التدافع نحو التوجه لإفريقيا

مصطفي أحمد مقلد

مقدمة

وضعت الحرب الروسية ضد أوكرانيا مئات الملايين من الفقراء حول العالم في مرمى الجوع ونقص الغذاء وارتفاع أسعاره إلى معدلات غير مسبوقة، بعد أن أوقفت المعارك والعقوبات الغربية على موسكو سلاسل إمداد الحبوب والبذور الزيتية والأسمدة، ما فاقم خطر المجاعة في إفريقيا التي تتعرض لموجات جفاف وصراعات مسلحة، الأمر الذي دفع رئيس الإتحاد الإفريقى “الرئيس السنغالي” (ماكى سال) إلى زيارة روسيا للقاء نظيره الرئيس الروسى “بوتين” ومطالبته أن “يدرك” أن الدول الأفريقية “ضحية” للنزاع في أوكرانيا.

وحذرت تقارير أممية ودولية من تعرض أكثر من ربع سكان القارة الأفريقية إلى مخاطر الجوع نتيجة لتداعيات الحرب، كما أعلنت بعض الدول الأفريقية الأشد فقراً حالة الطوارئ الغذائية بالفعل، وناشدت المجتمع الدولى التدخل العاجل، فضلاً عن الغموض الذي يكتنف قدرة المزارعين في أوكرانيا على حصاد محاصيل الحبوب الجاهزة للحصاد في شهر يونيو الماضى وتسليمها إلى الأسواق العالمية التي يتوقع خبراؤها أن يؤدى الصراع لإنخفاض بنسبة أكثر من 50 في المئة في إنتاج الحبوب في أوكرانيا.

وتوضح شبكة “ريليف ويب” الإغاثية في تقرير حول أزمة الغذاء في غرب أفريقيا، أن إنتاج الحبوب إنخفض في منطقة الساحل بنحو الثلث مقارنة مع العام الماضى، وأصبحت الإمدادات الغذائية آخذة في النفاد، حيث أجبر الجفاف والفيضانات والصراعات والآثار الاقتصادية لـ”كوفيد-19″ ملايين الأشخاص على ترك أراضيهم، مما دفعهم إلى حافة الهاوية.

وتتفق جميع تقارير رصد النشاط الإرهابى الصادرة عن الأمم المتحدة ومراكز الأبحاث المستقلة، على أن تلك العوامل تمثل سبباً رئيساً في الصراعات اللانهائية في المنطقة، بما في ذلك أنماط الإرهاب المحلى والتمرد المسلح المنتشرة، وهو وضع سيتفاقم بالنظر إلى التداعيات بعيدة المدى للحرب الروسية والصراع الأوسع بين موسكو والغرب بشكل عام، مما يجعل السكان المحليين فريسة سهلة لأنشطة التجنيد والاستقطاب من جانب التنظيمات الإرهابية، بالإضافة إلى النزاعات الدموية بين المزارعين والرعاة.

كان رئيس الوزراء الإيطالى “ماريو دراغي” أول من حذر من خسارة دعم الأفارقة إذا لم توفر القوى الغربية الدعم اللازم لبلدانهم من الغذاء، مؤكدا أنه “لا يمكن خسارة معركة الأمن الغذائى، وإلا فإن الدول التي تهددها المجاعة، وليست بالفعل مع الغرب ستشعر بالخيانة ولن تنحاز أبداً إلى جانبنا”.

زيارة لافروف الي إفريقيا

أصر وزير الخارجية الروسى “سيرجي لافروف” على أن رحلته الإفريقية التي قام بها بين “24-28 يوليو المنقضى” كانت زيارة “روتينية”، ويعتقد المعلقون الغربيون أنها تهدف لكسب التأييد للحرب الروسية في أوكرانيا، وصرح لافروف أن روسيا تتمتع بعلاقات سياسية وإقتصادية جيدة مع جميع الدول الأربع في خط سير رحلته “مصر وإثيوبيا وأوغندا وجمهورية الكونغو”. وأشار إلى أن مصر كانت “الشريك الأول لروسيا في إفريقيا”.

من الواضح أن رحلته كانت تهدف أيضًا إلى الترويج للرواية الروسية بأن حرب أوكرانيا كانت تدور حول مواجهة الهيمنة الغربية العالمية، وتسببت تلك العقوبات ضد روسيا في ظهور أزمة الغذاء العالمية بشكل أكثر حدة في إفريقيا.، وذلك علي نقيض الرواية الغربية التي ترى السبب هو الحصار الروسى لصادرات الحبوب من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود.

