إعداد: رضوى الشريف
باحث متخصص في شؤون الشرق الأوسط
على مدى العقود الماضية، أراد مؤسسو الدولة العبرية، أن يخلقوا صورةً خاصة لإسرائيل في العالم، بأنها واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، ولكن ظهرت في السنوات الأخيرة للعلن، الخلافات والانقسامات العميقة صلب المجتمع الإسرائيلي، بوصول اليمين الديني المتطرف إلى سُدَّة الحكم؛ حيث كتب العديد من الإعلاميين والمثقفين الإسرائيليين مقالات في الصحافة الغربية خلال السنوات الأخيرة، نبَّهوا فيها إلى أن إسرائيل تعيش أزمة التمزُّق الداخلي، وبوادر حرب أهلية مدمرة قادمة في المستقبل المنظور، بعد أن ظلت متماسكة في وحدة، تبدو صماء في مواجهة الخطر من الدول المجاورة، وفي مواجهة الشعب الفلسطيني.
وبعد الصعود الانتحاري لأقصي اليمين المتطرف إلى سُدَّة الحكم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أواخر العام الماضي، نبَّه الصحفي والكاتب الفرنسي الإسرائيلي “شازل أنْدِيرُلان”، في كتاب له، بعنوان “إسرائيل واحتضار ديمقراطية ” إلى المخاطر التي تحيق بمستقبل ووجود إسرائيل، وهذا ما يستدل عليه حتى قبل اندلاع الحرب الجارية بين إسرائيل وحركة حماس، في السابع من أكتوبر الماضي؛ إذ كانت تمر إسرائيل بأزمة دستورية حادة؛ نتيجة التعديلات القضائية التي وضعتها الحكومة اليمينية، ويعتبرها المعارضون تهديدًا للديمقراطية، ويُذكر أن تلك الأزمة أسفرت عن مظاهرات واسعة، استمرت لأشهر منذ بداية هذا العام، بجانب اضطرابٍ واسعٍ في صفوف جنود الاحتياط داخل الجيش الإسرائيلي.
تكشف هذه الأحداث الراهنة عن سياسات اليمين عودة الوعي للكثيرين خارج إسرائيل، وحتى داخلها، بشأن حقيقة هذا الكيان، الذي أصبحت تشقُّه خلافات ومشاكل عميقة متصلة بعنصرية المجتمع الإسرائيلي بين مختلف مكوناته القادمة من كل القارات بثقافات متناقضة لا تجمع بينهم غير الفكرة اليهودية، بتأسيس كيان ليهود الشتات الذين عانوا منه.
وانطلاقًا من هذا السياق، تبحث هذه الورقة، عن احتمالية إعادة ترتيب المنظومة السياسية والحزبية في إسرائيل، وأي مصير ينتظره “نتنياهو”، خاصة أن الأزمات الأمنية وحالات الحرب عادة ما تؤدي إلى ترتيب المنظومة السياسية والحزبية؛ وعلى سبيل المثال، بعد حرب 1967 ونتائجها، كانت بداية ظهور أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل، وتعزيز خطاب التيار الصهيوني الديني، وزيادة قوته وحضوره السياسي والاجتماعي، بينما في حرب 1973، كانت بداية نهاية حزب العمل في انتخابات عام 1977، وبداية تغيير المنظومة الحزبية في إسرائيل، كذلك لعبت الانتفاضتان الأولى والثانية أدوارًا مهمة في التغيرات الحزبية والسياسية، وفي التغيرات في المواقف السياسية لدى المجتمع الإسرائيلي.
أولًا: سمات السياسة الخارجية لحكومات نتنياهو السابقة
يُعدُّ رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، أهم لاعب سياسي مرَّ على تاريخ إٍسرائيل منذ تأسيسها، وقد لعب على أوتار الطابع اليهودي للدولة، وأقر قوانين عدة في هذا السياق، منها قانون يؤكد الطابع اليهودي للدولة، ويرفض باقي المكونات، وعلى رأسهم السكان العرب الأصليون لما قبل 1948، مُشكِّلًا بذلك نظامًا عنصريًّا يُذكِّرُ العالم بالنظام العنصري “أبارتهيد”، الذي كان سائدًا في جنوب أفريقيا.
