كتبت: حسناء تمام كمال
أُجري لقاءٌ بين الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيون جوتيرش” ووزير الخارجية المصري “سامح شكري”، تطرقا فيه لعدد من القضايا، أهمها (سد النهضة)، وأكد “جوتيرش” استعداد الأمم المتحدة لدعم المفاوضات بقيادة الاتحاد الأفريقي.
وقد فشل مجلس الأمن – قبل عملية الملء الثاني – في جمع الأطراف على مائدة المفاوضات، وتعثر الوصول لاتفاق ملزم للطرفين لعملية الملء والتشغيل، وفي ظل تعنُّت الجانب الإثيوبي بإتمام الملء الثاني، ورفْض الجانب المصري، سادت الدعوة إلى استخدام الخيار العسكري لحسم المسألة.
والمثير للاهتمام والنقاش في هذه الدعوات، أنها لاقت قبولًا واسعًا بالأوساط المختلفة، بدءًا من الأوساط العسكرية، مرورًا بـالأوساط الأكاديمية، وحتى الأوساط العامة المتمثلة بالشعوب، فأطراف الأزمة استخدموا تصريحات – تارةً مستترةً وأُخرى صريحةً – هددوا فيها باللجوء إلى الخيار العسكري.
تبدو الدعوة إلى التصعيد باستخدام الخيار العسكري مُبرَّرَةً ومفهومَةً؛ فطول أَمَد المفاوضات التي استمرت لعقْد كامل، وضمت عشرات الجلسات الثنائية والثلاثية، بين الأطراف، وعدم عقلانية الخطاب الإثيوبي الُمصِرّ على التصرف بشكل أُحادي واستفزازي معظم الأوقات بقضية المياه التي تمثل أمنًا قوميًّا، ولأهمية وحساسية القضية وتعقيدها يُقتضي رشادة التصرف والحل، ومن هنا نفكر سويًّا في مدى تلاؤم الخيار العسكري بمسألة سد النهضة.
اتجاه عالمي نحو التهدئة:
في عصر تنافس القوى والاستعداد العسكري، أصبحت المقدرات العسكرية العنصر الأهم في قياس قوة الدولة، نسترشد بعدة أحداث عالمية كشفت تراجعًا لدى القوى الدولية في تفضيل استخدام الخيار العسكري بالأزمات، مهما بلغت شدتها.
فالعام الماضي، وقعت ثلاثة أحداث عالمية شغلت الرأي الدولي، بين قوى كبرى كانت هذه الأحداث بمثابة أمن قومي لدى الدول كافةً، ووفقًا لمعايير حفاظ الدول على أمنها ومصالحها كانت تتطلب التدخل العسكري، لكن ذلك لم يحدث، وأهم تلك الأحداث ما يلي:
أولًا: مقتل قاسم سليماني: في 3 يناير مطلع العام السابق، استهدفت صواريخ أمريكية (قاسم سليماني)، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، والرجل المهم في سياسات طهران الخارجية بالمنطقة، وبجانبه (أبو مهدي المهندس) نائب قائد ميليشيات الحشد الشعبي العراقية.
اعتقد العالم وقتها أننا على شفا حرب عالمية ثالثة، لم يكن ذلك من فراغ؛ إذ تبادل الطرفان تصريحات تصعيدية، وبعد تبادل الاتهامات، وتصويت مجلس الشيوخ الأمريكي على الحرب، أعلن الرئيس الأمريكي في اللحظة الأخيرة عدولَه عن قرار الحرب مع إيران.
وكان المتوقع وقتها أن يكون الغضب الإيراني مترجمًا برد فعل مماثل، غير أن إيران ردَّت باستهداف قاعدتين عسكريتين أمريكيتين بالعراق، قالت طهران: إنّها شنّت الهجوم انتقامًا لمقتل القائد (قاسم سليماني) بغارة أمريكية ببغداد، غير أنه لا أهمية كبرى لهاتين القاعدتين، كما لم ينتج عنه أيّ خسائر تُذكر، وهو ميْل إيراني واضح نحو التهدئة بتحجيم الخسائر رغم عِظَمها.
