الزعيم الصينى فى موسكو.. قراءة فى مخرجات الزيارة

إعداد : أكرم السيد

فى زيارة هى الأولى من نوعها للزعيم الصينى “شى جين بينج” إلى روسيا منذ بدء العملية الروسية الخاصة فى أوكرانيا، التقى الزعيم الصينى نظيره الروسى “فلاديمير بوتين”، فى زيارة بدأت الاثنين الماضى واستمرت لثلاثة أيام، والتى يعول عليها مراقبون فى أن تعزز مبادرة السلام ذات الصلة بالحرب فى أوكرانيا والتى طرحتها “بكين” فى وقت سابق.

وتأتى هذه الزيارة أيضًا فى توقيت تتلقى فيه “بكين” عدة اتهامات غربية تشير إلى انخراطها فى دعم “موسكو” عسكريًا وهو ما تنفيه “بكين”، وبشكل عام يمكن حصر مخرجات الزيارة فى ثلاث نقاط رئيسية، أولها تعزيز التعاون الاقتصادى بين البلدين، والذى زادت وتيرته فى أعقاب الأزمة الأوكرانية، وثانيها تأكيد العمل سويًا بين “موسكو وبكين” خاصة فى ظل تفاهم البلدين إزاء قضايا عدة، وأخيرًا الأزمة الأوكرانية، والتى كان لها نصيب فى محادثات زعيمى البلدين، حيث تمت الإشارة إلى مبادرة “الوساطة الصينية” مجددًا وسبل التسوية السياسية، لتثار التساؤلات حول مدى نجاح المبادرة من عدمه.

تعاون اقتصادى متنامى

كان ملف التعاون الاقتصادى بين “موسكو وبكين” محل اهتمام كبير فى ضوء هذه الزيارة، وعندما نتحدث عن التعاون الاقتصادى بين البلدين، فإن الدائرة هنا تتسع لتشمل مختلف جوانب التعاون، والتى زادت الأزمة الأوكرانية من تزايد وتيرتها، وبالعودة إلى نتائج الزيارة على الصعيد الاقتصادى، نجد أنها قد شهدت توقيع وثيقتين من شأنهما تعزيز التعاون الاقتصادى بين البلدين، كما تمت مناقشة زيادة حجم التبادل التجارى بين البلدين ليصل إلى ٢٠٠ مليار دولار، بالإضافة إلى بحث سبل زيادة الواردات الغذائية الروسية إلى الصين، وكذا زيادة التدفقات الروسية من الغاز الطبيعى والنفط، وتناول التعاون الإشارة إلى عزم البلدين على إنشاء خط أنابيب الغاز “قوة سيبيريا”، والذى سيصل إلى “الصين” قادمًا من “روسيا” عبر “منغوليا”.

وتجدر الإشارة إلى أن تعزيز التعاون الاقتصادى لم يكن وليد هذه الزيارة، بل يأتى تعزيزًا للتعاون الاقتصادى بين “موسكو وبكين” كتأكيد على استمرار النهج التعاونى بينهما والذى ارتفع بصورة ملحوظة منذ بدء الأزمة الأوكرانية، فبالاستناد إلى لغة الأرقام، فسوف نجد ارتفاعًا ملحوظًا لحجم التبادل التجارى بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، حيث ارتفع  من ١٤٧ مليار دولار فى عام ٢٠٢١ إلى ١٩٠ مليار دولار فى عام ٢٠٢٢، لتصل حجم الزيادة فى عام واحد فقط إلى ٤٣ مليار دولار.

وبالإضافة إلى ذلك، نجد أن “موسكو” أصبحت هى مورد الغاز الأكبر إلى “بكين”، بالإضافة إلى ارتفاع حجم واردات النفط أيضًا، فوفقًا للإدارة العامة للجمارك فى “بكين”، فإن واردات الغاز الروسى إلى الصين قد ارتفعت فى الأشهر العشرة الأولى فى عام ٢٠٢٢ إلى ٣٢%، فيما قد ارتفعت واردات النفط فى عام ٢٠٢٢ إلى ٨%.