منذ عام 2009، بات حزب الليكود بقيادة “بنيامين نتنياهو” معسكرًا مهيمنًا في المنظومة السياسية في إسرائيل، بعد عقود تقاسم فيها حزب العمل وحزب الليكود، السيطرة على المنظومة الحزبية في إسرائيل، بهذا المعنى، لم تكن هناك أي إمكانية لتشكيل حكومة في إسرائيل إلا برئاسة “الليكود” و”نتنياهو”، لفترة قصيرة جدًا بين عامي 2021 و2022، وعكس ذلك هيمنة قيم ومواقف اليمين الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي، بل تحوّلت هذه القيم والمواقف إلى السقف الأدنى لأي طرح سياسي، وبذلك مهّدت لسيطرة اليمين المتطرف على المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل، وغابت بشكل شبه نهائي طروحات اليسار الصهيوني التقليدي، وتلاشت الأحزاب التي مثّلته، مثل حزب العمل وحزب ميرتس، ونمت بدل ذلك أحزاب وسط يمين لا تختلف كثيرًا في مشاريعها وطروحاتها السياسية كثيرًا عن طرح حزب الليكود التقليدي، لكنها عارضت “نتنياهو” شخصيًّا، ورفضت الانضمام إلى تحالف بقيادته، مثل حزب “يوجد مستقبل” بقيادة يائير لبيد، وحزب “المعسكر الوطني” بقيادة بيني غانتس، الذي انضم أخيرًا لحكومة الحرب بقيادة “نتنياهو”.
وتمثلت السِّمَة المركزية في السياسة الخارجية، التي اعتمدتها حكومات “بنيامين نتنياهو” كلها في الاستهتار المستمر بالدول الحليفة لإسرائيل في الغرب، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية بالطبع، مقابل الانحياز والتقرّب نحو قادة الدول الذين اصطفوا في المحور المعادي لليبرالية، وأبرزهم فلاديمير بوتين (روسيا) وجايير بولسونارو (البرازيل) وفيكتور أوربان (هنغاريا)، وبدأت المحطات الرئيسة في هذا التحوّل أوائل عام 2010، حين عقد عدد كبير من أعضاء الكنيست من الأحزاب اليمينية في إسرائيل لقاءات علنية واسعة مع قادة أحزاب اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية، خارقين بذلك مقاطعة إسرائيلية غير رسمية وغير معلنة لتلك الأحزاب التي تحمل الكثير منها سِمات لاسامية[1]، وفي العام 2015، يُحدث “نتنياهو” الشرْخ الأول وغير المسبوق في العلاقة بين إسرائيل والحزب الديمقراطي الأمريكي، حين ألقى خطابًا ضد إيران في اجتماع مشترك لمجلسيّ النواب والشيوخ الأمريكيين، على الرغم من معارضة الرئيس الأمريكي آنذاك، باراك أوباما، لهذه الخطوة.
وفي فبراير 2019، ألغت مجموعة فيشغراد، وهي أربع دول في وسط أوروبا (التشيك، المجر، بولندا وسلوفاكيا) الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، اجتماعًا، كان من المقرر أن يعقد في إسرائيل بعد انسحاب بولندا؛ احتجاجًا على تصريحات إسرائيلية “عنصرية” ضدهم.[2]
بين هذه وتلك، شارك “نتنياهو” في حفلين رسميين؛ لتنصيب كل من “فيكتور أوربان” و”جايير بولسونارو” في هنغاريا والبرازيل، إلى جانب مجموعة من أبرز قادة محور معاداة الليبرالية، وسط غياب جميع قادة الدول الغربية، المصنّفة في “المحور الليبرالي”، وفي أبريل 2019، في خضم معركة الانتخابات العامة في إسرائيل، وضع حزب الليكود على مقره المركزي في تل أبيب يافطات كبيرة الحجم، ظهر فيها زعيمه ومرشحه لرئاسة الحكومة “نتنياهو”، في صورة واحدة مع فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، وفي يناير 2020، استقبل نتنياهو بوتين في القدس، وخلال العقد الأخير، زار نتنياهو موسكو عشر مرات على الأقل.
