إعداد: ميار هانى
المقدمة
حملت الحرب الروسية الأوكرانية تأثيرات عديدة على أمن واستقرار العالم، ولم تكن آسيا بمنأى عنها، ففى حين أن بعض الحكومات الآسيوية تعتبر الصراع فى أوكرانيا حربًا أوروبية بشكل أساسى يجب على الغرب التعامل معها، إلا أن التأثير المباشر للصراع على المنطقة لا يمكن إغفاله، ويرجع ذلك إلى اتساع نطاق العلاقات المترابطة فى جميع المجالات، وفيما يلى نلقى نظرة على أبرز تلك التداعيات.
- انقسام سياسي
أدت الحرب الروسية الأوكرانية بالفعل إلى انقسامات فى آسيا من الناحية السياسية، وكما هو متوقع، انضمت اليابان وكوريا الجنوبية إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى إدانة روسيا، فى حين أن كوريا الشمالية كانت واحدة من ضمن خمس دول فقط عارضت قرار الأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، متخذة جانب موسكو فى إلقاء اللوم على توسع حلف شمال الأطلسي المدعوم من الولايات المتحدة باعتباره أحد الأسباب الرئيسية وراء الحرب، لطالما اعتبرت كوريا الشمالية واشنطن خصمها الرئيسي والنظام الدولي الليبرالي معاديًا لوجودها.[1]
وهناك بعض الدول فى الوسط – مثل الهند، التى امتنعت عن إدانة غزو روسيا لأوكرانيا، وأعربت من جهتها عن خيبة أملها من الخطوات الروسية، إلا أنها امتنعت عن تعريض علاقاتها العسكرية والسياسية مع موسكو للخطر، ولا سيما أن الأخيرة شريك مهم لها فى وجه ما تعتبره الهند تهديدات متنامية من الصين وباكستان.[2]
كما أعلنت الصين منذ بدء الأزمة أنها اختارت الحياد فى الحرب، إذ أكدت احترامها لوحدة الأراضى الأوكرانية، ولكنها استراتيجيًا، تقف فى الخندق ذاته مع موسكو، فى مواجهة المعسكر الغربى بقيادة واشنطن، حيث اعتبرت مخاوف روسيا الأمنية حيال توسع الناتو شرقا “مشروعة”، كما إنها لم تقم بإدانة الغزو الروسي على أوكرانيا، بل بالعكس، انتقدت الإدارة الأمريكية واتهمتها بإثارة الأزمة.[3]
وشهدت كتلة “آسيان” ، التي تأسست فى عام 1967 وتضم عشر دول هى: (بروناي وكمبوديا وإندونيسيا ولاوس وماليزيا وميانمار والفلبين وسنغافورا وتايلاند وفيتنام)، انقسامًا، وعلى الرغم من البيان الإقليمي المشترك الذي اتسم بالحياد بين طرفى الصراع، إلا أن المواقف تباينت بين دولة وأخرى فى الرابطة أثناء التعامل مع الصراع.
فمن جهة أدانت سنغافورة، التي لطالما كانت قلقة بشأن تحقيق التوازن بين الصين والولايات المتحدة فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، موسكو. فيما كانت لغة خطاب باقى دول المنطقة أقل حدة من سنغافورة؛ ومن ناحية أخرى، دعمت ميانمار روسيا بنشاط، حيث أشاد المتحدث باسم المجلس العسكري بدور روسيا فى معارضة الولايات المتحدة الأمريكية، قائلًا: “إن روسيا تعمل من أجل الحفاظ على سيادتها، كما رأت لاوس فى الوضع الحالي فرصة استراتيجية لتقليص هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وسلطتها بعد تربعها على قمة النظام العالمي عقب الحرب الباردة”.[4]
- اضطراب اقتصادي
نتج عن الحرب الروسية الأوكرانية مجموعة من الآثار الاقتصادية شديدة الخطورة على اقتصاديات دول العالم كافة بما فى ذلك الدول الآسيوية، وأبرزها:
إصابة نظام تسوية المعاملات النقدية والمصرفية الدولية بالخلل، بسبب حظر البنوك الروسية استخدام نظام SWIFT، الذي تم من خلاله العمل على تسوية هذه المعاملات على أساس الدولار الأمريكي، مما أدى إلى إدخال بدائل جديدة إلى النظام، بما فى ذلك إمكانية تسوية هذه المعاملات بالعملة المحلية للمنطقة، وهو ما لجأت إليه روسيا، ودعمتها فى ذلك عدة دول آسيوية كالصين والهند وإيران، كما اتجهت الصين إلى السعي فى تحويل اليوان إلى عملة منافسة للدولار الأمريكي[5]، إذ يثبت اليوان الصينى أنه صمام تخفيف ضغط مفيد
