إعداد: أحمد محمد فهمي
باحث متخصص في الشؤون التركية والإقليمية
تعتبر الدراما التاريخية واحدة من الوسائل الفعّالة التي يمكن من خلالها استكشاف القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعكس تاريخ الشعوب وحضاراتها. وفي هذا السياق، يتجلى دورها كأداة تثقيفية وتوعوية تعكس رؤية معينة للأحداث والشخصيات التاريخية.
يعد مسلسل «الحشاشين» والذي عرض خلال شهر رمضان المبارك، واحدًا من الأعمال الدرامية التي أثارت اهتمامًا كبيرًا، حيث قدمت للجمهور رحلة مثيرة إلى مرحلة هامة في تاريخ الحضارة الإسلامية. ومن خلال تناولها قصة طائفة “الحشاشين”، استطاعت الدراما أن تلقي الضوء على جانب مهم وغالباً ما يُغفل، وهو دور الجماعات الدينية والسياسية في تحولات المجتمع وتأثيرها على السياسة والحضارة.
يهدف هذا التقرير إلى فهم الدور الذي تلعبه الدراما التاريخية، مثل مسلسل «الحشاشين»، في صياغة الوعي السياسي والثقافي، وفي تقديم رؤية معينة للتاريخ والسياسة. كما يسلط التقرير الضوء على أهمية دور الدراما التاريخية في إحياء التراث المصري لإبراز جوانب مهمة من التاريخ الوطني لتعزيز الهوية الوطنية وللتفاعل مع التراث الثقافي والتاريخي للبلاد.
أولًا: أهمية الدراما التاريخية في تعزيز الوعي لمواجهة تحديات الحاضر
إن العصر الحديث قد فتح أبواباً واسعة للدراما، وبخاصة الدراما التاريخية، بشكل لم يحدث من قبل منذ بزوغ النهضة الحديثة قبل قرنين من الزمان، وذلك إدراكا من رواد هذا العصر بأن سلاح الدراما يُعد الأفضل في التربية والتعليم والتهذيب والتثقيف، وفي غرس المقاصد والغايات في نفوس المشاهدين، مما يجعلها أداة فعّالة لتحقيق التغيير والتطوير. وبالتالي، فإنها تظل الأكثر فعالية في هذا الصدد مقارنة بقراءة الكتب والمقالات.
تعد الدراما التاريخية من أبرز الوسائل الفنية التي تسهم في تعزيز الوعي الثقافي والسياسي للمجتمعات، وذلك من خلال استخدامها للتاريخ والقصص القديمة لاستعراض قضايا ومشاكل وتحديات العصر الحديث، كما إن دور الدراما التاريخية لا يقتصر على إعادة تمثيل الأحداث التاريخية بل يتعداها إلى تقديم رؤية معاصرة وتحليلية لهذه الأحداث، مما يسهم في إشراك الجمهور وتوجيهه نحو فهم أعمق للماضي وتوظيفها في تفسير وفهم الواقع الراهن، وتأثيره على الحاضر والمستقبل.
كما تقدم الدراما التاريخية أيضاً فرصة لاستكشاف قصص شخصيات تاريخية مشهورة أو مجهولة، وفهم الظروف والمحن التي عاشوها، مما يساهم في توسيع آفاقهم وتعميق فهمهم للتاريخ بشكل عام والتاريخ الوطني بشكل خاص. ومن خلال تجسيد هذه الشخصيات كالشخصيات الوطنية بأسلوب ملموس واحترافي، يمكن للمشاهدين التعاطف معها والتأثر بقصصها، مما يعزز الانتماء والهوية الوطنية والتاريخية.
في الوقت الحالي، يعيش العالم تحديات كثيرة تتطلب فهماً عميقاً للسياق التاريخي والثقافي، وتطبيق الدروس المستفادة من الماضي في مواجهة المشكلات الحديثة، وهنا تأتي أهمية الدراما التاريخية في تقديم “وعي تاريخي” ينمي “وعياً معاصراً” بمشكلات العصر ويعين على تحقيق التغيير والتطوير. إن الدراما التاريخية لديها القدرة على استدعاء من سنن التاريخ ومعاركه، لتوفير الإلهام والتوجيه في مواجهة التحديات المعاصرة وتحقيق الانتصار عليها.