في الواقع، انخرط لافروف في حرب دعائية افتراضية مع الرئيس الفرنسي “ماكرون”، الذي كان أيضًا في رحلة متزامنة الي أفريقيا مع زيارة لافروف – ربما ليس من قبيل الصدفة – لزيارة الكاميرون وبنين وغينيا بيساو، ووصف ماكرون روسيا بأنها “واحدة من آخر القوى الاستعمارية الإمبريالية المتبقية”.

كانت الزيارات المتنافسة دليلاً آخر على أن حرب روسيا ضد أوكرانيا أعادت العالم إلى مواقف الحرب الباردة والمخاطرة بجعل إفريقيا ساحة معركة بالوكالة مرة أخرى حيث سيعقد رئيس الولايات المتحدة جو بايدن قمته التي طال انتظارها للزعماء الأفارقة في ديسمبرالمقبل، وأعلن لافروف في القاهرة أن القمة الروسية الأفريقية الثانية ستعقد العام المقبل.

لم تكن مصادفة أن يزور لافروف إفريقيا بعد فترة وجيزة من موافقة روسيا على رفع حصارها عن أوديسا وموانئ أوكرانيا الأخرى على البحر الأسود، فالاتفاق الذي تم إبرامه، سيسمح بتصدير أكثر من 20 مليون طن من الحبوب الأوكرانية المحظورة إلى الأسواق العالمية، كما أن الاتفاقية الكاملة بشأن فتح أوديسا كانت خطوة استراتيجية للغاية من جانب روسيا حيث كانت أوكرانيا تدير الخطاب العالمي بذكاء؛ لقد كانت تروج لروايتها عن “العملية العسكرية الروسية”.

حاول بوتين إلقاء اللوم على أوكرانيا لحظر الحبوب لأنها قامت بتلغيم موانئها لكن هذه الرواية الروسية لم تفلح، ويشعر بوتين أنه يخسر صراع الدعاية، وبالتالي فإن رفع الحظر المفروض على الحبوب كان خطوة متعمدة لإظهار أن روسيا كانت تستجيب للنداءات الأفريقية.

يرى “ستيفن جروز”، رئيس مشروع روسيا وأفريقيا في معهد جنوب إفريقيا للشؤون الدولية ، على أن بوتين أرسل لافروف إلى إفريقيا جزئيًا كخطوة دعائية، ولكن أيضًا “لمواجهة العلاقات العامة الفعالة للغاية التي وطدها الرئيس الاوكرانى “زيلينسكي” عبر وسائل التواصل الإجتماعى، ويعتقد جروز أيضًا أن الزيارة هي “حيلة متعمدة من قبل روسيا لإظهار أنها ليست معزولة ولا يزال بإمكانها الحصول على الدعم على المسرح الدولى “.

من هذا المنطلق، كانت إفريقيا خيارًا جيدًا لروسيا، حيث كانت القارة أقل انتقادًا لروسيا من المناطق الأخرى، حيث امتنعت 25 دولة من أصل 54 عن التصويت أو لم تصوت لإدانة الغزو الروسى لأوكرانيا خلال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 مارس الماضى، كان هذا أعلى بكثير من المتوسط ​​في المناطق الأخرى. وتقول جنوب إفريقيا والعديد من هؤلاء الخمسة والعشرين إنهم سيظلون “غير منحازين”.

من المنطقى ألا تتورط الدول الإفريقية في حرب في أوروبا البعيدة، لذا فإن زيارة إفريقيا تساعد لافروف في التأكيد على رواية الحرب الباردة، كما يلاحظ جوزيف سيجل، مدير الأبحاث في مركز إفريقيا للدراسات الإستراتيجية في واشنطن، أن فاغنر “وكيل” لبوتين لمواجهة النفوذ الغربي.

ويقترح سيجل أن لدى روسيا الكثير لتكسبه من العلاقات الأفضل مع إفريقيا، وتعد روسيا بالفعل أكبر مورد للأسلحة للقارة وقد تأمل في زيادة هذا، لكنها تعد مستثمرًا وتاجرًا صغيرًا مقارنة بالغرب والصين.

وقبل الجولة بعدة أشهر، أبرمت روسيا اتفاقيات سياسية وعسكرية مع عدد من البلدان الإفريقية، ففي مالى، جرى نشر مئات المستشارين العسكريين الروس في مطلع يناير 2022 فيما أعلن الجيش في مالى أنه طلب من عناصر “مجموعة فاغنر” شبه العسكرية الروسية المثيرة للجدل المساعدة “في تدريب قواتها الأمنية”.

