إعداد: عمر عبدالهادى
خلال السنوات الماضية، واجهت مصر مجموعة معقدة من المشاكل الاقتصادية التى أثرت سلبًا على مستوى معيشة مواطنيها، بدءًا من التضخم المرتفع الذى تجاوز 30٪، وبطالة الشباب التى وصلت إلى 25٪، ونقصٍ فى السلع الأساسية مثل الأرز والسكر، نشأت هذه الأعراض من تآكل فى هيكل الاقتصاد الكلى التى تتمثل فى عجز مالٍ كبير، والتزامات ديون خارجية عالية، ونقص فى العملات الأجنبية، حيث تعارضت هذه التآكلات الهيكلية طويلة الأمد مع الصدمات العالمية الأخيرة مثل جائحة كوفيد-19، وحرب روسيا وأوكرانيا، وهجوم إسرائيل الأخير على غزة.
وهناك ثلاثة أعمدة رئيسية للأزمة الاقتصادية الراهنة فى مصر:
١. نقص العملات الأجنبية: يعتبر هذا النقص، على وجه الخصوص، العرض الرئيسى الذى يعانى منه الاقتصاد المصرى، حيث إنه المصدر الرئيسى لعرضى التضخم وتفاقم الديون.
٢. التضخم المرتفع: أدى النقص فى العملات الأجنبية إلى ضرورة خفض قيمة الجنيه المصرى بشكل أكبر، مما زاد من سعر الواردات بالجنيه المصرى، إلى جانب السبب الآخر وهو الزيادة الحادة فى المعروض النقدى.
٣. ارتفاع الديون الخارجية: يؤدى انخفاض قيمة العملة أيضًا إلى زيادة عبء سداد القروض المقومة بالدولار.
لذلك، يمكن القول إن نقص العملات الأجنبية هو العرض الأساسى الذى يؤثر على الاقتصاد المصرى، حيث إنه يُعد المحرك الرئيسى لكل من أزمة التضخم وأزمة ديون خارجية.
ومن الممكن ربط أصول الأزمة الاقتصادية الراهنة بالصدمات الخارجية، ولكن المشكلة أعمق بكثير، وتعود إلى الهيكل الكلى للاقتصاد المصرى الذى جعله شديد التأثر بهذه الصدمات الخارجية. لفهم هذا، يجب أولًا فهم مفهوم “الدولة الريعية” كما صاغها الدكتور حازم الببلاوى فى مقالته عام 1987 “الدولة الريعية فى العالم العربي”.
الدولة الريعية هى دولة تستمد غالبية دخلها بانتظام من “ريع” (أى بيع) مواردها الطبيعية، وأفضل مثال على ذلك دول الخليج الغنية بالنفط. ومع ذلك، يمكن أيضًا تصنيف مصر على أنها دولة ريعية، على الأقل جزئيًا.
ويُستمد دخل مصر إلى حد كبير من أربعة مصادر مهمة: رسوم عبور قناة السويس، صادرات النفط، السياحة (أيضًا نوع من الصادرات)، وتحويلات المغتربين، وهذه المصادر الأربعة لدخل العملات الأجنبية لديها قاسم مشتر، فهى حساسة جدًا للصدمات الخارجية بدرجات متفاوتة، وبما أن الاقتصاد يعتمد بشكل كبير على هذه المصادر، فهو أيضًا حساس للصدمات الخارجية.
أدى الاعتماد المفرط على هذه المصادر إلى جعل الدولة والشعب أكثر اهتمامًا بتوزيع هذا الدخل بدلًا من الاهتمام بخلق دخل متزايد من خلال الإنتاج. لذلك، عندما يتراجع مصدر واحد أو أكثر من هذه المصادر، لا يكون للمقدرة الإنتاجية والمستوى العام للإنتاجية القدرة الكافية لتعويض هذا النقص.
