الجدار الإسرائيلي الجديد والمعادلة الحسابية للردع

الدكتور أيمن سلامة

افتتح يوم السابع من ديسمبر وزير الدفاع الإسرائيلي  الجدار الذي وصفته “إسرائيل” بأنه الوحيد من نوعه في العالم الذي تكلف  1.1 مليار دولار، والذي يقع على طول الحدود بين قطاع غزة و”إسرائيل” ، و يأتي الجدار بعد  ثلاث سنوات ونصف من العمل، وهو الأحدث في سلسلة التحصينات والإجراءات الأمنية التي تعزل قطاع غزة عن الضفة الغربية ، وتقتل آمال حلّ الدولتَين .

بالنسبة إلى ما يناهز مليوني  فلسطيني يعيشون في غزة، نصفهم من الأطفال، فهذا الجدار عالي التقنية يمثّل أكثر من ابتكار أمني وتكنولوجي، كما أنه يمثل  دليل دامغ  على أنهم يعيشون  في أكبر سجن مفتوح في العالم.

صرّح وزير الأمن الإسرائيليّ بني غانتس، أثناء الاحتفال بإنتهاء المشروع : “أن الجدار سيحرم المقاومة في غزة إحدى قدراتها الهجومية (الأنفاق)”، ومن الجدير بالذكر أن مشروع الجدار التحت أرضي ضد أنفاق المقاومة الهجومية هو أحد الدروس المستفادة إسرائيلياً من حرب 2014 على غزة.

يزعم البعض  أن بناء إسرائيل الجدران حول نفسها يُعتبر تراجعا في عقيدة الهجوم والهجمات الاستباقية، في مقابل تعزيز الردع والحالة الدفاعية، كما يعكس أيضاً حالة  من الضعف التي كشفت عنها عديد المواجهات  العسكرية في العقد الأخير مع  الفصائل  الفلسطينية المختلفة في قطاع غزة المحتل ، وزعم آخرون أن بالرغم من ذلك التحصين الجديد فهو ليس بمنيع ضد الاختراقات  الفلسطينية المُخَبّرَة ، و بالنظر أيضاً إلى ان العملية العسكرية الإسرائيلية التي سُمّيت “الجرف الصامد في عام 2014” أتت نتاجاً لإخفاق جيش الاحتلال الإسرائيلي  في مواجهة الأنفاق الهجومية للمقاومة، التي تمكن المقاومون الفلسطينيون عبرها من اختراق الحدود والتسلل  لداخل إسرائيل ، وقتل جنود إسرائيليين.

ما من شك ، عكس قرار إقامة الجدار تحت الأرض مع غزة ثقافة “التحصن بالجدران” التي تبنتها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بدعم وقرار سياسي من الحكومات المتعاقبة، والتي سبق لها ودشنت عام 2013 جداراً فاصلاً على حدودها مع مصر بطول 230 كيلومترا بمحاذاة شبه جزيرة سيناء.

لم يقتصر التحصن الإسرائيلي بالجدران مع دول الطوق ومناطق الصراع والتماس على الحدود الدولية، بل انتقل داخليا حيث باتت جدران الفصل مشهدا اعتياديا في حياة الإسرائيليين، ببناء جدران داخل بعض المدن الساحلية المختلطة (أي التي يسكنها من تبقى من أهلها الفلسطينيين واليهود، مثل اللد والرملة) فصل وعزل الأحياء العربية عن اليهودية، ومحاصرة بلدات عربية .

يبرز في هذا السياق السؤال المركزي  المعني بالتحليل الواسع غير المقتصر على النواحي العسكرية ، وهو هل تخلق عقيدة  “التحصن بالجدران” أداة جديدة للأمن الإسرائيلي ؟ وبعبارة أخرى هل يعد ذلك الحصن المنيع – من وجهة نظر الإسرائيليين– أداة جديدة لمفهوم  الردع الإسرائيلي ؟

يمكن تعريف مفهوم الردع على أنه استخدام التهديدات للدولة بقوة محدودة غير مفرطة بغرض إقناع دولة أو تنظيمات أو جماعات مسلحة أو إرهابية  لقسرهم عن  الشروع في مسار أو خيار ينوون ممارسته تجاه تلك الدولة الرادعة ، ويمكن فهم  الردع أيضا علي أنه نزع الخوف  المتولد ، لدى الدولة التي تلجأ خيارات الردع  من العواقب الوخيمة للمسار أو الخيار الذي يلجأ إليه خصوم الدولة التي تلجأ للردع ، ويمكن أن تتضمن الوسائل و الخيارات التي تلجأ إليه الدولة كلاً من العصا (العقاب) و الجزرة  (المكافأة ) ، في آن لخصوم الدولة التي تلجأ  للردع  .

يهدف الردع أن يقوم خصوم الدولة بمراجعة تقييم المسار أو الخيار الذي تبنوه لتهديد الدولة التي تلجأ للردع ، وذلك من خلال إعادة حسابات كلفة الفعل أو الأفعال التي سيقوم بها هؤلاء الخصوم فضلاً عن كلفة العواقب والأخيرة هي الأولي بالمراجعة وإعادة  النظر من قبل المستهدفين بالردع .

