تحظى الاستثمارات في مجال الطاقة واستكشاف واستخراج الثروات الطبيعية بتركيز واهتمام موسكو، كما تُشكِّلُ الحصة الأكبر من الصفقات المعقودة، وفي بعض الأحيان تستخدم كوسيلة دفع مقابل توفير خدمات عسكرية وأمنية، أو مقابل صفقات تسليح، كما في حالة زيمبابوي.
واعتمدت موسكو خلال السنوات الماضية على الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة، -أبرزها مجموعة “فاغنر”- بشكلٍ متزايدٍ في الأعمال ذات الطابعيْن الأمني والعسكري؛ لتضمن بذلك حرية حركة أكبر، خصوصًا في الساحات المضطربة كـ”السودان، وليبيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى”، والآن تسعى لخلق (فيلق أفريقي روسي) يحل محل قوات “فاغنر” في أفريقيا؛ حيث كشفت صحيفة “فيدوموستي” الروسية في تقرير لها، تم نشره في شهر ديسمبر الماضي، أن موسكو بدأت عملية تشكيل “الفيلق الأفريقي”، بحيث يفترض أن يكتمل هذا الهيكل، بحلول صيف 2024؛ ليكون حاضرًا في 5 دول أفريقية، وفقًا للصحيفة، فإن الفيلق الأفريقي إما نُشر بالفعل أو من المُزْمَع نشره في (بوركينافاسو، وليبيا، ومالي، وجمهورية أفريقيا الوسط،ى والنيجر)، وسيكون الهيكل الجديد تابعًا بشكلٍ مباشرٍ للإدارة العسكرية، ويُشرف عليه الجنرال يونس بك يفكوروف نائب وزير الدفاع الرُّوسي.
الدافع الثاني: إيجاد موطئ قدم جنوب المتوسط لممارسة ضغوط على أوروبا
يُعدُّ الوصول إلى موانئ المياه الدافئة في شرق البحر الأبيض المتوسط ذات أهمية كبيرة لصانع القرار الروسي، كجزء من تعزيز حضورهم كقوة عظمى في النظام العالمي، كما أن الحضور الروسي في ليبيا سيُكْسِبُها نفوذًا كبيرًا على أوروبا على المدى الطويل، وستتحكم موسكو بملفيْن استراتيجييْن بالنسبة للأوروبيين، الأول: ملف الطاقة، والثاني: ملف اللاجئين، الذي لا يزال مصدر قَلَقٍ كبيرٍ لكثير من الدول الأوروبية؛ ما يعني أن أيَّ أزمة أخرى للاجئين تنبثق من ليبيا، يُمكن أن تُعيد التوترات، وتُعزِّز من تصاعُد اليمين المتشدد، ويُزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي الهشّ بالفعل.
وبالتركيز على ملف الطاقة كوْنه يُشكِّلُ أهميةً كبيرةً للدول الأوروبية؛ يجدر بالذكر أنه مع بداية الألفية الجديدة، وظهور مفهوم “أمن الطاقة والصراع بين روسيا وأوروبا” حول تأمين إمدادات النفط والغاز، وتُولِي الولايات المتحدة اهتمامًا كبيرًا لهذا الملف، أُضيف البُعْد الأمني للأهمية الاقتصادية، وبعد الثورة الليبية والفوضى الأمنية التي حلَّت بالبلاد والانقسام التي لاتزال تشهده إلى الآن، أصبحت تتعلق أهمية ليبيا الجيوسياسية بالأمن بمفهومه الشامل، والذي يُشكِّلُ أمن الطاقة أحد محاوره الأساسية؛ فتأمين إمدادات النفط والغاز يُشكِّلُ هاجسًا أمنيًّا قويًّا، وتدور حوله الكثير من المواقف والسياسات الخارجية والداخلية، وهنا يكْمُنُ جزء من خطورة الدور الروسي في ليبيا من منظور “أوروبي – أمريكي”، فقبل الحرب “الروسية – الأوكرانية”، كانت تعتمد أوروبا على روسيا في استيراد ما يقارب 30% من احتياجها من النفط و 40% من احتياجها من الغاز، ولكن بعد الحرب سعت أوروبا بشكلٍ جادٍ في البحث عن مصادر أُخرى؛ لتنويع وارداتها منهما، وبين سعي أوروبا لتنويع مصادرها، وسعي روسيا لتطويق أوروبا، تبرز أهمية دول أفريقيا والشمالية، خصوصًا تلك التي تمتلك احتياطيات كبيرة ومنافذ مُطِلّة على شواطئ أوروبا الجنوبية.