وفي نهاية العام الماضي، عقب فوز نتنياهو في الانتخابات البرلمانية، هو وحلفاؤه من اليمين بأغلبية ساحقة، مُشكِّلين بذلك أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل، بدأت أصوات اليمين تعلو داخل إسرائيل بكل جراءة وبدون قيود؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، في يناير الماضي، قال مدير جمعية “منتدى كوهيلت”: (نحن دماغ اليمين الإسرائيلي، معظم ما يقوم به اليمين يأتي من خلالنا) على الحكومة الإسرائيلية “التوقف عن تلقي المساعدات الأمنية من الولايات المتحدة والبحث عن دولة حليفة أخرى في العالم”.
وفي شهر مارس الماضي، قال وزير الأمن القومي، “إيتمار بن غفير: إن “إسرائيل ليست نجمة إضافية أخرى في العَلَم الأمريكي”، فيما قال عضو الكنيست نيسيم فاتوري (من الليكود): “نعرف كيف ندافع عن أنفسنا حتى بدون الولايات المتحدة”، وفي يوليو الماضي، وعلى خلفية التوتر الشديد الذي خيَّم على العلاقات الثنائية بين “الولايات المتحدة، وإسرائيل” ـ على خلفية إصرار “نتنياهو” وائتلافه الحكومي على الاستمرار في تشريع قوانين “الانقلاب القضائي” ـ أعلن “نتنياهو” أنه سيقوم بزيارةٍ رسميةٍ إلى الصين، وأرفق ذلك بصورة شخصية له، يحمل نسخةً موقعةً من كتاب الرئيس الصيني، شي جين بينغ.
ويُذكر أنه في سبتمبر الماضي، التقى نتنياهو الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على هامش اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لكنّ البيت الأبيض أصرّ على عدم دعوة “نتنياهو” إلى البيت الأبيض.
ثانيًا: انعكاسات السياسة الخارجية لحكومة “نتنياهو” على مستقبل إسرائيل
الرسالة المركزية التي أراد “نتنياهو” بثها من خلال المحطات السالف ذكرها كانت واضحة، ومفادها؛ أنه هو “سيد الدبلوماسية” الذي سيبني لإسرائيل شبكة جديدة من التحالفات والحلفاء مع قادة غير ليبراليين في مختلف أنحاء العالم، فيقود إسرائيل نحو عهد جديد في الساحة الدولية وفي علاقاتها الدولية؛ بحيث لا تبقى “أسيرة العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة والغرب”، وخلال السنوات الـ 14 الأخيرة، أوصل “نتنياهو” العلاقات بين “إسرائيل، والولايات المتحدة” تحديدًا إلى حضيض غير مسبوق، منذ إنشاء دولة إسرائيل؛ وذلك – أساسًا- بخرقه إحدى الُمسلَّمات البديهية الأساسية التي تصرف بموجبها جميع رؤساء الحكومات الإسرائيلية السابقة، سواء كانوا من اليمين أو من “اليسار”، فحوّل الدعم الأمريكي لإسرائيل من مسألة تحتل قلب الإجماع في السياسة الأمريكية إلى مسألة خلافية ومثيرة للانقسام.
هذا السلوك ألحق بإسرائيل أضرارًا جسيمة، تمثل بعضها في فقدان دراماتيكي؛ للتأييد الذي كانت تحظى به، سواء بين منتخَبي الحزب الديمقراطي أو بين يهود الولايات المتحدة، الذين يؤيد معظمهم هذا الحزب، وقد بينت نتائج استطلاعات للرأي في الولايات المتحدة خلال الأسابيع الأخيرة، أن تأييد الجيل الشاب هناك لدولة إسرائيل هو أقل بكثير مما كان عليه في الماضي؛ بسبب سياسة حكومات اليمين.[3]
غير أنّ يوم السابع أكتوبر، والحرب التي تلته، كشفت حقيقةً مؤلمةً هي أن الاستراتيجية الدبلوماسية التي اعتمدتها حكومات اليمين، شكَّلت فشلًا مدوِّيًا، فقد تبين أن جميع “أصدقاء اليمين الإسرائيلي الجُدُد” هم ليسوا أكثر من “جدار مائل”، لا يمكن الاعتماد ولا التعويل عليه، فقد استغل دونالد ترامب خطابًا ألقاه أمام مؤيدين له، بعد 7 أكتوبر، بأيام قليلة، بالتهكم على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بينما رفض بوتين بإصرار التنديد بعمليات القتل والخطف في بلدات “غلاف غزة”، ثم استخدم حق النقض (الفيتو) الروسي؛ لإحباط مشروع قرار لإدانة حركة حماس في مجلس الأمن الدولي، كما استقبل في موسكو وفدًا عن حركة حماس.