لذلك، لن يتمكن أى برنامج بسيط من معالجة كل أعراض هذه المشكلة الهيكلية، وإن نجح حتى جزئيًا فسينتج عرض آخر وآخر مادامت المشاكل الهيكلية راهنة، فإن المشاكل التى تواجهها مصر الآن هى نتيجة لمشاكل هيكلية عميقة فى الاقتصاد ظهرت على السطح عندما لم تتمكن الدولة من تغطيتها بمزيد من الاقتراض بسبب عوامل خارجية خارجة عن سيطرتها، للخروج من الأزمة الحالية، ستحتاج مصر إذًا إلى حل مشاكلها الهيكلية، وهو ما سيستغرق وقتًا وجهدًا كبيرًا من الجميع.
مهمة الحكومة فى هذه الفترة هى تنسيق هذه الجهود من خلال وضع إطار أيديولوجى اقتصادى وعلمى واضح للتنسيق حول كيفية إدارة الاقتصاد، والأهم من ذلك هو إظهار الالتزام الكامل به.
منذ بداية سياسة الانفتاح الاقتصادى فى السبعينيات، ظلت مصر تسير فى طريق ما بين الرأسمالية والاشتراكية، دون أبداء أى خطوات حقيقية للتحول إلى دولة رأسمالية حقيقية، مما تسبب فى حيرة كبيرة لجميع الأطراف بما فيهم المستثمرين الأجانب، وفى اقتصاد يفترض الآن أنه رأسمالى، يعتبر استمرار الحكومة فى توظيف حوالى 5 ملايين من أصل 30 مليون شخص فى القوى العاملة أمرًا غير منطقى. وللمقارنة، يعمل لدى الحكومة الفيدرالية الأمريكية 2.87 مليون موظف فقط من قوى عاملة تبلغ 170 مليون نسمة.
على الحكومة إذًا أن توضح هذا اللبس نهائيًا وتتبنى أخيرًا أيديولوجيا اقتصادية علمية واضحة تقود البلاد تدريجيًا ولكن بحزم نحو اقتصاد حقيقى موجه من السوق، ويتم ذلك من خلال حل المشاكل الهيكلية التى تعيق هذا التحول.
لا يمكن للبلاد أن تستمر فى العمل كدولة ريعية حيث يقوم الاقتصاد بالازدهار والانكماش بناءً على دخل قناة السويس أو عدد السياح أو تفضيلات المستثمرين المحبين للمخاطر، ويجب على البلاد بدلًا من ذلك أن تبدأ فى الاعتماد على قدرتها الإنتاجية.
هذه خطوة ضرورية حتى تحصل البلاد على التمويل الذى تحتاجه على المدى القصير للخروج من الأزمة الحالية، حيث إن المستثمر أو الدائن لن يأتى حتى يتأكد من أن الحكومة ستنتهج سياسات تعزز من دور القطاع الخاص حتى يستطيع أن يسترد أمواله.
وبناءً على ما سبق، لا تشكل هذه الورقة البحثية مجموعة من الخطوات أو البرامج التى ينبغى على الحكومة اتخاذها للخروج من الأزمة، فإن مجموعة من الحلول غير المترابطة التى تفتقر إلى أيديولوجيا واضحة – كما هو الحال مع الحلول التى تنفذها الحكومة حاليًا – لن تحقق سوى أهداف متباينة بدون جدوى حقيقية، ويكفى لنا أن ننظر إلى المبادرات التى تبنتها الحكومة لجلب الاستثمارات المباشرة والتى لم تستطع أن تحقق أهدافها، ليس لأنها مبادرات خاطئة بالعكس هى مبادرات مهمة وكان يحتاجها الاقتصاد، ولكن فقدت جدواها مع قطاع خاص ضعيف لا يشجع على الاستثمار، وهو عرض لمشاكل الاقتصاد الهيكلية.
ويقترح الجزء المتبقى من الورقة البحثية للاتجاه الأمثل الذى يجب على الحكومة اتخاذه لإصلاح هيكل الاقتصاد مما سينعكس على الأزمة الحالية.