وقد أثار هذا الأمر الكثير من الريبة حيث كانت مهمة تدريب قوات الأمن في مالى منوطة بها بعثة التدريب الأوروبية في مالى، لكن البلاد تعرضت لعقوبات إقليمية ودولية عقب عدم وفاء سلطات البلاد بالجدول الزمنى لإجراء الانتخابات الرئاسية عقب إطاحة الكولونيل أسيمي غويتا بالرئيس “إبراهيم بوبكر كيتا” في انقلاب قبل عامين.

التقارب الروسى الإفريقى بدأ في العقد الثانى من الألفية، حينما بدأت موسكو تؤسس لصعودها في نادى الكبار بالنظام الدولى، وبدأت في بلورة توجهاتها الاستراتيجية، حيث شهد عام 2015  قفزات واضحة في الدور الروسى، خصوصاً بعد إعلان العقيدة العسكرية الروسية في نسختها الرابعة.

هذا الصعود الروسى فى النطاق الدولى توازى معه بداية أزمة العلاقات الإفريقية الغربية ومعاناتها من سياق مأزوم على نحو كبير، في ضوء تقييمات سلبية للنخب الإفريقية بشأن السياسات الغربية في إفريقيا من جانب النخب الرسمية أو غير الرسمية الإفريقية، وذلك لأسباب:

أن المقاربات الغربية لتطوير الدول الإفريقية التي بدأت في تسعينيات القرن الماضى قد تأسست على مشروطيات صندوق النقد والبنك الدوليين في الإصلاح الاقتصادى، وهي المشروطيات التي لم تراع الهياكل الاقتصادية، ولا البنى الاجتماعية والثقافية للقارة، حيث نتج من هذه المقاربات إتساع لظاهرة الفقر الذي أنتج دعماً لقدرات التنظيمات الإرهابية عبر تجنيد جيوش من السكان الفقراء لصالحهم، وكانت المحصلة عدم الإستقرار السياسى للدول الإفريقية.

ويمكن القول إن التقييم الإفريقى العام لنتائج المقاربات الغربية في القارة خلال الأعوام الأربعين الماضية كان سلبياً، خصوصاً مع إشكالية التمسك بالتطور الديمقراطى الإفريقى، وهو ما ظهر جلياً في الموقف الفرنسى من التطورات غير الدستورية في تشاد، واستمرار آليات النزوح للثروات الإفريقية عبر الشركات العابرة للجنسية بعوائد مالية غير عادلة للإقتصادات الإفريقية.

هذا التقييم الإفريقي السلبي للغرب لم يقتصر على النخب الرسمية، لكنه اخترق المجال العام الإفريقى ليتم التعبير عنه في تظاهرات شعبية اندلعت ضد النفوذ الفرنسى في كل من تشاد والنيجر ومالى، كما أنه يمكن رصد اتجاهات الشباب الإفريقى من خلال مسارات وحوارات المؤتمرات الفرنسية الإفريقية،وهى آليات لجأت إليها باريس بهدف تحسين صورتها، وتجاوز مشكلاتها مع عدد من الدول الأفريقية، أبرزها “الجزائر ومالى” التي وصل فيهما التلاسن السياسي بين الأطراف لمستويات غير مسبوقة، وكشفت عن حجم الخسائر الفرنسية فى إفريقيا.

وفي الأخير، فإن الدعم الجيوسياسى الذي تقدمه الدول الأفريقية أساسى لكل أطراف النظام الدولى، حيث إنها تشكل أكبر كتلة تصويت جغرافية بما يزيد داخل عدد من المؤسسات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية العالمية، وبالتالى فإن الدعم الإفريقى مغرِ وجاذب لروسيا فى إطار سعيها لتأمين الدعم الدولى لمواقفها في أوكرانيا من جهة، وتأمين مواقف سياسية داعمة أو على الأقل محايدة في هذا التوقيت الدقيق.

في سياق إعادة بناء العلاقات ما بعد السوفييتية ومحاولة الآن إنشاء نموذج جديد للنظام العالمى، تحتاج روسيا إلى أن تكون أكثر انفتاحًا بدلاً من عزل نفسها، على سبيل المثال ، إفريقيا قد تكون صديق جيد لأنها تمتلك فرصًا هائلة في مختلف القطاعات للمستثمرين.