في المقابل، كانت الدول الغربية الحليفة لإسرائيل تقليديًّا ـ تلك التي تعرضت للهجوم من جانب “نتنياهو” وحلفائه ـ أول من هبَّ لدعم إسرائيل، بالتصريحات وبالأفعال، فبينما وقفت روسيا مدافعة بشكل غير مباشر عن حماس، أرسلت الولايات المتحدة إلى المنطقة قوات عسكرية هائلة، شملت أيضًا حاملتيْ طائرات ومنظومات دفاعية متطورة؛ لردع حزب الله من مهاجمة إسرائيل، وبينما رفضت الصين التنديد بما حصل يوم السابع من أكتوبر، أعلن البرلمان الأوروبي عن “دعمه الكامل لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وتلا ذلك سلسلة من زيارات الدعم والتأييد، التي قام بها إلى إسرائيل عدد من قادة الدول الغربية، وفي مقدمتها “فرنسا، وبريطانيا”، علاوةً على الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزيري الخارجية والدفاع في إدارته.
في المحصلة النهائية، لقد أسفرت الأحداث الراهنة عن الانهيار التام للمفهوم والتوجه الدبلوماسيينْ، اللذين ارتكزت عليهما حكومات اليمين، وقادتهما خلال الـ 14 سنة الماضية، حين حاولت إبعاد إسرائيل عن حليفاتها التقليدية في الغرب، والتي اعتُبرت “ليبرالية أكثر مما يجب”، واستبدالها بـ “دول غير ديمقراطية (مثل روسيا، والصين) ودول يقودها زعماء غير ليبراليين مثل (هنغاريا، الهند، والبرازيل)”.
لذا بعد عملية السابع من أكتوبر، يمكن القول: بأن (لا أحد من هؤلاء “الأصدقاء الجُدد” يُبْدِي أي اهتمام أو قلق بشأن الصراع “الإسرائيلي ـ الفلسطيني”، أو ينتقد سياسات الحكومة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية المحتلة، أو يهتم ببقاء إسرائيل دولة ديمقراطية، بكلمات أخرى، كان “نتنياهو” يبحث لنفسه عن شركاء سياسيين مريحين، حتى ولو بثمن المسِّ بأمن إسرائيل القومي.
ثالثًا: مستقبل المنظومة السياسية في إسرائيل ما بعد الحرب على غزة
من المتوقع، أن تشكّل الحرب الحالية على غزة نقطة تحوّل جدية في المنظومة السياسية والحزبية في إسرائيل، والدفع نحو تغيير في المواقف والقناعات السياسية لدى المجتمع الإسرائيلي، ويمكن القول: إنها ستكون دافعًا لإعادة ترتيب المشهد الحزبي والسياسي عامة في إسرائيل؛ لأسباب عديدة، أبرز هذه الأسباب، أن هذه الحرب لا تشبه سابقاتها في إسرائيل في الجانب العسكري والأمني، وتعكس إخفاقًا أمنيًّا كبيرًا لكافة الأجهزة الأمنية وللحكومة، كما أن الخسائر البشرية لغاية الآن كبيرة جدًا، خصوصًا الخسائر المدنية في الجبهة الداخلية، والخسائر المالية والمادية، هذه الحرب فتتت العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وضربت الاستراتيجية الأمنية والسياسية المعمول بها تجاه غزة والضفة الغربية منذ عقديْن، في الصميم.
جاءت هذه الحرب الوجودية، وفق التعابير الإسرائيلية؛ لتوضح أنه مهما تجاهلت إسرائيل الحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني، وتنكّرت لحقِّه في تقرير المصير، ومنعت إقامة الدولة الفلسطينية، فهي لا يمكن أن تلغي هذا الحق، ولا أن تمنع الشعب الفلسطيني من النضال من أجل ذلك، مهما استعملت من أدوات إدارة الصراع أو تقليصه، بذلك ستعود القضية الفلسطينية لتكون محورًا أساسيًّا في المشهد السياسي الإسرائيلي، بعد تجاهلها بشكلٍ شبه تام في العقديْن الأخيريْن.