ومن خلال وسائل الإعلام المتاحة حالياً، تصل الدراما التاريخية إلى عدد هائل من المشاهدين، مما يعطيها تأثيراً هائلاً في تشكيل الوعي الجماهيري وتوجيه الرأي العام، كما إن استخدام الأساليب الفنية والتقنيات المتطورة في صناعة الدراما التاريخية يعزز من قدرتها على التأثير والتأثير على المشاهدين بشكل أكبر من قراءة الكتب والمقالات، ويجعلها أداة فعّالة في تحقيق التغيير والتطوير في المجتمعات.
بالتالي، ومن خلال أهمية الدراما التاريخية في تعزيز الوعي السياسي كوسيلة بديلة للتفاعل مع السياسة والقضايا السياسية، يمكن الإشارة إلى الآتي:
- أن الدراما التاريخية يمكنها استخدام السياسة كعنصر رئيسي في قصصها، حيث تسلط الضوء على الصراعات السياسية والتحولات السياسية التي شكلت تاريخ البشرية، ومن خلال تمثيل هذه الصراعات والتحولات بشكل ملموس وجذاب، يمكن للمشاهدين فهم عمق العوامل السياسية التي تؤثر في الأحداث التاريخية والمعاصرة.
- يمكن أن تسلط الضوء على تفاصيل القوى السياسية والتوترات السياسية التي شكلت البيئة السياسية في فترات زمنية مختلفة، ومن خلال تحليل هذه العناصر، يمكن للمشاهدين فهم الديناميات السياسية والتأثيرات الناتجة عنها على المجتمعات.
- كذلك قدرتها على عرض تجارب مختلفة للحكم والحكام، مما يسمح للمشاهدين بتقييم أداء القادة السياسيين وفهم تأثيرهم على الشعوب والمجتمعات.
- أيضًا من خلال عرض قصص تاريخية تتناول حركات المقاومة والنضال من أجل الحريات ونيل الاستقلال، يمكن للدراما التاريخية تعزيز الوعي السياسي والمعرفي حول حركات التحرر الوطني.
ومن هنا، يمكن للدراما التاريخية أن تكون وسيلة قوية لتعزيز الوعي السياسي عن طريق استخدامها كوسيلة لاستكشاف وتحليل العوامل السياسية وتفاعلاتها في الأحداث التاريخية والمعاصرة. بالتالي، فهي تعتبر بمثابة “السياسة بوسائل أخرى” التي تساعد في توسيع آفاق المشاهدين وفهمهم للسياسة وتأثيرها على العالم من حولهم.
ثانيًا: مسلسل «الحشاشين» واستدعاء الماضي لفهم الحاضر
برز من خلال مسلسل “الحشاشين” إشارات إلى الخلافات التي أثرت على المسلمين في تلك الفترة، حيث تنوعت هذه الخلافات بين خلافات على أساس الانتماء العرقي، كتلك التي بين الترك والفرس. والخلافات على أساس طائفي مثل الصراعات بين السنة والشيعة، وحتى داخل الطوائف نفسها، كما في الخلافات بين الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية. وهذه الخلافات أعطت لنا صورة للجذور التاريخية لبعض القضايا السياسية المعاصرة.