على الرغم من الانتقادات، أنشأت الصين قوة اقتصادية مميزة في إفريقيا وإلى جانب الصين، تستفيد إفريقيا إلى حد كبير من الاتحاد الأوروبى وتدفقات المساعدات الغربية والعلاقات الاقتصادية والتجارية. وبالمقارنة ، تلعب روسيا دورًا ضئيلًا جدًا في البنية التحتية والزراعة والصناعة في إفريقيا، وتبذل القليل من الجهود للاستفادة من منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA). ويظهر أن مجتمع الأعمال الروسى بالكاد يهتم بأهمية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية (AfCFTA) التي توفر منصة فريدة وقيمة للشركات للوصول إلى سوق إفريقى متكامل يضم أكثر من 1.3 مليار شخص.

من الناحية الموضوعية، تجلب روسيا القليل للقارة خاصة في القطاعات الاقتصادية التى هى في أمس الحاجة إلى الاستثمار. بالطبع ، تهدف روسيا إلى استعادة جزء من نفوذها في الحقبة السوفيتية، لكنها تواجه مشاكل في التخطيط ومعالجة المهام المحددة لها، وعدم الثقة في تحقيق أهدافها السياسية. وأهم جانب هو كيفية جعل الجهود الإستراتيجية أكثر عملية واتساقا وفعالية مع البلدان الإفريقية. بدون هذه العوامل الأساسية، سيكون حلمًا وهميًا التفكير في الشراكة مع إفريقيا.

وعلي جانب أخر، تأتى زيارة المبعوث الأميركي الخاص للقرن الإفريقى، مايك هامر، لإثيوبيا ضمن جولة إقليمية تشمل كلاً من مصر والإمارات وإثيوبيا لبحث قضايا متعددة ما بين الوضع الإقليمى للمنطقة والشأن الداخلى الإثيوبى، ويشار إلى أن مزامنة زيارة المبعوث الأميركى للقرن الإفريقى مع جولة وزير الخارجية الروسى “سيرغى لافروف” ضمن التحضيرات للقمة الإفريقية – الروسية الثانية، لم تكن نتيجة مصادفة، بل تشير إلى التسابق الاستراتيجي بين القوى الدولية.

زيارة ماكرون لإفريقيا

وتأتى زيارة ماكرون فى “25من يوليو المنقضى” على خلفية تأزم علاقات باريس مع مالى بعد تدهور العلاقات بين باريس وباماكو منذ استيلاء العسكر على السلطة عقب انقلابين عسكريين في 2020 و2021، وتريد باريس -التي تقوم حالياً بعملية إعادة انتشار لقواتها في منطقة الساحل وبلدان خليج غينيا- إقامة «شراكة جديدة» مع بلدان القارة الإفريقية التي تقيم معها علاقات وثيقة معها منذ عقود. وتستشعر باريس تنامى شعور العداء لحضورها الإفريقي، كما أنها تعاني من منافسة ثلاثية “صينية – روسية – تركية” تهدد مصالحها، كما برز ذلك في الأشهر الأخيرة مع وصول ميليشيا «فاغنر» الروسية إلى مالى.

وبما أن الزيارة تتم على خلفية أزمة غذائية عالمية تضرب القارة الإفريقية بالدرجة الأولى، بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن ماكرون يروّج للمبادرة التي أطلقها والمسماة «FARM» والتي تقوم على ثلاثة أسس: مساعدة القطاع الزراعى الإفريقى ودفعه إلى الأمام، وتوفير الشروط الضرورية لإقامة شراكة مفيدة مع أوروبا، وأخيراً تمكين المناطق الأفريقية من «السيادة الغذائية»، أي الاكتفاء الذاتي.

إفريقيا كمصدر طاقة لأوروبا

قدّم الإتحاد الأوروبي إستراتيجيته الخاصة بالهيدروجين في عام 2020، واقترح التحول إلى الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2050، والاعتماد على إمدادات ثابتة تأتي من إفريقيا.

ومن المتوقع أن تصبح إفريقيا الموقع المفضل لإقتصاد الهيدروجين الأخضر نظرًا إلى وفرة الأراضى، وسهولة الوصول إلى مصادر المياه ومرافق الموانئ، ما يمكّن إفريقيا من وضع نفسها مركزًا رئيسًا لتصدير الهيدروجين. نظرًا إلى وجود وفرة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وقربها من الأسواق الأوروبية، تقود مصر عملية البناء المتسارع لأكبر مشروع هيدروجين أخضر على مستوى العالم.