للشركات الروسية التى أعاقتها العقوبات، وباتت الشركات الروسية تستخدم اليوان لتسوية المزيد من تجارتها وتوسيع الاقتراض المقوم به، فضلًا عن سعيها لزيادة حيازاتها من اليوان فى احتياطيات النقد الأجنبي الخاصة بها.[6]
شعور بعض الدول الآسيوية بقلق متزايد بشأن الإجراءات الانتقامية المحتملة التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية ردًا على هذه البدائل، إذ أثارت العديد من التقارير الاقتصادية التساؤل حول المدى الذي يمكن أن يتسبب فيه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بحدوث أزمة مالية آسيوية أخرى شبيهة بالأزمة المالية الآسيوية لعام 1997، نظرًا لامتلاك البنوك تريليونات الدولارات من احتياطيات النقد الأجنبي المتراكمة، وعليه فإن ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وأزمة أوكرانيا، ومخاطر السياسة الصينية تؤثر بشدة على ما يسمى “عملات الطبقة الثانية” في آسيا، حيث تعرضت العملات ذات العائد المرتفع مثل البيزو الفلبينى والروبية الهندية والروبية الإندونيسية لضغوط فى يونيو 2022، ومن المتوقع أن تستمر هذه الضغوط مقابل الدولار في الفترة المقبلة.
وتظهر التقارير الاقتصادية ارتفاع معدلات التضخم باستمرار فى جميع أنحاء آسيا، مما يلحق الضرر بالأسر والشركات، وقد تواجه المنطقة خطرًا أشد، ألا وهو التضخم المصاحب للركود الاقتصادي، مما يعنى أن يتزامن تباطؤ النمو الاقتصادي والبطالة مع ارتفاع الأسعار، ويرجع صندوق النقد الدولي ذلك إلى الأزمة في أوكرانيا، وتباطؤ النمو فى أوروبا وأمريكا الشمالية والصين، وهو ما يفرض على القادة الآسيويين توازنًا صعبًا لمكافحة تباطؤ النمو وارتفاع التضخم.[7]
تسخين بؤر الصراعات
- تايوان:
ارتفعت المقارنات بين تايوان وأوكرانيا منذ بدء الحرب، وبطبيعة الحال، فإنهم يقدمون بعض الأرضية للمقارنة، ومنها أن كليهما يشتركان فى تاريخ سياسي طغت عليه علاقة معقدة مع جيرانهما من القوى الكبرى، وبالتالي زادت الحرب الروسية الأوكرانية المخاوف من غزو الجزيرة، وعليه تم توفير مرحلة غير مسبوقة لتايوان من الاهتمام الدولى المتزايد لشواغلها الأمنية، وقد أعربت بكين رفضها المقارنة بين تايوان وأوكرانيا خلال تصريحات صدرت على لسان الناطقة باسم الخارجية الصينية “هوا تشون ينغ” فى فبراير 23، إذ أكدت أن أي مقارنة فى هذا السياق تظهر “غياب الفهم الأساسي لتاريخ قضية تايوان”، مضيفة أن “تايوان ليست أوكرانيا، إنها جزء لا يتجزأ من أراضي الصين وهذة حقيقة لا جدال فيها”، واتهمت هوا تشون ينغ السلطات فى تايوان بمحاولة استغلال الأحداث المتسارعة فى أوكرانيا لصالحها، على حد وصف المتحدثة، وبالتالى فإن الصين تعتبر تايوان إقليمًا متمردًا لابد أن يعود يومًا ما إلى كنف “الوطن الأم”.[8]
وقد أدى ذلك إلى تصعيد متبادل من الجانبين الأمريكي والصيني، إذ حذرت الولايات المتحدة الأمريكية الصين من اتخاذ أي إجراء ضد تايوان، مهددة باتخاذ إجراءات مماثلة لتلك التى تم اتخاذها ضد روسيا، بالإضافة إلى إعلانها استعدادها التام للدفاع عنها وتقديم الدعم العسكري الذي تحتاجه لردع الصين، كما زارت “نانسي بيلوسي” رئيسة مجلس النواب الأمريكى السابقة تايوان، مما أدى إلى احتجاج الصين بشدة على تلك الزيارة، واصفةً إياها بأنها عمل استفزازي متعمد، وقال بيان لوزارة الدفاع الصينية إن هذه الخطوة تنتهك بشكل خطير مبدأ الصين الواحدة، وتقوض الأساس السياسي لعلاقات الصين مع أمريكا، وتصعد التوترات عبر مضيق تايوان.[9] وكان من ضمن ردود فعل الصين على الزيارة إجراء مناورات عسكرية بحرية وجوية ضخمة فى محيط تايوان قدمت تصورًا أوليًا لما قد تمثله حملة عسكرية فعلية لبكين على جارتها الصغيرة، ورسالة هذه المناورات مفادها أنه فى حال حدوث تجاوز للخطوط الحمراء يمكن للصين أن تستخدم القوة إذا لزم الأمر للاستحواز على تايوان. [10]