ومن خلال هذا المدخل، يمكننا استعراض أبرز القضايا التي تناولها المسلسل والتي تعتبر جذورًا لقضايا سياسية معاصرة، ومن أبرز تلك القضايا السعي الحثيث لكلاً من الترك والفرس لقيادة العالم الإسلامي، فقد أظهرت السنوات الأولى للدولة العباسية اعتماد خلفائها على العنصر الفارسي كنخبة سياسية وعسكرية داخل أركان دولتها الجديدة، وذلك لعدة أسباب، منها استمالة “العجم” من المسلمين لتمكين العباسيين من البقاء في الحكم، بعد سنوات من الاعتماد الأموي على العنصر العربي. ولكن بعد “نكبة البرامكة” التي نفذها الخليفة العباسي هارون الرشيد ضد البرامكة، وهم أسرة فارسية عريقة، بعد توسّع نفوذها وازدياد قوتها داخل الدولة العباسية، ثم قيام الخليفة المعتصم لاحقًا بالاعتماد على العنصر التركي بدلاً من العنصر الفارسي، أثرًا بالغًا في تعاظم النفوذ بين الترك والفرس للسيطرة “سياسيًا” على الخلافة الإسلامية المتمثلة في سلالة بني العباس.
وفي العصر العباسي الثاني، ظهرت دول وممالك، رغم أنها كانت تتبع اسميًا للخلافة العباسية وتدعو للخليفة العباسي من على المنابر، إلا أنها كشفت عن توجهات وطموحات قومية لتحقيق مكاسب ذاتية وروحية. ووصلت هذه الطموحات إلى مستوى السعي للسيطرة على بغداد، مركز الخلافة الإسلامية، بل ونجح الأتراك في نقل عاصمة الخلافة الى مدينة “سامراء” التي ظلت ما يقرب من خمسين عامًا حاضرة دولة الخلافة العباسية. كذلك، وفي عهد الخليفة المستكفي بالله، تمكنت دولة “بني بُويه” الفارسية من الاستيلاء على بغداد لفرض سيطرتهم على الخلافة، ولكن بعد فترة، نجح “السلاجقة” الأتراك في استعادة بغداد من يد البويهيين، لتعود السيطرة على الخلافة من جديد للأتراك.
وفي مسلسل “الحشاشين”، تم تسليط الضوء على التنافس بين الدولة الفاطمية، التي كانت تنتمي إلى الفرقة الشيعية الإسماعيلية، وبين الدولة السلجوقية للسيطرة على بغداد. نجح الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله” في الاستيلاء على بغداد بل وعزل الخليفة العباسي “القائم بأمر الله”، إلا أن السلاجقة الأتراك نجحوا في استعادة السيطرة على بغداد فيما بعد. كما تم تسليط الضوء أيضًا على الصراعات بين جماعة “الحشاشين” والسلاجقة، والتي تعتبر جزءًا منها نتيجة للقمع الذي تعرض له طائفة “الحشاشين” من القومية الفارسية تحت حكم السلاجقة الأتراك.
وقد تعددت المحاولات المتكررة للسيطرة على بغداد بين الترك والفرس مرات عدة، ليكشف لنا عن السعي الدائم والمتكرر لكلاً منهما للسيطرة على الخلافة لعدة أسباب، منها أن الخلافة الإسلامية في بغداد مثلت المركز الروحي والديني والسياسي للإسلام، وكان للسيطرة عليها أهمية كبيرة لتأكيد السلطة وتوجيه السياسات والقرارات في العالم الإسلامي، كذلك فإن بغداد كمركز للخلافة كانت تجذب العديد من الموارد والثروات، وكانت السيطرة عليها تعني الهيمنة على هذه الموارد واستغلالها في خدمة الدولة، كما كانت تعتبر مركزًا هامًا للتجارة ونقطة تقاطع للطرق التجارية بين الشرق والغرب، وكانت السيطرة عليها تعني السيطرة على هذه الطرق وتحقيق الربحية الاقتصادية.
كذلك ومن أبرز القضايا التي تطرق اليها المسلسل هو مخاطر الدعوة الباطنية، فقد شكلت تلك الدعوة أحد العناصر الرئيسية التي تم تناولها بشكل بارز، وقد عكس المسلسل بشكل ملحوظ مخاطر وتأثيرات هذه الدعوة على المجتمع والسياسة والحكم في العصور الإسلامية، وسلط الضوء على أبعادها المختلفة وتأثيراتها على الأحداث التاريخية والسياسية.