ويعتبر امتلاك إستراتيجية شفافة ومُصاغة بشكل جيد ومُتَناسقة خطوة مهمة فى حل المشكلات التى تواجهها البلاد حاليًا، وبعيدًا عن الفوائد المُباشرة من حيث تحسين التنسيق والتوجيه، تشكيل إستراتيجية واضحة هى الخطوة الأولى فى استعادة ثقة كل من الجمهور المحلى والدولى، وهذا سيسهم بشكل كبير فى تسهيل تنفيذ الخطوات اللازمة لحل تحدياتنا الهيكلية، حتى فى السيناريو الذى يتم فيه حل الأزمات العرضية من خلال داعمين خارجيين مثل صندوق النقد الدولى أو من خلال بيع أصول حكومية، فإنه يمكن للبلد، من خلال تعزيز الثقة، التفاوض على اتفاقيات قروض بتكلفة أقل أو بيع أصول بسعر أعلى.
إجراءات للحد من التضخم
تجميد جميع النفقات الحكومية غير الضرورية
يؤثر الإنفاق الحكومى على الضغوط التضخمية بطريقتين رئيسيتين، التأثير الأول والأكثر مباشرة هو عن طريق زيادة الطلب الكلى فى الاقتصاد، والطريقة الثانية غير المباشرة هى الطريقة التى يتم بها تمويل الإنفاق الحكومى المرتفع، الذى يتعدى إيرادات الحكومة (عجز الميزانية)، من خلال زيادة المعروض النقدى.
خلال الأعوام الماضية، وتحديدًا منذ عام 2016، زادت الحكومة المصرية من إنفاقها بشكل كبير، خاصة على المشروعات الوطنية الكبرى، فى حين أن هذه الاستثمارات سيكون لها عائد إيجابى على القدرة الإنتاجية للاقتصاد على المدى الطويل، إلا أن عائد هذه الاستثمارات الحقيقى لم يظهر بشكل فعال على المدى القصير والمتوسط.
يعتبر وقف مؤقت لجميع الاستثمارات غير الضرورية التى تقوم بها الحكومة أداة فعالة للتخفيف من التضخم، ورصدت ميزانية العام 2023/2024 مبلغ 586 مليار جنيه مصرى للاستثمارات فقط، وهو ما يمثل حوالى 20٪ من إجمالى النفقات (حوالى 3 تريليون جنيه) و31٪ من إجمالى النفقات المتبقية بعد استبعاد مدفوعات الفائدة .لذلك، فإن خفض الإنفاق الاستثمارى حتى إلى النصف سيقلل إن لم يقضِ على العجز فى الميزانية وسيخفف من الضغوط التضخمية التى تخلقها هذه الاستثمارات. بينما يُعدّ بعض الاستثمارات ضروريًا، إلا أنه يمكن تخفيض نسبة كبيرة منها. رصدت الميزانية 387 مليار جنيه من أصل 586 مليار جنيه مخصصة للاستثمارات إنشائية جديدة، كما يجب على الحكومة إيقاف الاستثمار فى هذه المشروعات الإنشائية جزئيًا حتى يتم تجاوز الأزمة.
ويُمثل عجز ميزانية الحكومة مصدرًا آخر للضغوط التضخمية التى تواجهها مصر، ففى عام 2023، قام البنك المركزى بإصدار 238.09 مليار جنيه مصرى لشراء سندات حكومة، وهذا يؤدى إلى زيادة القاعدة النقدية من خلال عملية تُسمى “تسييل الدين العام” (debt monetization).
هذه مجرد أمثلة لتوضيح وجهة النظرأنه لا يزال هناك العديد من الإجراءات التى يمكن للحكومة اتخاذها للحد من التضخم، من أهم هذه الإجراءات هو خفض الإنفاق بشكل كبير.
تجميد شامل لجميع عمليات الاقتراض الحكومى غير الضرورية
حتى سبتمبر 2023، اقترضت الحكومة المصرية أكثر من 2.466 تريليون جنيه مصرى، ويمثل هذا الاقتراض حوالى ربع الناتج المحلى الإجمالى للسنة المالية 2022/2023.