- جزر الكوريل:
يبدو واضحًا أن تداعيات الأزمة الأوكرانية السلبية لا تقتصر على تأجيج الصراعات الآسيوية المتعلقة بالصين فقط، بل باتت تطال مختلف بؤر التوتر وخطوط الالتماس التقليدية بين القوى الدولية الكبرى، ليشمل الصراع الروسى اليابانى جزر الكوريل، حيث سيطر الجيش السوفيتي على تلك الجزر فى الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية ولم تتم إعادتها منذ ذلك الحين إلى طوكيو التى تسميها “الأقاليم الشمالية”[11]، وقد تسبب تأييد طوكيو لأوكرانيا وانضمامها إلى الدول التي وقعت عقوبات اقتصادية صارمة على موسكو في إنهاء الأخيرة لمشاركتها من مباحثات السلام مع اليابان حول جزر “الكوريل”، والتي كانت تجرى بشكل متقطع منذ خمسينيات القرن الماضي[12]، حيث أعلنت روسيا في بيان للخارجية الروسية تعليق المحادثات مع اليابان بشأن معاهدة السلام نتيجة لاستحالة مناقشة توقيع وثيقة تأسيسية بشأن العلاقات الثنائية مع دولة مواقفها غير ودية.[13] ويرجع التصعيد المفاجئ من جانب موسكو في هذا الملف وإن كان مرتبطًا بشكل أساسي بموقف طوكيو المؤيد لكييف، إلى أنه يرتبط كذلك برواسب تاريخية واستراتيجية ترسخت خلال العقود الماضية حول سلسلة الجزر التى بات يتزايد أهميتها بالنسبة لكلا الطرفين مع مرور السنوات، وعليه ازداد موقف هذا الملف تعقيدًا عقب إعلان موسكو مؤخرًا الانسحاب من المفاوضات مع اليابان بشأن هذه الجزر.[14]
- تزايد اختبارات الأسلحة لكوريا الشمالية:
استفادت كوريا الشمالية من أحداث الحرب الروسية الأوكرانية فى تصعيد الضغوط على الخصوم الإقليميين، أي جارتها الجنوبية واليابان، وتصدير تهديدات أمنية لهم، وذلك عبر تسريع تطور أسلحتها وتزايد إجراء تجارب صاروخية جديدة، مستغلة تشتت أذهان العالم نحو الحرب فى أوكرانيا، بالإضافة إلى المشاحنات القائمة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان، فضلًا عن الانقسام فى مجلس الأمن الدولي؛ فقد وفر اعتراض “بيونغ يانغ” على قرار الأمم المتحدة بإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا غطاءً دبلوماسيًا لها، حيث منعت روسيا والصين محاولات الولايات المتحدة للتشديد على الأسلحة الكورية الشمالية التى تقوم بتجربتها، بما في ذلك الصواريخ قصيرة المدى التي يمكن أن تكون قادرة على حمل رؤوس نووية، فضلًا عن الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي يمكنها استهداف أراضي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها؛ إذ دائمًا ما تصرح “بيونج يانج” بأنها تختبر أسلحتها المتقدمة كي تتمكن من ضرب أهداف رئيسية فى الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الجنوبية بلا رحمة إذا أرادت ذلك.[15] وهو ما جعل رئيس كوريا الجنوبية يدعو الولايات المتحدة الأمريكية واليابان إلى العمل معًا لإقناع كوريا الشمالية بأنها لن تكسب شيئًا من وراء برنامجها النووي والصاروخي.[16]
- تعزيز العلاقات الخارجية
انعكس تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على تعزيز روسيا وعلاقاتها الخارجية مع بعض الدول، نتناول فيما يلي نموذجين منهم:
- إيران وروسيا
سلطت الأزمة الأوكرانية الضوء على العلاقات الروسية الإيرانية، فقد اكتسب تعزيز علاقة موسكو بإيران إلحاحًا بعد أن قيدت العقوبات الغربية بشكل منهجي قدرة روسيا على التعاون الدولي وقللت من خياراتها وأجبرتها على العمل مع تلك الدول التي هي فى وضع مماثل خارج المجال الغربي؛ قبل الحرب كان لروسيا شركاء أكثر جاذبية من إيران، فقد كانت التجارة والأعمال مع أوروبا والولايات المتحدة أكثر ربحية، علاوة على ذلك، كان بأسعار معقولة ومفيد من حيث التكلفة من وجهة نظر تشغيلية.