لذا يُشكِّلُ ملف الطاقة أحد أهمِّ الطُّرُق الأساسية التي تفرض بها روسيا نفوذها، وهو ملف يطغى فيه البُعْدان الأمني والسياسي على البُعْد الاقتصادي، وفي ظل الصراع والانقسام الحاصل في ليبيا اليوم، وجدت روسيا لنفسها مكانًا -عبْر دعم المشير “حفتر” في المنطقة الممتدة، عبْر حوضيْ “سرت، ومرزق” اللذيْن يزخران بمخزونات كبيرة من النفط والغاز؛ حيث يضمن هذا التمركُز التواجد بالقرب من أهم حقول النفط المنتجة، والتواجد وسط المخزونات النفطية والغازية التي حتى لم تستخرج بعد.
رغم أهمية ملف “الطاقة” في توجيه السياسة الخارجية الروسية؛ حيث يُشكِّلُ أحد الطرق التقليدية الثلاث: السلاح والطاقة والبنية التحتية المستخدمة من قِبَلِ روسيا لبسْط هيمنتها، إلا أنها لا تُعدُّ مُحرِّكًا أساسيًّا للسياسة الرُّوسية في ليبيا؛ إذ تنطلق روسيا في تحرُّكاتها في ليبيا من دوافع جيوسياسية بالدرجة الأولى، فالتحرُّكات الروسية في ليبيا شبيهة بتلك التي تقوم بها الآن في أوكرانيا، وسوريا ما قبْل التدخُّل المباشر في 2015، من جهة الأساليب المستخدمة، واستغلال ظروف الساحة السياسية الدولية؛ حيث استغلت اضطراب الساحة واحتياج الأطراف المحلية للدعم؛ لتعزيز حضورها باستخدام أساليب غير تقليدية لخدمة أهدافها الاستراتيجية، مع الأخذ في الاعتبار، الفارق بين الأمثلة المذكورة من حيث الأهمية الاستراتيجية لكُلٍّ منها بالنسبة لموسكو وحجم نفوذ الأخيرة ومدى تأثُّرِها فيها.
رابعًا: كيف تقرأ واشنطن تحرُّكات روسيا في ليبيا؟
دومًا ما تصطدم مشاريع روسيا الطموحة في ليبيا بالمخططات الغربية التي تسعى لإجهاضها؛ فالبيت الأبيض يُعبِّر صراحًة عن رفضه الحضور الروسي المُكثَّف في الأراضي الليبية، ويُدين المسؤولون الأميركيون نشاط قوات “فاغنر”، رغم أنه يأتي بالاتفاق مع الجهات الليبية المختصة، وفي إطار حفظ الأمن.
وفي أواخر عام 2018، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق جون بولتون، عن استراتيجية أمريكية جديدة؛ تهدف إلى مواجهة كُلٍّ من “الصين، وروسيا” في أفريقيا، بعدما بات واضحًا أن موسكو نجحت في تعزيز حضورها في أفريقيا.
وتشعر واشنطن عمومًا بالقلق من استعادة روسيا مكانتها في ليبيا؛ وبناء عليه، سعت إلى تعزيز تحرُّكاتها السياسية خلال الشهور الماضية؛ ففي مطلع عام 2023، قام مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية بزيارةٍ إلى ليبيا، وقابل قائد الجيش الوطني الليبي المشير “حفتر”، وحرص على لقاء رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبد الحميد الدبيبة، في طرابلس.
تبعت ذلك زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، باربرا ليف، إلى ليبيا؛ حيث عقدت سلسلة اجتماعات مع القادة في الشرق والغرب، برفقة المبعوث الأمريكي إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، والقائم بأعمال السفارة الأمريكية ليزلي أوردمان.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن، قد طرح في مارس 2023، مشروعًا بشأن ليبيا يمتد لعقْدٍ كاملٍ، يستهدف ضمان مكاسب ومصالح استراتيجية لواشنطن والعواصم الأوروبية، إضافةً إلى وقْف التمدُّد الروسي، وتجنيب مصادر الطاقة الصراع السياسي والعسكري بين الأطراف المحلية.
تدرك موسكو أن حضورها داخل ليبيا لن يكون محل ترحيب من القوى الغربية، لكنها في الوقت ذاته، لا تريد ترك الساحة خاليةً لواشنطن وحلفائها للهيمنة على أفريقيا، وخصوصًا أن روسيا لها علاقات تاريخية متينة مع تلك البلدان، كما أن النشاط الروسي محلّ ترحيبٍ من الشعوب العربية والأفريقية؛ إذ يأتي في إطار التعاون وتحقيق المصالح المشتركة.