هذه المديونية الهائلة، بالإضافة إلى أنها تضيف إلى الضغوط التضخمية المرتفعة من خلال عملية تسليع الدين العام، فإنها أيضًا تعرقل نمو القطاع الخاص، واستمرار مثل هذا التوجه فى السياسة المالية يُشير إلى كل من المستثمرين المحليين والدوليين أن الحكومة عازمة على البقاء على المسار نفسه ولا تزال غير مستعدة للتخلى عن دورها كلاعب الرئيسى فى الاقتصاد، مما يجعل المستثمرين الأجانب مترددين فى إجراء استثمارات مباشرة فى وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى هذه الاستثمارات.
وسيرسل وقف هذا الاقتراض إشارة مهمة، ولا سيما للمستثمرين الأجانب، بأن الحكومة مستعدة لاتخاذ خطوات حقيقية نحو اقتصاد رأسمالى موجه من خلال السوق.
الحالة الموصوفة أعلاه تُمثل ظاهرة تُسمى “الهيمنة المالية”، بأن الهدف الأساسى الذى يجب أن تسعى إلية كلًا من السياسة المالية والنقدية هو استقرار التضخم عند معدل مستهدف، ويمكن تحقيق ذلك إما عن طريق قيام البنك المركزى (السياسة النقدية) باستخدام أدواته بفعالية للحفاظ على التضخم عند المستوى المستهدف بينما تقوم الحكومة (السياسة المالية) بتعديل مستوى الدين العام الخاص بها وفقًا لذلك، وهذا ما يُسمى “الهيمنة النقدية” حيث توجه السياسة النقدية كيفية إدارة التضخم، أما الوضع الآخر فهو “الهيمنة المالية” حيث تقوم الحكومة (السياسة المالية) بتعديل مستوى دينها العام بشكل مستقل وتقوم السياسة النقدية بتعديل أسعار الفائدة الخاصة بها تبعًا لذلك، بطريقة تسمح للحكومة بإمكانية إدارة مدفوعات الفائدة على دين، وهذا ما يُسمى “الهيمنة المالية”.
إن مشكلة استخدام السياسة المالية لإدارة التضخم هو أن الحكومة لها أولويات أخرى غير اقتصادية عليها إدارتها، وفى حالة تقديم هذه الأولويات على إدارة التضخم، فقد تستمر الحكومة – كما فى الحالة المصرية – فى الاقتراض وزيادة ديونها، ومع ذلك التضخم تعجز السياسة النقدية عن استخدام أدواتها (رفع أسعار الفائدة) لحماية الحكومة من التخلف عن السداد، وهذا هو ما تسبب فى التضخم المفرط فى ألمانيا فى عشرينيات القرن الماضى وارتفاع التضخم فى تركيا مؤخرًا.
إصلاح المشاكل الهيكلية: تسهيل التحول إلى اقتصاد رأسمالى موجة من السوق
لقد لعبت الحكومة الدور الرئيسى فى الاقتصاد المصرى خلال السنوات القليلة الماضية، وقد أدى هذا إلى تجنيب القطاع الخاص بشكل كبير، كما أشارت إليه الدكتورة عالية المهدى (عميدة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة سابقًا)، فيمكن إظهار ذلك من خلال مقارنة حصة إجمالى القروض الممنوحة للحكومة والقطاع الخاص منذ عام 2010 حتى عام 2023 كما هو موضح فى الرسومات البيانية المرفقة.
ويُلاحظ انخفاض حصة القطاع الخاص إلى النصف تقريبًا خلال الفترة من عام 2010 إلى عام 2023، حيث انخفضت من 39٪ فى يونيو 2010 إلى 22٪ فى يونيو 2023. بالمقابل، ارتفعت حصة الحكومة بنسبة تقارب 60٪ من حصتها الأصلية فى عام 2010 خلال نفس الفترة، حيث ارتفعت من 42٪ من إجمالى الائتمان الممنوح فى يونيو 2010 إلى 67٪ من إجمالى الائتمان الممنوح فى يونيو 2023، ويُعد هذا الأمر دليلًا واضحًا على التغيُّر الذى طرأ على بيئة الأعمال التى باتت تهيمن عليها الحكومة.