إن المخاطر التي تنطوي عليها الدعوة الباطنية تمثل تحدياً جدياً للسلطات الدينية والسياسية في ذلك الوقت، حيث كانت تنشط هذه الدعوة بشكل سري وخفي، مما يجعلها عاملًا مشوشًا في الحياة السياسية والاجتماعية، نظرًا لأن تلك الدعوة الباطنية قدمت تفسيرات ومفاهيم جديدة للدين والسلطة، مما أدى إلى تحولات اجتماعية وسياسية ملموسة وتحديدات وتهديدات متزايدة في المجتمع.
ومن خلال الحشاشين، تم التركيز على كيفية تأثير الدعوة الباطنية في السياسة والحكم، حيث يقوم أتباعها بتنفيذ مهام وأعمال متطرفة لتحقيق أهدافها السياسية والدينية، كما كشف المسلسل أيضًا كيف يمكن أن تؤدي هذه الدعوة إلى التفرقة والصراعات الداخلية داخل الدولة الواحدة، وتشجيع الفتن والفوضى.
بالإضافة إلى ذلك، يبرز المسلسل أيضًا تأثير الدعوة الباطنية على العلاقات الخارجية، حيث يمكن أن تشكل تنظيمات مثل “الحشاشين” تهديدًا للدول المجاورة وللنظام السياسي بشكل عام، مما يعقد المشهد السياسي ويؤدي إلى اضطرابات في المنطقة بأكملها.
ثالثًا: الدراما التاريخية كوسيلة للنفاذ والتأثير «تركيا نموذجًا»
إذا كانت تركيا، نظرًا لعدة عوامل، قد أصبحت لاعبًا أساسيًا في منطقة الشرق الأوسط، فإنها، بفضل القوة الناعمة، قد استطاعت اختراق مجتمعات الشرق الأوسط في العمق وجذب الشارع العربي. إن القوة الناعمة، التي يصفها “جوزيف ناي” كقدرة فعّالة على الحصول على ما يريد من خلال الجذب بدلاً من الإكراه، هي شكل جديد من أشكال القوة التي تعتمد على الاستقطاب والإغواء. وبالرغم من أن القوة الناعمة تتجلّى بأشكال متنوعة، فإنه هنا سيتم التركيز على جانبها كوسيلة اعتمدت عليها تركيا لجذب الشعوب العربية من خلال ترويج ثقافتها.
فقد تمكّنت تركيا، من خلال الدراما بشكل عام والدراما التاريخية بشكل خاص، من تعزيز صورتها كدولة رائدة في الشرق الأوسط. ففي عام ٢٠١١، وفي ظل المرحلة الجديدة التي عاشها العالم العربي، بدأت تركيا في إنتاج مسلسلات تاريخية تسلط الضوء على الماضي العريق للإمبراطورية العثمانية، والتي أحاطتها بالمثالية.
وقد تجلى هذا التوجه بأبهى صوره في مسلسل “القرن العظيم”، المعروف بصيغته العربية بعنوان “حريم السلطان”، والذي يروي قصة السلطان سليمان الأول، الملقب بـ”القانوني”، الذي حكم الدولة العثمانية في فترتها الذهبية من عام ١٥٢٠ حتى وفاته في عام ١٥٦٦. ولإبراز عظمة الإمبراطورية العثمانية وتاريخها العظيم، لجأ المنتج إلى الابهار، مستخدمًا عناصر فنية متقنة، بدءًا من جماليات الصورة وصولًا إلى الموسيقى التصويرية، وفخامة الديكورات وجمال الأبطال والبطلات، والأزياء الساحرة التي ظهرت فيها. وبفضل هذه العناصر، حقق المسلسل نجاحًا كبيرًا، حيث حطم أرقام المشاهدة في تركيا وفي الشرق الأوسط بأسره.
وانصب تركيز العديد من الأعمال الدرامية التاريخية التركية على الهوية الإسلامية لتركيا، فأبرزت من خلال السلطان سُليمان في مسلسل “القرن العظم” بأنه “يحكم باسم القرآن والشريعة” وأنه “حامي الإسلام ضد الكفار والأشرار”، وهو يأخذ على عاتقه مهمة “نشر كلمة القرآن في أقطار العالم كافة” و”الدفاع عن المسلمين من خلال الجهاد”. ومن هنا تزخر السيناريوهات التركية بالإشارات الدينية.