تنامى النفوذ الصينى فى إفريقيا

بدأ وزير الخارجية الصينى “وانغ يي” عام 2022 بزيارة تستغرق أربعة أيام إلى إريتريا وكينيا وجزر القمر، محافظًا على تقليد دام 32 عامًا بأن يقوم أكبر دبلوماسى في البلاد بأول رحلة له فى العام إلى إفريقيا، وهو تقليد يعكس طموح الصين في توطيد علاقاتها مع إفريقيا حيث منذ عام 2011، كانت الصين أكبر لاعب في طفرة البنية التحتية في إفريقيا، وتطالب بحصة 40٪ وتستمر في الارتفاع، وفى غضون ذلك، تنخفض أسهم اللاعبين الآخرين بشكل حاد حيث انخفضت أوروبا من 44٪ إلى 34٪ ، بينما انخفض وجود المقاولين الأمريكيين من 24٪ إلى 6.7٪ فقط.

البنية التحتية هي أكثر ما تحتاجه إفريقيا وهى أكثر ما تحتاج الصين لتقديمه، على مدى العقود القليلة الماضية، صدمت الصين العالم بالطريقة التي استخدمت بها البنية التحتية لدفع النمو الاقتصادى، من إنشاء شبكة سكك حديدية عالية السرعة، وتمهيد الطرق السريعة الجديدة، وبناء مناطق حضرية جديدة، ونمى الناتج المحلى الإجمالى للصين بأكثر من 10 أضعاف، ليحتل المرتبة الثانية في العالم اليوم.

تعد الصين الآن أكبر شريك تجاري لإفريقيا، حيث تتجاوز التجارة الصينية الأفريقية 200 مليار دولار سنويًا، حيث تعمل حاليًا أكثر من 10ألاف شركة مملوكة للصين في جميع أنحاء القارة الإفريقية، وتبلغ قيمة الأعمال الصينية هناك منذ عام 2005 أكثر من 2 تريليون دولار. كما أعلنت بكين مؤخرًا عن صندوق لتطوير البنية التحتية لمبادرة الحزام والطريق في إفريقيا بقيمة 64مليار دولار.

تحتاج الصين إلى ما تمتلكه إفريقيا من أجل الاستقرار الاقتصادي والسياسي طويل الأمد، حيث يأتى أكثر من ثلث نفط الصين من إفريقيا، وكذلك 20٪ من قطن البلاد، كما تمتلك إفريقيا ما يقرب من نصف مخزون العالم من المنجنيز، وهو مكون أساسى لإنتاج الصلب، وتمتلك جمهورية الكونغو الديمقراطية بمفردها نصف الكوبالت الموجود على كوكب الأرض، بجانب ذلك تمتلك إفريقيا أيضًا كميات كبيرة من الكولتان، وهو أمر ضروري للإلكترونيات.

وعلى هذا، هناك فكرة خاطئة شائعة مفادها أن جميع المشاريع الصينية في إفريقيا تحظى بدعم بكين، لكن فى أغلب الأحيان، تعمل الشركات الصينية المملوكة للدولة في إفريقيا في مشاريع ربحية بحتة لا تضع طموحات حكومتها في الاعتبار. ومن هنا، قد يكون من الصعب فصل النوايا التجارية للصين في إفريقيا عن النوايا الإستراتيجية، حيث أنه في كثير من الحالات، يتداخل الاثنان بشكل حتمي. لذا ، في حين أن البنية التحتية التي يتم بناؤها على الأرض قد لا تكون بالضرورة مدبرة من قبل بكين، فإنها في النهاية تلعب دورًا في المصالح الجغرافية والاقتصادية الأوسع للصين.

يمكن تحديد الأهداف الصينية فيما يتعلق بالعلاقات مع إفريقيا فى: الوصول إلى الموارد الطبيعية للقارة، والوصول لأسواق تصدير كبيرة وكثيفة الإستهلاك؛ والاستقرار الاقتصادي والسياسي الكافي للصين لحماية مواطنيها وتحقيق مصالحها الاقتصادية والتجارية، كما أن الصين تريد الشرعية السياسية حيث تعتقد أن تعزيز العلاقات الصينية الأفريقية تساعد فى رفع النفوذ الدولى للصين وذلك من خلال إعراب الحكومات الأفريقية عن دعمها لسياسة بكين “صين واحدة”، وهي شرط أساسى لجذب المساعدات والاستثمارات الصينية.