فى المقابل، كانت ممارسة الأعمال التجارية مع إيران صعبة من الناحية الفنية وغير شائعة تقليديًا بين الشركات والوكالات الحكومية الروسية، حيث كان ينظر إليها على أنها عملية تستغرق وقتًا طويلًا ويجب بناؤها من الصفر، لكن الأمور تغيرت بعد 24 فبراير، وكما قال أحد الخبراء الروس: “قبل الصراع فى أوكرانيا، لم يكن لدى السلطات الروسية خارج الوكالات الحكومية الموجهة نحو السياسة الخارجية، مثل الشركات الحكومية والخاصة، سببًا وجيهًا للتعاون مع شركائها الإيرانيين، والآن أصبحت إيران من بين أفضل الخيارات المتاحة والمرغوبة للتعاون الدولى”، وعليه أصبحت الدولتان منذ بداية الحرب مترابطتين بشكل متزايد.
في يوليو، اتفق الجانبان على مضاعفة حجم تجارتهما إلى 8 مليارات دولار على المدى القصير و 15 مليار دولار على المدى المتوسط، من 4 مليارات دولار فى عام 2021، كما وقعت موسكو وطهران عددًا من مذكرات التعاون بين البنوك فى يوليو 2022، وأطلقت بورصة طهران تداول الريال الإيراني/ الروبل الروسي فى محاولة لاستبدال نظام الدفع بين البنوك SWIFT بأدوات المراسلة المالية الوطنية، والتى تهدف فى النهاية إلى إزالة الدولار من التجارة المتبادلة.
وعلى الصعيد السياسي والأمني، شهد هذا العام عددًا قياسيًا من اللقاءات بين كبار المسؤولين الروس والإيرانيين، كان أبرزها زيارة بوتين إلى طهران فى يوليو الماضى، وجاءت المساعدة الأمنية التي قدمتها طهران لموسكو- ومن بينها طائرات بدون طيار من طراز مهاجر6 وشاهد 136/131-فى وقت ملح، وأثبتت أهميتها بالنسبة لموسكو، حيث تكبدت الأخيرة نفقات باهظة فى الحرب وشهد مخزونات الصواريخ الروسية انخفاضا بشكل كبير، وعليه أصبحت المسيرات التى قدمتها إيران ذات أهمية حاسمة كونها رخيصة الثمن وتقلل من استهلاك مخزون الصواريخ الروسية وتتسم بفاعليتها فى البيئة القتالية، وبالتالي ساعدت الأزمة الأوكرانية على تزايد مساحات التوافق والتعاون بين إيران وروسيا فى عدة مجالات. [17]
- ميانمار وروسيا
كما تشهد العلاقات بين روسيا وميانمار تناميًا ملحوظًا من الناحية الاقتصادية، ويتمثل الدافع الرئيسي وراء ذلك فى سعى الطرفين لتجاوز العقوبات الغربية المفروضة عليهما عقب الانقلاب العسكري في ميانمار، وهو ما يفسر – على سبيل المثال لا الحصر – مشاركة 200 شركة من ميانمار و100 شركة من روسيا في منتدى اقتصادي بنايبيتاو؛ والذي تم من خلاله البحث فى سبل تعزيز التعاون بين البلدين في مجالات شملت الطاقة والتصنيع والسياحة والتمويل، وتزامن ذلك مع زيارة وزير التنمية الاقتصادية الروسي “مكسيم ريشيتنيكوف” إلى ميانمار.