كذلك فإن الأعمال الدرامية التاريخية التركية أشارت بشكل مستمر إلى عظمة الإمبراطورية العثمانية وقوتها في المناطق التي حكمتها، ومجدها في الزمن الذي كانت تبسط فيه نفوذها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهذا له تأثيران: أولاً، يجعل العرب والأتراك يعيدون اكتشاف ماضيهم المشترك. ثانياً، يساهم في إضفاء الشرعية على مطالب تركيا بدور مهم على الساحة الدولية. ففي نظر المشاهدين، يحق لتركيا المعاصرة، وهي وريثة هذا التاريخ العريق، أن تُصنف “أمة كبرى” ويُعترف بها كقوة إقليمية ودولية.
رابعًا: دور الدراما التاريخية في إحياء التراث المصري
تشكل الدراما التاريخية نافذةً مهمةً تفتح على الماضي العريق والتراث الثري لمصر، وتعتبر وسيلة فعّالة لإحياء التراث المصري ونقله إلى الأجيال الحديثة، فهي ليست مجرد سلسلة من الأحداث التاريخية التي يتم تصويرها وعرضها على الشاشة، بل هي تجسيد للروح الوطنية والانتماء لتاريخ مصر العريق.
فمصر تمتلك إرثًا تاريخيًا غنيًا يمتد عبر آلاف السنين، وتاريخها يشهد على مرور العديد من الحضارات والثقافات التي تركت بصماتها العميقة في تاريخها. وفي ظل هذا الإرث الضارب في القدم، تأتي دور الدراما التاريخية لتسليط الضوء على هذا التراث الثري وتوثيقه بأسلوب مشوق ومثير يجذب المشاهدين ويثير فضولهم.
تسعى الدراما التاريخية إلى إعادة إحياء الشخصيات التاريخية البارزة والأحداث المهمة التي شهدتها مصر عبر العصور. ومن خلال تمثيل هذه الشخصيات وتجسيد أحداثها، تنقل الدراما التاريخية المشاهدين في رحلة عبر الزمن ليشهدوا على بناء الأهرامات الضخمة، وعصر الفراعنة الذي عرف بروعة الفنون والعلوم، والفترة الإسلامية التي شهدت ازدهار العلم والثقافة والفنون.
إن إحياء التراث المصري من خلال الدراما التاريخية يعزز الانتماء الوطني لدى الجمهور المصري، ويساهم في تعزيز الوعي التاريخي والثقافي للمجتمع، كما يعتبر هذا النوع من الدراما وسيلة فعّالة لنقل القيم والتقاليد القديمة إلى الأجيال الحديثة، وتعزيز الروح الوطنية والفخر بالتراث الغني لمصر.
وقد مثل مسلسل “الحشاشين” عودة إلى مسار انفردت به مصر لعقود، ورغم أنه يتناول فترة هامة من تاريخ الأمة الإسلامية، إلا أن تطور وسائل الإعلام وظهور أجيال جديدة جعل من الضروري إنتاج المزيد من الأعمال الدرامية التاريخية بنفس الجودة والتميز على غرار “الحشاشين”، لكن للتركيز على تاريخ مصر وإبراز الشخصيات التاريخية التي لم تحظ بالعناية الكافية من الدراما، خاصة بعد تأسيس دولة مصر الحديثة.
يمكن ذلك من خلال تقديم سير ذاتية شاملة وموضوعية لشخصيات تاريخية مهمة في تاريخ مصر الحديث، مثل محمد علي باشا، مؤسس دولة مصر الحديثة، وإبراهيم باشا، الذي يُعتبر من بين أبرز الفاتحين في التاريخ المصري ووصل بفتوحاته العسكرية الى داخل الأراضي العثمانية، والفريق عزيز باشا المصري، الذي يعد واحدًا من أبرز القادة العسكريين في تاريخ مصر، وغيرهم.