ويأمل العديد من القادة الأفارقة أن تتفاعل الصين معهم بطرق لا تفعلها الولايات المتحدة والحكومات الغربية الأخرى من خلال الانخراط اقتصاديًا دون الوعظ المتعالي بشأن الحكم الرشيد، أو من خلال الاستثمار في المشاريع عالية المخاطر أو في المناطق النائية التي لا تروق للحكومات أو الشركات الغربية كما يتطلع بعض الأفارقة إلى تكرار التنمية الاقتصادية السريعة للصين ويعتقدون أن دولهم يمكن أن تستفيد من تجربة الصين الأخيرة في انتشال نفسها من الفقر.

وفي سياق موازِ يحذر مراقبو الحكم الرشيد من أن الصين تتفاوض على صفقات غير عادلة تستفيد من نقاط الضعف النسبية للحكومات الأفريقية والتي تعزز الفساد، ويري الكثير منهم أن الصين تدير علاقة إستعمارية جديدة حيث تصدر إفريقيا المواد الخام إلى الصين مقابل السلع المصنعة، وفي بعض البلدان أدى الاستياء من الممارسات التجارية الصينية إلى احتجاجات شعبية وأعمال عنف ضد رجال الأعمال والمهاجرين الصينيين.

المشاركة الصينية لا تقوض بشكل أساسى الأهداف الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة في القارة بل على العكس من ذلك، تساعد البنية التحتية المبنية فى الصين على تقليل تكاليف تشغيل الشركات وتوسيع حجم الأسواق الإقليمية، مما يزيد من فرص المشاريع المربحة من قبل المستثمرين المحليين والأمريكيين.وفي حين أن الولايات المتحدة والصين قد لا يكونان منافسين إستراتيجيين في إفريقيا، يمكن أن يتنافس البلدان بشكل متزايد تجاريًا إذا أصبحت الشركات الأمريكية أكثر انخراطًا في الأسواق الأفريقية.

إن توطيد قبضة الصين على النخب السياسية والاجتماعية في كينيا وتنزانيا يخلق نفوذاً “يسهل تحقيق الأهداف الاقتصادية والسياسية على المستويين الإقليمي والوطني”. وفى سعيها لتحقيق نتائجها السياسية المفضلة، استخدمت الصين تكتيكات واسعة النطاق لتنمية التأثير السياسي وزيادة التصورات الإيجابية، وتعمل الحوافز الاقتصادية والتنشئة الإستباقية لشخصيات قيادية في كلا البلدين، وذلك بالتزامن مع الاستياء المحلي المتزايد من تركيز الغرب على القيم الديمقراطية، بهدف تشكيل مشهد محلي أكثر قابلية لإستقبال “نموذج الصين” للحكم. ويرى مراقبون أن الصين قد تستخدم كينيا وتنزانيا كنماذج في سعيها إلى التأثير في بلدان أخرى في إفريقيا و”دول الجنوب العالمي”.

الولايات المتحدة وإفريقيا

تحاول أمريكا التأكيد علي أن  الإستراتيجية الجديدة تجاه أفريقيا تركز أقل على المنافسين الجيوسياسيين للولايات المتحدة، وتهتم أكثر بتحسين الدور الأمريكي في تلك المنطقة، من خلال إشراك حكومات إفريقية للعمل مع واشنطن في كل شيء، بدءًا من أزمة المناخ ووصولًا إلى انعدام الأمن الغذائي والإرهاب، وفي هذا الصدد، ترى الولايات المتحدة أن تهديدات الصين وروسيا ثانوية للغاية لأمريكا، فالأولوية تتمثل في كيفية تنفيذ عمل أفضل وأكثر فاعلية مع الأفارقة لمواجهة التحديات المشتركة.

سافرت سامانثا باور “رئيسة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” فى الفترة بين (22 إلى 23 يوليو) المنقضى إلى كينيا والصومال، وتجتمع سامانثا مع الشركاء الإنسانيين والمجتمع المدني وكبار المسؤولين الحكوميين في إقليم شرق إفريقيا لمناقشة دعم الولايات المتحدة للاستجابة للجفاف وتأثيرات الحرب الروسية ضد أوكرانيا على الأمن الغذائى والمساعدات الإنسانية.