فضلًا عن تعميق أواصر التعاون العسكري بين البلدين؛ ويعبر عن ذلك كشف القوات الجوية فى ميانمار عن مقاتلتين روسيتين من طراز Su-30 خلال الاحتفالات بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس الدولة في 15 ديسمبر الجاري، وكانت هاتان المقاتلتان هما الدفعة الأولى من بين ست مقاتلات طلبتها ميانمار في عام 2018.[18]
- أمن الطاقة
نتج عن الأزمة الأوكرانية ومنظومة العقوبات التي فرضتها القوى الغربية على روسيا اضطرابا فى قطاع الطاقة، وقد امتد تأثيره لآسيا باعتبارها أحد أكبر أسواق الطاقة العالمية، وهنا سنجد تباينًا واضحًا في هذا التأثير بين الدول الآسيوية؛ فهناك دول استفادت من انخفاض سعر النفط الروسي الناتج عن قرار بعض الحكومات والشركات الأجنبية بتجنب صادرات روسيا من الطاقة، كالصين والهند[19]، إذ دافعت الحكومة الهندية عن مشترياتها من روسيا قائلة “إن عليها الحصول على النفط من حيث يكون أرخص”، وأصبحت الهند والصين أكبر مشترين للنفط الروسي، وفي مارس تجاوزت واردات الصين والهند من روسيا مجتمعة واردات النفط من الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، كما استفادت دول أخرى من الخام الروسى المخفض – على سبيل المثال: سريلانكا، التى تتصارع مع أزمة اقتصادية حادة[20]، ويُضاف إلى ذلك باكستان التى تعاني من ضائقة مالية، حيث تتوجه لشراء ما يصل إلى 4.3 مليون طن النفط الروسي المدعوم فى العام المقبل، ومن غير المتوقع أن تواجه سريلانكا أو إسلام آباد انتقادات غربية لمعاناتهم من الضائقة نفسها، إذ يعدوا من بين أكثر الدول تضررًا من ضغوط التضخم وانعدام الأمن الغذائي التي فاقهما الصراع.[21]
وعلى الجانب الآخر، نجد أن الدول التى انضمت لنظام العقوبات الغربية قد تأثرت سلبًا، وأهمها كوريا الجنوبية واليابان، فضلًا عن تفاوت درجة التأثير ومستوياته بين باقي الدول الآسيوية، وذلك تبعًا لعدة عوامل منها: حجم احتياج كل منها من الطاقة، والمصادر التي تعتمد عليها فى تلبيه هذه الاحتياجات، ومدى اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية.[22]
- الأمن الغذائي
تسهم روسيا وأوكرانيا معًا بنسبة كبيرة من صادرات الحبوب والأسمدة العالمية، حيث يمثلان حوالي 25-30٪ من صادرات القمح العالمية و30٪ من صادرات الشعير العالمية، وتوفر أوكرانيا أيضًا 15٪ من صادرات الذرة في العالم، ونتج عن الأزمة الأوكرانية عواقب وخيمة على الأمن الغذائي فى جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك آسيا التي تعد مستورد رئيسي للحبوب والزيوت النباتية والأسمدة الأوكرانية والروسية، فقد ارتفعت أسعار الغذاء فى جميع أنحاء العالم، إذ قفزت أسعار القمح بنسبة 21٪ والشعير بنسبة 33٪ والأسمدة المختلفة بنسبة 40٪.
استجابة لهذه التحديات، تقدمت العديد من الحكومات فى آسيا بإجراءات لحماية الأمن الغذائي، وعلى سبيل المثال: هناك ضغط مستمر في الصين من كبار قادة البلاد على المزارعين لتعزيز الأمن الغذائي على خلفية التوترات المستمرة، حيث أعلن الرئيس “شى جين بينغ” أنه يجب على الصين ضمان أمن الحبوب والاعتماد على السوق المحلية للحفاظ على الإنتاج.