لذا، فإنه يمكن القول بأن نتائج هذه الزيارة على الصعيد الاقتصادى تعطى إشارة واضحة على عزم البلدين على المضى قدمًا فى تطوير وزيادة أوجه تعاونهما، لاسيما وأن الرئيسين الروسى والصينى قد وجها حكومتيهما بإعداد خطة لتطوير التعاون الاقتصادى بين البلدين وصولا لعام ٢٠٣٠، وهو ما يمثل لموسكو ما يشبه “طوق النجاة” نظرًا لاعتمادها على حليف كبير كالصين، وهو ما يُسهم فى كسر عزلتها الدولية التى لم يتردد الغرب فى اتخاذ أى قرار يُسهم فى عزل “روسيا” عن المجتمع الدولى منذ بدء الحرب، كذلك وعلى الرغم من أن فكرة زيادة “موسكو” لحجم تعاونها الاقتصادى مع “بكين” تُسهم فى سد فراغ العزلة الذى أوجدته الحرب وما تلاها من عقوبات غربية، إلا أنه على الجانب الآخر فإنه من الممكن أن يؤدى ذلك بالاقتصاد الروسى فى نهاية المطاف إلى أن يكون تحت وطأة “بكين” التى وجدت من انفتاح الاقتصاد الروسى على خلفية الحرب الجارية فرصة لها للحصول على المنتجات الروسية، كالطاقة، بأسعار رخصية وهو ما يجعل “بكين” الطرف الأكثر استفادة مما يحدث.

تفاهم سياسى كبير

على الرغم من أن “بكين” حرصت منذ بدء العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا على عدم إبداء الدعم  العلنى والصريح لموسكو، والتزمت بدلًا من ذلك اتخاذها موقفًا محايدًا، وإن مال فى أغلب الأوقات إلى الدفاع عن وجهة النظر الروسية القلقة حيال التوسع الغربى شرقًا، بشكل أظهر للجميع بأن هناك تحالفًا صينيًا روسيًا قد تشكل فى مواجهة التحالف الغربى، ولم تخلو زيارة الزعيم الصينى إلى “موسكو” من العديد من الإشارات إلى العلاقات السياسية المتماسكة، وتقارب وجهات النظر  بين البلدين الكبيرين فى خريطة القوى العالمية، حيث جاء البيان الختامى للزيارة ليؤكد تلك العلاقات الوثيقة بين “موسكو وكييف”.

ووفقًا للبيان فإن البلدين عازمان على أن يقدما الدعم لبعضهما البعض من أجل حماية مصالحهما وبالتحديد فى المجال الأمنى، ومن هذه الإشارة التى وردت فى البيان يبدو واضحًا لدى الجميع انحياز الموقف الصينى للرؤية الروسية حيال الأوضاع فى أوكرانيا وإن أبدت الصين خطًا محايدًا منذ أكثر ما يزيد عن العام، هذا الخط المحايد تهدف “بكين” من خلاله ألا تخسر الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، حيث جمع العلاقات الاقتصادية المتشابكة والتبادل التجاري الكبير بين “بكين” والغرب، بشكل يجعل العاصمة الصينية حريصة على التمسك بهذا الخط المحايد حيال الأزمة، وفى نفس الوقت فإن “بكين” حريصة على ألا تخسر روسيا كحليف استراتيجى مهم، وهو ما يظهر فى الممارسات الصينية التى لم تدين يومًا الحرب الروسية فى أوكرانيا، بالإضافة إلى التصريحات الداعمة لموسكو والعلاقات السياسية والاقتصادية الوثيقة بينهما.

تسوية سياسية للنزاع فى أوكرانيا

سبق وأن قدمت “بكين” فى فبراير الماضى مبادرة سلام من اثنى عشر بندًا تتعلق بالتسوية السياسية للنزاع فى أوكرانيا، والتى تزامنت مع الذكرى السنوية لاندلاع الحرب، تلك المبادرة قوبلت باهتمام من الجانب الروسى، وتشكك واعتراض من الجانب الغربى، وكانت أبرز بنودها ما يلى:

  1. احترام سيادة الدول، وعدم السعى لتحقيق أمن دولة على حساب أمن دولة أخرى.
  2. وقف القتال، واستئناف محادثات السلام.
  3. حل الأزمة الإنسانية، وحماية المدنيين وأسرى الحرب.
  4. تجنب خوض حرب نووية، أو حتى التهديد باستخدام السلام النووى.
  5. تسهيل تصدير الحبوب، والحفاظ على استقرار الصناعة وعلى سلاسل التوريد.
  6. وقف العقوبات الأحادية، وتطبيق القانون الدولى بشكل موحد، والتخلى عن المعايير المزدوجة.