بصرف النظر عن التبعات الواضحة لجعل القطاع العام هو الموجّه الأساسى لتخصيص الموارد فى الاقتصاد، وهو الأمر الذى أثبتت النظريات الاقتصادية الحديثة و التجارب العملية عدم كفاءته، استذكارًا لتجارب الاقتصادات الاشتراكية ومقارنتها بالاقتصادات الموجهة بالسوق، حتى مع تشابه الموارد الطبيعية والثقافة والموقع الجغرافى، مثل ألمانيا الغربية والشرقية، وكوريا الشمالية والجنوبية، وما إلى ذلك.
كما أشارت الدكتورة علياء المهدى، يُوظف القطاع الخاص فى مصر غالبية القوى العاملة، وهو المسؤول عن إيجاد معظم فرص العمل فى الاقتصاد، كما يُنتج الغالبية العظمى من السلع والخدمات. لذا، فإن صحة القطاع الخاص والموارد المتاحة له أمر بالغ الأهمية لمستوى معيشة كل مواطن مصرى، ناهيك عن تداعيات ضعف القطاع الخاص على آفاق الاستثمار الأجنبى المباشر، كل هذه الاعتبارات تقودنا إلى ضرورة عودة القطاع الخاص بقوة إلى الساحة الاقتصادية.
تقليص دور الحكومة كلاعب أساسى فى النشاط الاقتصادى وتعزيز دورها كحكم وميسر
من المرجح أن يكون التدخل الحكومى فى الاقتصاد قد وصل إلى أعلى مستوياته على الإطلاق منذ التحول إلى اقتصاد يعتمد على السوق فى سبعينيات القرن الماضى، ولا يشير التدخل الحكومى المقصود فى هذه الحالة إلى الدور المشروع للحكومة فى وضع وتطبيق سيادة القانون وإصدار التراخيص وما إلى ذلك. بل يتمثل فى نوعين أساسيين: 1) إنتاج السلع والخدمات التى يمكن للقطاع الخاص إنتاجها بكفاءة أعلى 2) مُزاحمة القطاع الخاص فى سوق الائتمان.
من ناحية أخرى، لم تحقق الحكومة إلا القليل من التحسن فى دورها كحكم ومُيسّر للمعاملات التجارية. فى أحدث مؤشر لسهولة ممارسة أنشطة الأعمال (ease of doing business index 2020)، احتلت مصر المرتبة 166 فيما يتعلق بإنفاذ العقود. فعلى سبيل المثال، يستغرق إنفاذ العقود فى المتوسط 1010 أيام (أى حوالى 3 سنوات)، وتصل التكاليف إلى 26.2٪ من القيمة المطالب بها، فى حين يحصل مؤشر جودة العملية القضائية على درجة 4 من 18.
وقد أسهم هذا الوضع فى ضعف القطاع الخاص محليًا، والأهم من ذلك، أنه أدى إلى تردد الشركات الدولية فى دخول السوق، حيث ظل الاستثمار الأجنبى المباشر محدودًا للغاية ولم يصل سور إلى 3.1٪ كحد أقصى من الناتج المحلى الإجمالى فى الفترة بين 2016 و2022، وانخفض الرقم إلى مستوى منخفض بلغ 1.2٪ فى عام 2021، وهو بالكاد يفوق مستوى الاستثمار الأجنبى المباشر فى عام 2012 فى أعقاب أحداث 2011 حيث بلغ وقتها 1٪ من الناتج المحلى الإجمالى، كل هذا يؤكد أن السياسات التوسعية للحكومة قد جاءت على حساب القطاع الخاص.
لذلك، يجب على الحكومة أن تسعى جاهدةً إلى وقف تدخلاتها فى السوق، ويجب أن تسعى جاهدةً أيضًا إلى السير على طريق نحو إنتاج السلع والخدمات التى لا يستطيع القطاع الخاص إنتاجها بكفاءة فقط، والتى هى لها شروط محددة فى النظريات الاقتصادية يجب أن تستوفى، وبذلك التدخل فقط يكون فى حالة فشل السوق، والخطوة الأولى فى هذا الطريق يتضمن بيع معظم الشركات الإنتاجية المملوكة للدولة.