كما جاءت هذه الحرب بعد قرابة عام من التصدُّع والاحتجاجات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي، حول الخطة الحكومية لتقييد القضاء، وتآكل معادلة “الديمقراطية اليهودية” من منظار التيارات الصهيونية العلمانية الليبرالية، ومحاولة إضعاف السلطة القضائية، التي أوضحت عُمْق وحقيقة التصدُّعات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع الإسرائيلي، فقد أعادت إلى الواجهة التصدُّع بين التيارات العلمانية والدينية، والتصدُّع بين اليهود من أصول غربية واليهود من أصول شرقية، والتصدُّعات الطبقية، جميعها اجتمعت في الخطة الحكومية لتقييد القضاء ظاهريًّا؛ كونها عكست صراعًا حقيقيًّا على طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الإسرائيلي.
ومن منظار إسرائيلي، كل هذا يعني؛ أن هناك حاجةً ضروريةً إلى طرْح مشاريع سياسية تتلاءم مع إعادة التقييم للحالة الاستراتيجية العسكرية وكيفية التعامل مع القضية الفلسطينية، من جهة، والتعامل مع إسقاطات الخطة الحكومية؛ لتقييد القضاء والتصدُّعات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، من جهةٍ أخرى، كما لا يمكن تجاهل الحاجة إلى التعامل مع الأزمة الاقتصادية التي ستحل على إسرائيل بعد انتهاء الحرب، هذه العوامل معًا عرفت التصدُّعات السياسية في إسرائيل في العقود الأخيرة.
توقعات في تغيير الخريطة الحزبية داخل إسرائيل
الإخفاق الكبير والحرب الحالية على غزة، والتوقعات بإطالة الحرب وتزايد الخسائر البشرية والمادية، ناهيك عن الخسائر في المدى المتوسط والبعيد، منها احتمال تراجع مكانة إسرائيل دوليًّا، وربما تعزيز حملات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية وغيرها، سيكون لها جميعًا تأثير بالغ على مكانة حزب الليكود و”نتنياهو” بشكل مباشر.
“نتنياهو” متهم منذ اللحظة الأولى بالمسؤولية عن الإخفاق الكبير وتبعاته، وأنه أهمل تحذيرات المؤسسة العسكرية، وركَّز فقط على خطة تقييد القضاء، وعمل لإنقاذ نفسه من المحاكم الجنائية، وفتت المجتمع الإسرائيلي، وأضعف القدرات الأمنية والعسكرية، وهناك شبه إجماع لدى المحللين السياسيين والقيادات السياسية، بأن نهاية حياة “نتنياهو” السياسية ستكون مباشرة مع انتهاء الحرب، بل هناك من يطالب بأن يكون ذلك بشكلٍ فوريٍّ بواسطة سحْب الثقة من “نتنياهو”، وتشكيل حكومة جديدة، ولو كان ذلك أثناء الحرب وبشكلٍ استثنائي لا سابق له في تاريخ إسرائيل.
ونهاية حياة “نتنياهو” السياسية، تعني نهاية سيطرة “الليكود” على السلطة التشريعية والتنفيذية، لكنها تعني أيضًا ضررًا بالغًا لأحزاب اليمين المتطرف الشريكة في الحكومة الحالية، المتهمة إلى جانب “نتنياهو” بمساهمتها في الإخفاق العسكري الكبير، وبعدم قدرتها على إدارة الجوانب المدنية والاقتصادية للحرب، وبأنها مستعدة لإحراق المنطقة في سبيل تحقيق رغباتها السياسية، بهذا المعنى؛ فإن الحرب على غزة ستؤدي إلى تراجع مكانة وقوة أحزاب اليمين واليمين المتطرف الشريكة في التحالف الحكومي القائم.