التوتر المصري التركي حول التواجد في ليبيا: بدأ هذا التوتر بإعلان تركيا بدء إرسال قواتها إلى ليبيا بناءً على اتفاقها مع حكومة (السراج)؛ ما جعل مصر تستشعر محاولة تركيا مضايقتها بليبيا؛ لترد مصر بقرار الاستعداد للتدخل في ليبيا، بموافقة البرلمان المصري عليه رسميَّا، وهنا صُدِّرت صورة للعالم بأن مصر على أعتاب حرب بليبيا، ولم يتبقَ سوى ساعات لإعلانها.
وبعد إتمام إجراءات التصعيد، فُوجئنا بتصريحات من الجانبين، تفيد رغبتهما بحلِّ الأزمة بشكل سياسي، واستبعاد الحل العسكري، وسلكت الأطراف سُبُل التشاور حول التسوية، ووجدنا الأقطاب المتنافرة تتجاذب، وتوافق على تسوية الأزمة الليبية.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: من ناحية ثالثة، شهد هذا العام قرارًا أمريكيًّا، جدير أخذه بالاعتبار، فقد أعلن الرئيس الأمريكي (جون بايدن) سحب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول سبتمبر القادم، وانسحابها من أفغانستان مثال حي وداعم للفكرة.
قد يبرر أحدٌ هذا الإعلان باضطرار الإدارة الأمريكية الجديدة للوفاء بالموعد النهائي لإعلان خطة الانسحاب في مايو الجاري، حسب الرئيس الأمريكي السابق (دونالد ترامب) ، وفي وقت سابق حددت الإدارة الأمريكية عام 2014 للانسحاب، ثم عام 2017، لكنها لم تنسحب، فلا غرابة إن لم تفِ بوعدها هذه المرة، ومن ثم فلا ضغط على الإدارة الأمريكية الجديدة.
وهذا يؤكد أن قرار الانسحاب أتى بقناعة من الإدارة الأمريكية بأن تكلفة البقاء أعلى من الانسحاب، فبعد فترة الصراع التي قضتها بأفغانستان، الذي اعتبره مسؤولو خارجيتها السابقون بمثابة اختبار للقيادة الأمريكية، بل والاضطرار إلى مواصلة المفاوضات مع طالبان – التي دخلت بهدف القضاء عليها – وجدت أن الانسحاب تكلفته أقل وأجدى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
وتشترك الأزمات الثلاث في التصعيد الكبير وأهمية وحساسية القضية محل الخلاف، وكذلك الرسائل التي ترسلها كل دولة لها طرف في الخلاف إلى شعبها والمجتمع الدولي، مع الحرص على جعل الرسائل قوية ذات مردود إيجابي تعكس صورة الدولة، غير أن الواقع فرض استبعاد الخيار العسكري بمميزاته، وتفضيل اللجوء إلى الحل السياسي. من ناحية أخرى وبالنظر للوضع أثيوبيا فأن هناك تغاضي دولي عن وجود انتهاكات أثيوبيا كبيرة للمواثيق الدولية والقانون الدولي وميثاق الاتحاد الأفريقي، والمعاهدات التي تلتزم فيها بحماية حقوق الإنسان.
ارتفاع تكلفة الخيار العسكري للطرفين:
وفي هذا الصدد يمكن تفسير هذه الظاهرة، بالاستناد إلى التجارب الدولية السابقة في الحروب، بالتراجع عن الحل العسكري؛ ليقين الدول أن تكلفة الخيار العسكري كبيرة جدا ولا تقل في مقدارها عن أيّ خسائر أُخرى قد تتحملها نتيجة تعثر موقفها بالأزمة محل الخلاف.
فالطرف الأمريكي فضَّل التصريحات الاستفزازية، وضرب القواعد الأمريكية بالعراق وتجاوزها، بدلًا من إطلاق شرارة الحرب، التي قد تستغرق سنوات وعقود لتنتهي، وهو ما ينتج عنه خسائر اقتصادية هائلة، إضافةً لتوغل سياسي قد يترتب عليه مسألة دولية وتعقيدات أُخرى تطلبها مسؤولية الدول عن إدارة هذه الحروب، وفي هذا الصدد نحاول استشراف محددات موقف الطرفين من الخيار العسكري
بالنسبة للطرف المصري: يمكن أن نستقيه من التجربة المصرية بخوض التحالف العربي في اليمن، وما تبعه من التزامات سياسية واقتصادية للحفاظ على أمنها القومي، وبالتالي فإن استخدام الحل العسكري قد يضمن عدم تأثر حصة مصر المائية، لكن له تكلفة.