وتوجهت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة “ليندا توماس جرينفيلد” إلى غانا وأوغندا فى الفترة (4 إلى 7 أغسطس 2022) لتناقش الاستجابة الأمريكية والعالمية لتأثير حرب روسيا ضد أوكرانيا على الأمن الغذائى العالمى، فضلاً عن الأولويات الإقليمية والثنائية الأخرى وإيجاد حلول لقضايا الغذاء والأمن، وتكاليف الطاقة المرتفعة، وقالت أن الزيارة تهدف إلى إعادة تأكيد وتعزيز علاقة الولايات المتحدة مع الدولتين، وليس التنافس مع روسيا لكن يرى مراقبون أن زيارة “توماس جرينفيلد”، بعد أسبوع من زيارة لافروف، إشارة إلى أن واشنطن تتجه لإعطاء الأولوية لمصالحها الجيوسياسية على حساب الحقوق الديمقراطية للمواطنين فى البلدان التي يقودها حلفاؤها الاستبداديون.

كما زار وزير الخارجية الأمريكى “بلينكن” ثلاث دول “جنوب أفريقيا، الكونغو ورواندا” فى الفترة من (7 إلى 12 أغسطس) ويمكن اعتبارهم ركيزة أساسية في استراتيجية بايدن الأفريقية، وأيضا يُنظر إلى زيارة بلينكن لإفريقيا على أنها جزء من منافسة بين روسيا والقوى الغربية للحصول على دعم من الدول الأفريقية بشأن الحرب في أوكرانيا، وتأتى رحلته فى أعقاب الجولات الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الروسى سيرجي لافروف والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وهدف بلينكن هو البناء على زيارته التي قام بها في نوفمبر2021 وتعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية، وتسعى الولايات المتحدة من وراء زيارات مبعوثيها لبناء علاقات أوثق مع أفريقيا والتأكيد علي أن طريق التنمية لأفريقيا يمر عبر الولايات المتحدة.

أعلن بلينكن عن استراتيجية بايدن الأمريكية لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويعد إطلاق الاستراتيجية أثناء زيارة القادة في إفريقيا “إشارة هامة” في علاقة الولايات المتحدة مع الدول الأفريقية ويرسل رسالة احترام من خلال الاعتراف بأن “الدول الأفريقية هي لاعبين جيوستراتيجيين وشركاء مهمين في القضايا الأكثر إلحاحًا، والهدف الرئيسى الثانى للزيارة هو تحسين العلاقات الثنائية من خلال التركيز على القضايا الملحة داخل البلدان الثلاثة التي يزورها، والقضايا التي سيكون لها تأثيرات على القارة على نطاق أوسع، وكذلك على العلاقات بين الولايات المتحدة وهذه الدول المحددة.

كخطوة رئيسية أخرى لتعزيز العلاقات، يخطط الرئيس جو بايدن لعقد القادة الأفارقة في البيت الأبيض منتصف ديسمبرالمقبل، علي أن تناقش القمة الأمريكية الإفريقية النظام العالمي الناشئ، والقضايا الجيوسياسية والإقتصادية المتغيرة، وستقدم أيضًا أموالًا ضخمة لمشاريع التنمية المختلفة بالإضافة إلى الحكم الرشيد وحقوق الإنسان.

وتقول واشنطن إن القمة ستركز على التحديات القائمة، لاسيما تلك المتعلقة بالسلام والأمن والأمن الغذائي وتغير المناخ وإتجاهات التخفيف من حدة الفقر في جميع أنحاء إفريقيا، ومن المتوقع أن يمهد الحوار رفيع المستوى المسرح لإستعراض الفرص المتاحة للولايات المتحدة وقادة القطاعين العام والخاص في إفريقيا، وكيفية تعزيز الشراكة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وإفريقيا فيما يتعلق بالاستثمارات واسعة النطاق في القطاعات الرئيسية ودراسة طرق إستكشاف والاستفادة من منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA).

تهدف منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية إلى إنشاء سوق واحدة يقدر عدد سكانها بنحو 1.3 مليار نسمة ، وتتطلب في النهاية جميع أنواع خدمات الأعمال والمنتجات الإستهلاكية. وعلى الرغم من التحدي الكبير، إلا أن هناك تشريعات جديدة تنص على توطين الإنتاج والتوزيع داخل إفريقيا.