تهيئة بيئة أعمال جذابة
تهيئة بيئة الأعمال الجذابة خطوة بالغة الأهمية فى سبيل خلق اقتصاد سوقى حديث، وتتمثل الخطوة الأولى، كما ذكرنا، فى خروج الحكومة من السوق كمنتج، ولعل من أهم مقومات بيئة الأعمال الجذابة توفر عنصر المنافسة العادلة؛ إشارةً إلى أن الحكومة لا تُعد منافسًا عادلًا بأى مقياس، فهى، على عكس الشركات الخاصة، بمقدورها استنزاف الموارد (الضرائب) دون كفاءة أو حساب، واستمراريتها فى العمل على الرغم من تكبد الخسائر. إلى جانب ذلك، فإن الحكومة مسؤولة أيضًا عن تطبيق القانون على مشروعاتها ومؤسساتها، مما يخلق تضاربًا فى المصالح يفتح الباب واسعًا أمام إساءة استغلال السلطة، ناهيك عن ضعف السلطة القضائية وشح مواردها، يُضاف إلى تلك التحديات، البيروقراطية المفرطة التى تخلق بيئة طاردة للقطاع الخاص.
على الرغم من هذه السلبيات، نجد أن السوق بشكل عام يزخر بالعديد من الإيجابيات، وامتلاك سوق كبير يضم عددًا وافرًا من العملاء المحتملين، إلى جانب توفر عمالة ذات تكلفة منخفضة نسبيًا، بالإضافة إلى سهولة الوصول إلى خطوط الشحن الدولية، والتى تُتيح إمكانية الوصول الفعال إلى الأسواق العالمية، يضاف إلى ذلك السوق المحلى الضخم، كلها عوامل من شأنها أن تُساهم فى جذب القطاع الخاص، لكن الإيجابيات فى السوق لا تُستغل بالشكل الأمثل، ويرجع ذلك جزئيًا إلى بيئة الأعمال السيئة.
من الإصلاح الهيكلى إلى التطبيق العملى: التصدير كمحرك للنمو
لطالما انتقد العديد من المعلقين النهج النظرى لحل المشكلات الراهنة التى تواجهها الدولة، وطالبوا بدلًا من ذلك بالاعتماد الحصرى على الحلول العملية، ورغم أن هذه الحلول العملية ضرورية، إلا أنها تفقد فعاليتها إذا لم تسترشد بنظرية سليمة، ويجب أن تسير النظرية والممارسة جنبًا إلى جنب لمعالجة القضايا الحقيقية وليس أعراضها فحسب. فعلى سبيل المثال، تسعى الحكومة منذ سنوات إلى جذب الاستثمار الأجنبى المباشر من خلال حوافز مثل صياغة قوانين خاصة بالشركات الأجنبية، ومبادرة النافذة الواحدة، والتراخيص الذهبية وغيرها، كل هذه المبادرات ممتازة لكنها لم تؤت ثمارها بعد، وذلك لأنها استهدفت فقط معالجة أعراض المشكلة الهيكلية المتمثلة فى البيروقراطية المفرطة للشركات الأجنبية فقط، بدلًا من حلها من جذورها للاقتصاد ككل.
هذا القسم من البحث يوضح كيف يجب أن توجه النظرية الممارسة، وذلك فى مثال استخدام الصادرات كوسيلة لحل مشكلة نقص العملة الحالية، وسيتم تطبيق هذا المثال على القطاع الزراعى الذى حققت فيه الحكومة المصرية خطوات ممتازة لتسهيل صادرات المنتجات المصرية.
ولقد كان لانخفاض قيمة الجنيه المصرى تأثير كارثى على مستوى التضخم وعلى الاقتصاد ككل، ومع ذلك، يوفر لنا الانخفاض فرصة قيمة للغاية تعتبر أحد مفاتيح التعافى الاقتصادى.
حيث أدى الانخفاض إلى جعل السلع والخدمات المصنوعة فى مصر أكثر قدرة على المنافسة فى الأسواق العالمية من خلال جعل المنتجات المصرية أرخص للأجانب، بالإضافة إلى جعل الواردات أكثر تكلفة للمشترين المحليين، مما يعنى أن المنتجين المحليين يواجهون منافسة أقل فى الداخل من نظرائهم الأجانب، ويوفر هذا حافزًا كبيرًا للمنتجين المحليين لزيادة إنتاجهم، والأهم من ذلك صادراتهم، والتى تعد مصدرًا مهمًا للعملات الأجنبية.