أياً ما كانت المصطلحات القانونية التي يدركها  القانونيون سواء أكانت  ” ثأر ” أم ” تدابير مضادة ” أم ” دفاع استباقي ” ، فالغاية الرئيسية التي تهدف إليها  الدولة التي تلجأ إلي  الردع العسكري،  تحديدا ، هو منع خصوم الدولة من اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية التي تهدف لإجهاض سياسيات الدولة أو ترويع أو ترهيب مواطنيها .

جلّي أن الدول يمكن أن تلجأ الى  الردع  المباشر لمنع هجوم مسلح ضد أراضي الدولة وذلك النوع من  الردع يتم في معظم الحالات و الظروف علي نطاق واسع ، إذا كان هناك نزاع إقليمي بين دول متجاورة  وتذخر السابقات الدولية بعشرات النماذج من ذلك النوع ، وفي  المقابل يمكن أن تلجأ  الدول لما يطلق عليه بالردع المحدود أو المقتصر ، استجابةً لتهديد حال ومُلح قصير المدى ضد الدولة المستهدفة من خصوم  الدولة ، ويعرف أيضاً ذلك النوع بالردع الفوري المحدود .

لا مِرية أن الزعم باقتصار الباعث و الهدف من لجوء  الدولة للردع  العسكري سواء أكان واسعاً أم محدوداً زعم جانبه الصواب ، فلا يجب النظر إلى سياسة الردع الفاعلة من المنظور العسكري ولكن أيضًا من الناحية السياسية: بفاعلية الردع العسكري ذاته تنصرف أيضاً إلى منع قادة الدول و الكيانات و المنظمات و  الجماعات الفاعلة من غير الدولة  التهديد أو القيام بعدائيات عسكرية ، و يجب أن تكون الدول المدافعة التي تلجأ للردع العسكري  قادرة على مقاومة المطالب السياسية والعسكرية لدولة مهاجمة محتملة ، ولكن  إذا عزفت الدولة عن الخيار العسكري للردع  على حساب التنازلات الدبلوماسية لأقصى مطالب الدولة أو الكيان المهاجم أو المهدد للدولة  فلا يمكن الإدعاء بنجاح وفاعلية الردع .

لا جرم أن القوة العسكرية الاستباقية التي تلجأ لها الدول لردع خصومها ليست استعراضاً لقدراتها العسكرية ، فإذا كان الاستعراض  العسكري الذي تقوم به الدول يُحسب بحسابات دقيقة حتى تتجنب  الدولة الوقوع في مغبة تحول الإستعراض لحرب حقيقية ، ففي المقابل، وحتي حين تلجأ  الدولة للردع الفوري المحدود فإنها تحسب بل تكون حسبت حسابات كثيرة على مختلف  الصعد ، حيث توازن الدولة بين الإكراه الموثوق به والدبلوماسية الحاذقة المتوافقة مع  معايير قانونية  مختلفة منها  التناسب .

لا يعد تغيير النظام وقيادات الدولة الخصم هدفاً من أهداف  الردع  ، وتدليلاً في العدوان   العسكري الواسع في  العراق عام 2003 ، و التدخل العسكري لحماية المدنيين في ليبيا عام 2011 لا يمكن تكييفهما ضمن غايات الردع العسكري .

إن حسابات تداعيات الردع الذي تلجأ إليه  الدول لا تغفل تقاطعات خارجية وداخلية عديدة ، ويأتي في الصدارة من هذه الحسابات الرضا الشعبي ، فضلاً عن المسوغ  الدستوري والتشريعي  الذي يؤسس اللجوء للقوة العسكرية كأداة من أدوات الدولة التي تتوسل بها، وبالإضافة لما سبق من حسابات فالمؤسسات الوطنية – غير العسكرية-  في الدولة تقيم وتستشرف ردود أفعال الدول الفاعلة و  المنظمات الدولية  تجاه ” الفعلة العسكرية ” التي ستقوم بها الدولة .  بشكل عام ، من المرجح أن تنجح الدولة التي ترغب في تنفيذ استراتيجية الردع .

إن المعادلة الحسابية الأهم التي تعد المبدأ العام الموجه  للدولة التي تلجأ للردع العسكري : هي ما إذا كانت تكاليف عدم الامتثال من جانب خصوم  الدولة يمكن أن تتعدى أو تقل عن التكاليف العامة المباشرة و غير المباشرة التي تقع على كاهل الدولة ، ولا يغيب عن البيان هنا أن الردع هو بحكم تعريفه استراتيجية محدودة  ومحددة الوسائل ، وتتضمن هذه التكاليف التداعيات المختلفة على علاقات الدولة الخارجية خاصة مع حلفاء الدولة الذين قد تربطهم علاقات الأفضلية مع الدولة المُستهدَفة بالردع من جانب الدولة ،فضلا عن  قابلية الدولة المهاجمة  للتأثر بسياسات الردع قدرتها  على تعويض موازين القوى غير المواتية.

ختاماً ، أضحي الردع الإسرائيلي يهدف  منع أفعال عسكرية هجومية محددة لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ،  من خلال قدرات الدفاع الإسرائيلية على تحييد أسلحة فصائل المقاومة الهجومية، ولكن بالرغم من عديد الآليات و الوسائل و الأدوات التي توسلت بها إسرائيل في الماضي فقد عجزت كلها عن  توفير ” الأمن الشامل” لإسرائيل ، لعجزها عن ” التحييد  المطلق ” للتهديدات الأمنية المختلفة التي تطال إسرائيل بين الفينة و الفينة .

 

 

كلمات مفتاحية