يبدو أن إدارة البيت الأبيض تحاول تدارك الأخطاء، بالتزامن مع تغيرات إقليمية ودولية، فى ظل تداعيات الخروج من أفغانستان، إلى جانب الصعود الروسي- الصيني وحضور بعض القوى الإقليمية التي تحاول إستغلال الفراغ الإستراتيجي والأمني الذي خلفته الولايات المتحدة على الساحة الأفريقية، وغياب الزيارات الرئاسية لإفريقيا خلال إدارة ترامب في سابقة جديدة لأول مرة منذ عقود.

على الرغم من خطاب واشنطن الذى يدعي عدم الدخول في تنافس جيوسياسى، فإن الوثيقة الإستراتيجية الجديدة لأفريقيا، التي تذكر روسيا سبع مرات، تحذر من أن موسكو تنظر إلى المنطقة على أنها “بيئة مواتية” لشركاتها العسكرية الخاصة للعمل فيها، “وغالبًا ما تثير عدم الاستقرار من أجل المنفعة الاستراتيجية والمالية”.  وتروج الحكومة الأمريكية إلى أن موسكو تستخدم العلاقات الأمنية والمعلومات المضللة “لتقويض معارضة الأفارقة المبدئية للغزو الروسي الإضافي لأوكرانيا”.

وتحذر الوثيقة كذلك من أن الصين تعتبر إفريقيا “فاعل مهم يتحدى النظام الدولى القائم على القواعد” ، وتقوض الشفافية، و تعمل لإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات الأفريقية”.

كانت وزيرة العلاقات الدولية والتعاون في جنوب إفريقيا “ناليدي باندور” انتقدت مشروع قانون أمريكي وصفته بـ “التشريع العدواني” يسمى بقانون مكافحة الأنشطة الروسية الخبيثة فى إفريقيا الذي سيحدد ويراقب الحكومات الأفريقية التي تعمل مع الكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات من قبل الولايات المتحدة، وقد لاقى مشروع القانون رد فعل عنيف من الحكومات والمواطنين الأفارقة لكونه أشبه بالحرب الباردة.

ختاما، فإن إفريقيا التي تعج بالثروات تفتقد الى شيء أساسي وهو “الحكم الرشيد” في أغلب دولها، وهذا بالضبط هو مدخل للآخرين للنفاذ إليها واستغلال خيراتها دون أن تستفيد شعوبها، فكل أمة من الأمم المتدافعة الان تدخل إليها بـأجندتها الخاصة التي تخدم مصالحها، فالصين مثلاً تدخل من باب الإستثمار والقروض السهلة التي تتحول بعد فترة إلى فخ لتلك الدول يفقدها أصولها بعد عجزها عن السداد، وهذا ما أطلق عليه الأميركان بفخ الديون الصينية، ومع ذلك ساهمت الصين في بناء العديد من الجسور والمطارات والطرق وانتشلت الكثيرين من الفقر، ولكنها في النهاية تفعل ذلك كجزء من مشروعها الكبير الحزام والطريق الهادف للإستحواذ على الأسواق ومصادر الطاقة والمعادن النادرة، وهذا يحتم ألا تدفع الدول الإفريقية ثمن هذه البنى التحتية.

أما الولايات المتحدة والتي استخدمت القارة كساحة لمعاركها الامنية، تدخل القارة الآن باعتبارها جزءاً من مشروع أمنى كبير للحرب على الارهاب، أما روسيا فتعود من باب الأحلام الجيوستراتيجية ومشاريع التسليح المغرية، بالإضافة لإوروبا التي تحول جعل إفريقيا بديل لروسيا كمصدر للحصول علي الطاقة.

المصادر

1) Lavrov’s African Safari Was Not Routine.. https://2u.pw/xLWrK

2) ماذا يحصد الأفارقة من جولات ماكرون ولافروف؟ https://2u.pw/1AZqi

3) Russia Struggling To Appear On Africa’s Horizon.. https://2u.pw/6e7RF

4) إحياء مفاوضات سد النهضة في حقيبة المبعوث الأميركي.. https://2u.pw/7aGd9

5)باريس تسعى للترويج لعلاقة جديدة مغايرة مع مستعمراتها السابقة..  https://2u.pw/09p94

6)What China Is Really Up To In Africa?, Wade Shepard, https://2u.pw/JXhXV

7)Larry Hanauer, Lyle J. Morris, China in Africa, Implications of a Deepening Relationship, National Security Research Division.

8)Nadège Rolland, Political Front Lines: China’s Pursuit of Influence in Africa, The National Bureau of Asian Research

9) President Biden Plans African Leaders Summit Mid-December.. https://2u.pw/9dlEe

 

 

كلمات مفتاحية