وعادت هذه المبادرة للأضواء مرة ثانية، وذلك فى ضوء زيارة الزعيم الصينى إلى “موسكو”، حيث أشار الرئيس الروسى إلى احترام بلاده للمبادرة الصينية لإحلال السلام، واتفاق توجهات “موسكو” مع الكثير مما ورد في المبادرة، وفى الوقت الذى يرى فيه مراقبون صعوبة أن تجد المبادرة الصينية ترحيبًا غربيًا يكتب لهذه المبادرة النجاح، يذهب آخرون إلى إمكانية نجاح هذه المبادرة فى إحلال السلام، خصوصًا وأن هناك العديد من الأسباب التى تجعل من فرصة نجاح هذه المبادرة أمرًا واردًا، وتتمثل الأسباب فيما يلى:

1- الوضع العسكرى الصعب الذى تعانيه أوكرانيا، خاصةً حصارها فى المناطق الشرقية وتراجعها فى الجنوبـ، فعلى الرغم من الدعم الغربى الكبير لها، إلا أن هذا الدعم لم يؤدِ إلى حسم المعركة لصالحها، بل أدى إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه.

2- الأوضاع الاقتصادية التى تعانى منها أوروبا والولايات المتحدة، فمن المعروف أنهما الداعمان الرئيسيان لكييف فى خضم حربها الجارية، لكنه فى ظل أوضاع اقتصادية صعبة كهذه، فإن التعويل على الدعم الغربى اللامحدود لكييف ليس بالأمر الوارد، لاسيما فى ظل تصاعد أصوات أعضاء داخل الكونجرس الأمريكى يطالبون بإعادة النظر فى الدعم المقدم لأوكرانيا.

  •  بطء الدعم العسكرى الغربى، فمن المعلوم أن الغرب يمد “كييف” بأسلحة نوعية تساعد القوات الأوكرانية فى الصمود لأطول فترة ممكنة، لكن هذا الدعم يشوبه البطء بسبب نفاذ المخازن الغربية، حيث شكل الدعم العسكرى لأوكرانيا عبئًا كبيرًا عليها، كما أن القرار السياسى الغربى بمد “كييف” بأسلحة حاسمة كثيرًا ما يشوبه التردد وعدم الحسم، كإمداد “كييف” بطائرات F16، نظرًا للمخاوف من الانخراط المباشر فى الصراع مع روسيا، وأمام هذه الحالة من البطء فى الإمداد تارة، وعدم إمداد القوات الأوكرانية بأسلحة حاسمة تارة أخرى، فإن ذلك من شأنه أن يرجع فرص قبول المبادرة الصينية.
  •  تشكك “كييف”، فعلى الرغم من حصول أوكرانيا على دعم غربى كبير، سواء الدعم العسكرى، أو الدعم الاقتصادى الذى وفرته لها المؤسسات الغربية والذى ساعدها على الصمود منذ بدء الحرب، إلا أنها كثيرًا ما تنتقد الموقف الغربى فيما يتعلق بالكيفية التى يجب أن يكون عليها هذا الموقف، كاتهام “كييف” لدول كألمانيا وفرنسا بتعطيلهما للتسليح، لاسيما فى ضوء حديث الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عن ضرورة أخذ مخاوف “موسكو” بجدية؛ كل ذلك يزيد من تشكك “كييف” فى استمرار الدعم الغربى المقدم لها، على الرغم من التعهدات الغربية بمواصلة هذا الدعم.
  •  كسر الهيمنة الأمريكية، فبالنسبة للصين فإنها تسعى من جراء انخراطها فى إيجاد سبيل لتسوية الأزمة الأوكرانية أن تدشن لمرحلة جديدة من الندية مع الولايات المتحدة، وأن تبعث برسالة مفادها بأن حقبة جديدة من التعددية فى النظام الدولى قد بدأت، وأن النهج الصينى الجديد فى التعامل مع الأزمات الدولية سوف يكتسب طابع الفاعلية والتأثير والانخراط بين أطراف النزاع حتى الوصول لإيجاد تسوية، لاسيما فى ضوء نجاح جهود الوساطة الصينية الأخيرة فى عودة العلاقات الدبلوماسية مجددًا بين السعودية وإيران.