وفى اليابان، تبنى الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم قرارًا يدعو الحكومة إلى تعزيز سياستها الخاصة بالأمن الغذائي؛ وفى أماكن أخرى، ألغت الهند الرسوم الجمركية الأساسية على زيوت الطعام بينما فرضت ماليزيا ضوابط على الأسعار ومنحًا لتخفيف ضغوط التكلفة، وفرضت إندونيسيا والهند حظرا على تصدير المواد الغذائية التي تعتبرها ضرورية لاستهلاكها المحلي.[23]
الخاتمة
حملت الحرب الروسية الأوكرانية تأثيرات متفاوتة على آسيا؛ حيث أحدثت انقسامات بين هذه الدول على صعيد مواقفها من الحرب كنتيجة طبيعية لاختلاف مصالحهم الوطنية، كما تأثرت معظم الاقتصاديات الآسيوية بشكل سلبي من جراء الحرب، فيما سعت دول أخرى لتوظيف الحرب لصالحها، وتحديدًا على صعيد الاستفادة من إمدادات الطاقة الروسية، فضلًا عن إثارة الصراع للنزاعات الجغرافية المجمدة؛ وفى ضوء ما تقدّم يتضح أن أزمة أوكرانيا لا تتعلق فقط بأوروبا، بل لها أيضًا تداعيات هائلة على آسيا، ومن المتوقع تفاقم تلك التداعيات مع طول أمد الحرب.
المراجع:
[1] Miller, Manjari Chatterjee. “How The Ukraine War Will Impact Asian Order.” Hindustan Times, May 12, 2022. https://www.hindustantimes.com/opinion/the-ukraine-war-will-impact-asian-politics101652281844481.html
[2] Tellis, Ashley J. “‘What Is in Our Interest’: India and the Ukraine War.” Carnegie Endowment for International Peace, April 25, 2022. https://carnegieendowment.org/2022/04/25/what-is-in-our-interest-india-and-ukraine-war-pub-86961.
[3] سكاى نيوز عربية، “الصين تؤكد حيادها إتجاه أزمة أوكرانيا.. و”تقلق” واشنطن”، 18 مارس 2022
[4] محمد غروى، ” أين تقف دول آسيان من الحرب الروسية – الأوكرانية؟”، إندبندنت عربية، 5 مارس 2022
[5] محمد سعد أبو عامود، “تداعيات الأزمة الأوكرانية على الوضع الأمنى فى آسيا”، مجلس الوزراء مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، 4 سبتمبر 2022
https://www.idsc.gov.eg/DocumentLibrary/View/7356
[6] اقتصاد الشرق مع بلومبرغ، “روسيا تمنح اليوان الصينى دفعة مع تصّدى شركاتها للعقوبات”، 15 سبتمبر 2022
[7] محمد سعد أبو عامود، مرجع سابق.
[8] سياسة وأقتصاد، “هل يشجع الغزو الروسى لأوكرانيا الصين على مهاجمة تايوان” 7 مارس 2022.
[9] محمد سعد أبو عامود، مرجع سابق.
[10] محمد سالم السالمى، “مستقبل توتر العلاقات الصينية – الأمريكية فى عهد بايدن”، تريندز للبحوث والاستشارات، 18 أعسطس 2022
[11] سكاى نيوز عربية، “توتر روسى يابانى.. هل تشعل أزمة أوكرانيا ملف جزر الكوريل؟”، 22 مارس 2022
[12] محمد منصور، “النزاع المجمد… جزر الكوريل والأزمة المؤجلة بين طوكيو وموسكو”، المرصد المصرى، 26 يوليو 2022
https://marsad.ecss.com.eg/71671/
[13] محمد سعد أبو عامود، مرجع سابق.
[14] محمد منصور، مرجع سابق.
[15] الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين، “كيف أستغلت كوريا الشمالية حرب أوكرانيا فى تحقيق مصالحها”، 7 ديسمبر 2022
https://apa-inter.com/post.php?id=5354#
[16] محمد سعد أبو عامود، مرجع سابق
[17] Divsallar, Abdolrasool. “Rising interdependency: How Russo-Iranian relations have evolved with the war in Ukraine”. TRENDS Research & Advisory, 12 Dec 2022.
[18] Faulder, Dominic.” How Ukraine war shook and shaped Asia in 2022”, Nikkei Asia, December 27, 2022. Accessible at: https://asia.nikkei.com/Spotlight/Asia-Insight/How-Ukraine-war-shook-and-shaped-Asia-in-2022
[19] محمد سعد أبو عامود، مرجع سابق
[20] BBC NEWS. “Ukraine crisis, Who is buying Russian oil and gas?”. December 6, 2022.
https://www.bbc.com/news/world-asia-india-60783874
[21] Faulder, How Ukraine war shook and shaped Asia in 2022.
[22] محمد سعد أبو عامود، مرجع سابق.
[23] Donnellon, Genevieve. “Invasion of Ukraine – Asia’s Food Security in Trouble?” Think Tank and Graduate School. RSIS, April 5, 2022