إضافةً إلى أن الخيار العسكري بهذا التوقيت قد يأتي بعكس المحدِّدات الرئيسية التي تُرسم السياسة المصرية الخارجية وفقًا لها، والتي تعتمد على دور إقليمي فعَّال يساهم بدعم الاستقرار والأمن في المنطقة، بالمشاركة في عمليات إعادة الإعمار في كلٍّ من (ليبيا والعراق وفلسطين والسودان وجنوب السودان).
ومصر كما فعلت في حرب أكتوبر تحسم حسابتها بدقة، وأي عمل عسكري لن تكون نتيجته سوى تحقيق الأهداف المصرية وهذا أمر مفروغ منه.
أما من ناحية إثيوبيا: فأي تحرك مصري عسكري ناحية السد، سيسبب أزمةً اقتصاديةً حقيقيةً لها داخليًّا؛ لارتباطها بالعديد من التطلعات القومية والآمال الاقتصادية، وجمعت – بناءً عليه – العديد من التبرعات الداخلية، ورسمت خططها الاقتصادية وفقًا له؛ لذا فتعطيل عمل السد يعني تعطل خططها الاقتصادية، وبفرضية أن إثيوبيا قادرة على التعامل سياسيًّا وعسكريًّا مع الخيار العسكري، فهذا بالتأكيد لا علاقة بقدراتها الاقتصادية بتنفيذ العديد من المشروعات التنموية المرتبطة بالسد، وغياب ذلك يهدد الاستقرار السياسي للحكومة الإثيوبية.
وخارجيًّا ستكون إثيوبيا في مأزق مع الشركات الأجنبية العاملة بالسد، فقد تواجه مشكلة في تأمينها أو تأمين مستحقاتها الاقتصادية، وهي معضلة لا ترغب إثيوبيا بالدخول فيها، من ناحية ثالثةٍ، بعيدًا عن تشكيل التحالفات – التي قد يلجأ إليها أطراف الأزمة حال الركون إلى الحل العسكري – تدرك إثيوبيا أن قدرات مصر العسكرية تفوقها بمراحل، و للخيار العسكري وقتها تكلفة اقتصادية أكثر إرهاقًا للاقتصاد الإثيوبي؛ إذ تحتل قوة الجيش المصري المرتبة 13 عالميًّا، في حين يحتل الجيش الإثيوبي المرتبة60 وفقًا لتصنيف موقع جلوبال فاير باور.
أبرز ملامح الفترة القادمة في التعامل مع سد النهضة
إجمالًا يمكن القول: إن الخيار العسكري، لم يعُد الأكثر فاعليةً في حلِّ الأزمات الدولية مهما بلغ تعقيدها، وأن العصر القادم لن يكون للقوة العسكرية والنووية، بل للحلول السياسية والدبلوماسية، وفي ظل تعثُّر المسار الدبلوماسي- وإن كان بشكل مؤقت – قد يكون الضغط بالتحالفات السياسية والعسكرية، والمصالح الاقتصادية هو سبيل الأطراف لتقوية مواقفهم وإحداث توازن بالمواقف السياسية، والتوصل لتسوية مرضية لكلٍّ منهم؛ لذا قد تشهد الفترة الحالية والقادمة تصعيدًا أكبر بين الأطراف بالوسائل المذكورة، وسيظل التصعيد قائمًا حتى التوصل لتسوية.
من ناحية أُخرى، يتوقع أن تكون إثيوبيا بعد إتمام عملية الملْء الثاني أكثر انفتاحًا على استئناف المفاوضات، وذلك بعد أن عزَّزت موقفها واستطاعت تحقيق خطوات أوسع لصالحها بإتمام الملء دون اتفاق، لكن المؤكد عدم استمرارها بهذا المسار دون اتفاق.