وقد تفتح نهاية “نتنياهو” السياسية باب المنافسة لقيادة معسكر اليمين، وربما توفر فرصة لعودة شخصيات يمينية هجرت حزب الليكود؛ بسبب وجود “نتنياهو”، أو بناء تحالفات جديدة بين أحزاب اليمين، أو إقامة أحزاب يمينية جديدة، وإلى عودة شخصيات سياسية يمينية اعتزلت السياسية ولو بشكلٍ مؤقتٍ إلى الواجهة، مثل رئيس الحكومة السابق نفتالي بينت، كما ستؤدي إلى تعزيز مكانة حزب “المعسكر العمومي” برئاسة غانتس، وبدرجة أقل حزب “يوجد مستقبل” برئاسة “لبيد”.
تراجع مكانة “الليكود” بشكل خاص، وأحزاب اليمين المتطرف عامة، لن يؤدي إلى نشوء أحزاب يسار صهيوني جديدة، أو تعزيز طرح المشاريع اليسارية، بل قد يؤدي على الرغم مما حدث ومن فشل حكومة اليمين الكاملة، إلى توسع انتشار قيم اليمين في المجتمع الإسرائيلي.
إجمالًا:
فالإخفاق الكبير والحرب على غزة سيؤديان، كما أدت إخفاقات أو نجاحات عسكرية سابقة، إلى إعادة ترتيب المشهد السياسي والمنظومة الحزبية في إسرائيل، وعلى الرغم من مسؤولية حكومة اليمين عن الإخفاق الكبير والحرب ونتائجها، ستؤدي إلى تعزيز قيم ومواقف اليمين في المجتمع الإسرائيلي، وإلى بروز أحزاب جديدة تحمل مشاريع اليمين التقليدي، وإلى انزياح أحزاب وسط اليمين، والمجتمع الإسرائيلي عامة، إلى قيم ومواقف اليمين التقليدي.
الخلاصة
- أسفرت عملية “طوفان الأقصى” عن شرْخ كبير في المجتمع الإسرائيلي؛ حيث يُحمِّلُ الكثيرون “نتنياهو” المسؤولية الكاملة عما حدث، ورغم أن الإخفاق استخباراتي وعسكري، لكن كثيرين يرون أن هذا لا يعفي “نتنياهو” من مسؤوليته الشاملة عن الأزمة؛ كونه المقرر الأعلى في شؤون خارجية وأمن إسرائيل، كما يرى آخرون، أن رئيس الوزراء بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة، تبنَّى سياسة يمينية مائة في المئة؛ وهو ما قاد إلى تفجُّر الأوضاع، ومنح الفرصة لحماس لتنفيذ هجومها المباغت، وفيما تبدو سيناريوهات الحرب حتى الآن مفتوحة وغير محددة إلى حدٍّ كبيرٍ، يتحمل “نتنياهو” المسؤولية الأكبر أمام مواطنيه، وهي أزمة من المتوقع أن تُنْهي مستقبله السياسي.
- قد تغير الأزمة الراهنة ملامح الحكم السياسي في إسرائيل بعد حكومة “نتنياهو”، فيما تجد المعارضة فرصةً ذهبيةً للترويج لأفكار أكثر تسامحًا مع مقترح حل الدولتين، ويبدو هذا المقترح مقبولًا لدى القوى الإقليمية والدولية، التي لا ترغب في الانجرار لحرب.
- ستواجه إسرائيل ضغوطًا كبيرةً، تتعلق بضرورة الالتزام بالقوانين الدولية والاتفاقيات، وفي مقدمتها اتفاق أوسلو الذي يقضي بحل الدولتين مع مراجعة القوانين الخاصة بالتوسُّع في بناء المستوطنات، والالتزام بما ينص عليه القانون الدولي في هذا السياق.
المصادر:
[1] المركز الفلسطيني الإعلامي. “الجديد في تحولات الخريطة الحزبية الصهيونية”. تم الدخول 19 نوفمبر. متاح على الرابط الاتي:
https://palinfo.com/news/2010/01/10/184662/
[2] ” “رضاعة النازية” تلغي مؤتمرا دوليا في إسرائيل. سكاي نيوز. تم الدخول 19 نوفمبر. متاح على الرابط الاتي: https://tinyurl.com/2p84uf6
[3] “US public support for Israel drop” .Reuters.accessed 21 Novembre. https://www.reuters.com/world/us-public-support-israel-drops-majority-backs-ceasefire-reutersipsos-2023-11-15/