تساهم هذه التطورات فى الحد من عجز الحساب الجارى المزمن من خلال خفض العجز التجارى الذى تواجهه مصر منذ عامين، وتسبب العجز فى نقص العملات الأجنبية عندما لم يعد بالإمكان تغطيته بتدفقات الدولارات إلى البلاد نتيجة خروج استثمارات الأوراق المالية بسبب ارتفاع أسعار الفائدة فى الاقتصادات الأكثر أمانًا مثل الولايات المتحدة، وانخفاض عائدات السياحة وما إلى ذلك.
الآن، ما الذى يمنع القطاع الخاص من الاستفادة من هذه الفرصة؟
تظهر العقبات بسبب المشكلات الهيكلية التى ذكرت سابقًا:
- تهميش القطاع الخاص الذى يُعد المصدر الرئيسى.
- نقص العملات الأجنبية الذى يعود جزئيًا إلى الاعتماد المفرط على المصادر الخارجية للدخل والاقتراض الحكومى المفرط بالعملات الأجنبية مما استلزم تأخير التحول إلى سعر صرف مرن.
- التضخم الذى يعود جزئيًا إلى الإنفاق الحكومى المفرط.
- بيئة أعمال تُنفر الاستثمارات الخاصة بدلًا من جذبها
تطبيق على سياسات تحفيز صادرات القطاع الزراعى
يوفر القطاع الزراعى نموذجًا ممتازًا لكيفية تحفيز الحكومة للقطاع الخاص والصادرات خاصة، فقد كان لانخفاض قيمة العملة، إلى جانب السياسات والبرامج والمشروعات الممتازة التى تبنتها الحكومة ووزارة الزراعة، الأثر الكبير فى تحقيق عام قياسى للصادرات الزراعية، حيث بلغت صادرات المنتجات الطازجة 3.7 مليار دولار، بينما حققت الصادرات الزراعية الطازجة والمصنعة عائدات بلغت 9 مليارات دولار فى عام 2023.
وكانت الحكومة المصرية حريصة على تحسين قطاع الزراعة، فقد أضاف مشروع استصلاح الأراضى ملايين الفدادين من الأراضى الصالحة للزراعة. بالإضافة إلى ذلك، نفذت الحكومة فى عام 2021 برنامجًا جديدًا وهو “منظومة التكويد والتتبع”، ويساعد هذا البرنامج المنتجين الزراعيين الراغبين فى تصدير منتجاتهم إلى الخارج من خلال مساعدتهم على الالتزام باللوائح الصحية والجودة الخاصة بدولة التصدير، حيث يسجل المنتجون فى البرنامج ويحصلون على تفتيش كامل لمواقعهم ويسمح لهم بعد ذلك بتصدير منتجاتهم، وقد فتح هذا أسواقًا جديدة للمنتجين الزراعيين المصريين مثل اليابان والصين خلال العام الماضى، ويظهر هذا المثال النموذج الذى يجب على الحكومة التدخل على أساسه، فى هذه الحالة، كانت الحكومة مُيسِّرة وليست مُنافِسة، حيث عملت جنبًا إلى جنب مع القطاع الخاص للمساعدة فى إزالة العقبات التى تعترض طريقه.
المصادر
- معدلات التضخم
- عطالة الشباب
- العجز المالى
- الدين الخارجى
- “The Rentier State in the Arab World”, دكتور حازم الببلاوى
- مصادر الدخل الأجنبى
- العاملين بالحكومة
- قوة العمل المصرية
- عدد العاملين بالحكومة الفدرالية الأمريكية
- قوة العمل الأمريكية
- المتفوقات فى الموازنة العامة المصرية
- إصدار البنك المركزى عملة لشراء دين حكومى
- دين حكومى
- نصيب القطاع الخاص والعام من الائتمان المصرفى
- Ease of doing business report
- الاستثمار المباشر كنسبة من الدخل القومى
- الصادرات الزراعية