أما روسيا فإنها سوف تتلقى أى مبادرة صينية للتسوية بالانفتاح عليها والاهتمام بمحتواها، وذلك نظرًا للعلاقات مع “بكين” والتى تعيش مرحلة مزدهرة حاليًا، حيث ستنعكس بطبيعة الحال العلاقات الجيدة مع “بكين” على أى مبادرة سوف تطرحها لتسوية الأزمة، نظرًا لمراعاة “بكين” للمخاوف الروسية، وعدم إدانتها فى المحافل الدولية لأى ممارسات روسية منذ بدء الحرب على عكس الإدانات الغربية التى لم تهدأ حتى الآن.

أصداء الوساطة الصينية لدى “واشنطن وكييف”     

لا يبدو أن الغرب متحمس لأخذ فكرة الوساطة الصينية لحل الأزمة الأوكرانية على محمل الجد، فبغض النظر عن محتوى مبادرة السلام الصينية وبنودها، فإن فكرة أن يأتى الحل من “الصين” لا يعد أمرًا مقبولًا بالنسبة للغرب وبالتحديد للولايات المتحدة الأمريكية، والتى ترى أنه فى حالة نجاح الصين فى التوصل لتسوية للأزمة، فإن ذلك بمثابة إعلان لـ “صين جديدة” على الساحة السياسية العالمية من حيث الدور والتأثير وهو ما لا تريده إدارة “بايدن” ولن تسمح به، نظرًا لما سببه لها ذلك من إحراج شديد.

وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بلينكن” لتبرهن تمامًا على رفض “واشنطن” الحلول الصينية للأزمة، مشيرًا إلى أنه “لا يجب على العالم ألا ينخدع بأى قرار تكتيكى من روسيا، بدعم من الصين أو أى دولة، لتجميد الحرب بشروطها”.

فى المقابل، فإن استمرار “كييف” مواصلة صمودها شرقًا وجنوبًا، لا ينذر بأن هناك أى إصغاء أو أخذ لفكرة وساطة الصين على محمل الجد، ومما يؤكد هذا الطرح، أنه بالتزامن مع زيارة الرئيس الصينى إلى “موسكو”، وبالتزامن أيضا مع إعادة إحياء المبادرة الصينية فى سياق محادثات “بوتين وشى جين بينج”، استقبلت “شبه جزيرة القرم” هجمومًا بالطائرات المسيرة منسوبًا إلى القوات الأوكرانية، لا يتعدى تأثيره التأثير الكبير، إلا أن له دلالة رمزية تؤكد رفض “كييف” أى مقترح للسلام أو الوساطة إلا بعد انسحاب الجانب الروسى من الأراضى الأوكرانية، حينها ستقبل “كييف” الجلوس على طاولة المفاوضات.

وفى سياق ذلك أيضًا، فإن العديد من التقارير تشير إلى أن القوات الأوكرانية تجهز لهجوم كبير بالتزامن مع تواصل الإمدادات الغربية لها، وهو ما أطلق عليه “هجوم الربيع”، وهو ما يهدد فرص نجاح المبادرة الصينية.

إجمالًا:

فإنه حتى هذه اللحظة، وبعد مرور أكثر من عام على اندلاع الأزمة، فإنه لا يلوح فى الأفق السياسى أى سبل تمهد لحل الأزمة سياسيًا باستثناء المبادرة الصينية، والتى كشفت “بكين” عنها فى فبراير الماضى، وجرت الإشارة إليها مجددًا، إلا أنه بالاستناد إلى الدعم الغربى والأمريكى الكبير لأوكرانيا من أجل الصمود أمام الضربات الروسية، فإنه يمكن القول بدرجة عالية من اليقين، إن قرار أوكرانيا لا يصدر من “كييف” وحدها، بل من الغرب وواشنطن.

وعليه، فإنه من غير المرجح أن يسمح الغرب وواشنطن للصين بأن تلعب دورًا فى إنهاء الحرب على حسابهما، لذا فإنه لا يتوقع بأن تلقى المبادرة الصينية الاهتمام الغربى اللازم لإنجاحها، ليعود الصراع الميدانى بين “موسكو وكييف” مرة أخرى إلى الواجهة فى انتظار من يستطيع أن يغير موازين القوة على الأرض لصالحه.

 

كلمات مفتاحية