الخاتمة:
يُمكن القول: إنه بينما تُركِّزُ الدول الغربية على الحرب في أوكرانيا، والآن الحرب الإسرائيلية على غزة، تبحث روسيا عما يمكن تسميته بـ ” نقاط ضعف خصومها” في أنحاء مختلفة من العالم، لا سيما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفي هذا السياق، تبرز ليبيا كأرض الفرص” بالنسبة إلى صانع القرار الروسي، بما تعنيه من “أولوية استراتيجية”، في إطار المواجهة مع الدول الغربية، وكما يبدو، تنظر روسيا إلى الملف الليبي على أنه أحد الملفات التي يجب أن تُولِيها اهتمامًا خاصًّا؛ بسبب حجم المصالح السياسية والاقتصادية، والاستراتيجية أيضًا، تلك التي تسعى روسيا إلى حمايتها وتعزيزها في القارة الأفريقية عبْر البوابة الليبية.
كما يمكن القول أيضًا: بأن موسكو نجحت على مدار السنوات الماضية، في فرْض نفسها على الساحة الليبية، بالشكل الذي دفع جميع الأطراف إلى طَرْق أبوابها، والسعي نحو التفاهم معها، وخلْق حالة إعلامية في دول الجنوب ناقمة على الدور العسكري الغربي، الذي تسبّب في تخريب العديد من البلدان وإشاعة الفوضى فيها.
وبالرغم من تعدُّد دوافع الاهتمام الروسي بليبيا، إلا أن هناك بعض التحديات التي تواجه موسكو؛ فيُوجد تحدٍّ أساسيٌّ يتعلق بتداعيات الصراع الدولي في المشهد الليبي؛ حيث تتقاطع الاستراتيجيات الدولية والإقليمية في ليبيا بشكلٍ يمنع أيَّ طرف من السيطرة الكاملة على هذا الساحة، كما أن تواجد روسيا في ليبيا واستراتيجيتها، المتمثلة في بسْط نفوذها في أفريقيا، من خلال ليبيا له تَبِعَاتٌ كبيرةٌ، بما يجعل الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين لا يمكنهم صرْف النظر عنها، وبما يُؤَشِّرُ إلى أن الفترة القادمة ربما تشهد تنافُسًا متصاعدًا بين هذه القوى الدولية في ليبيا، كما في المتوسط.
فيما يتعلق التحدي الثاني، بتأثير ليبيا الجيوستراتيجي على جنوب أوروبا، فمن دون شك، فإن حضور روسيا في ليبيا يُكْسِبُها نفوذًا كبيرًا على دول أوروبا خاصَّةً الجنوبية؛ حيث يمكن لروسيا من خلال تعزيز وجودها في ليبيا أن تُؤَثِّرَ في ملفيْن استراتيجييْن بالنسبة للأوروبيين، وهما ملف الطاقة وملف اللاجئين؛ بما يعني أن أيَّ أزمة للاجئين تنبثق من ليبيا، يمكن أن تُعيد التوترات، وتُعزِّزُ من تصاعُد اليمين المتشدد، وتزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي.
ومن ثَمَّ، تُمثل تداعيات هذا الحضور الروسي، في الإطار العام للموقف الأوروبي من الحرب “الروسية – الأوكرانية”، إحدى أهم الإشكاليات التي سوف تواجهها روسيا؛ نتيجة محاولاتها الدائمة لتأكيد حضورها في ليبيا.
المصادر:
[1] “فقيه، علي، محمد. “رؤية المفكر جمال حمدان لأهمية ليبيا الإستراتيجية”. تم الدخول 10 نوفمبر 2023. متاح على الرابط الاتي : https://shorturl.at/atyK2
[2] ” تفاصيل خطة ليبيا لإضافة 100 ألف برميل نفط إلى إنتاجها اليومي”. سكاي نيوز. تم الدخول 10 نوفمبر 2023.متاح على الرابط الأتي: https://shorturl.at/izF35
[3] 73Michelle Nichols, Russia steps up support for private military contractor in Libya: U.N report, Rueters, 02-Sep-2020
[4] Trends in International Arms Transfer, 2019, SPIR
[5] 63 Alexander bratersky, Sudan to host Russian military base, DefenseNews 13-Nov-2020