كما صار هناك حاجه الي إعادة فتح عدة ملفات تاريخية وطنية لإعادة كشف حقائقها للشعب مثل أزمة ١٩٦٢ بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر والذي يعتبر – طبقًا لروايات شخصيات قيادية عاصرت هذه الحدث – بأنها أحد الأسباب الرئيسية في وقوع هزيمه يونيو ١٩٦٧، وهو الحدث الذي يحتاج أيضًا إلى إعادة سرده. كذلك ثورة ١٥ مايو ١٩٧١ التي قام بها الرئيس أنور السادات ضد مراكز القوى، وقصة كفاح الشعب المصري في بناء السد العالي وحفر قناة السويس وغيرها من الأحداث التاريخية الهامة.
وبهذا الصدد، هناك عدة مسلسلات تم إنتاجها في الماضي وأظهرت مدى شعبيتها بفضل اختيارها لجميع العناصر اللازمة لنجاحها، ومن أبرزها:
- مسلسل “جاردن سيتي”، الذي يتألف من جزئين، والذي سلط الضوء على فترة الانتقال من النظام الملكي إلى الجمهورية، والتغيرات السياسية والاجتماعية التي تلت ذلك. وأبرز المسلسل بشكل خاص تناوله لبعض الأخطاء التي وقعت بها ثورة يوليو. وقد أبدع الفنان الكبير “حسين فهمي” في إشارته في تتر المسلسل، حينما جسد بكلمات بسيطة الهدف من عرض المسلسل فقال: “نحن لا ندين أحد ولا أي عهد من العهود، نحن نذكر فقط حتى لا تقع الاجيال القادمة في نفس الأخطاء ولولا حرية الفكر والديمقراطية التي نمارسها حاليا لما خرج هذا العمل إلي النور”.
- كما استعرض مسلسل “بوابة الحلواني” في أربعة أجزاء جزءًا هامًا من التاريخ المصري وكفاح الشعب المصري في حفر قناة السويس، واستعرض تلك الحقبة التاريخية من كافة جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
- وتناول مسلسل “جمهورية زفتي” الأحداث التاريخية الحقيقية التي مرت بها مركز “زفتي” بمحافظة الغربية، والتي أعلنت استقلالها عن المملكة المصرية وإعلانها جمهورية زفتي في ٢٣ مارس ١٩١٩، كرد فعل على نفي سعد باشا زغلول ورفاقه، لجذب انتباه العالم إلى مدى تأييد الشعب المصري للزعيم الوطني سعد زغلول.
- مسلسل “الملك فاروق” الذي تم عرضه في عام ٢٠٠٧، وحقق نجاحًا كبيرًا، وصلت شعبيته إلى مستوى قيام التلفزيون المصري بعرض الحلقة الأخيرة للمسلسل مرات عديدة في يوم واحد، بناءً على طلب المشاهدين ونظرًا للانتشار الواسع الذي حققه. وقد تمكّن هذا المسلسل من إعادة اكتشاف الملك فاروق للشعب المصري، بالإضافة إلى بعض الشخصيات الوطنية مثل مصطفى باشا النحاس، ومكرم باشا عبيد، وأحمد باشا ماهر، وغيرهم.
وختامًا:
تواجه الأجيال الجديدة تحديات في عالم مليء بالدراما التاريخية الأجنبية، مما يثير القلق بشأن الرسائل والتأثيرات التي تنتقل عبر هذه الأعمال، لكن مع نجاح مسلسل “الحشاشين” ظهر في الأفق أن هناك فرصة لإحداث تحول في الإدراك بالاتجاه نحو الدراما التاريخية الوطنية، نظرًا لأن هذا النوع من الدراما يجذب الجماهير ويحفزها على استكشاف ماضيها وتاريخها العريق، ومن خلال تصوير الأحداث التاريخية بأسلوب درامي مشوق، تعمل هذه الأعمال على توثيق الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء للوطن والتاريخ.
إن الدراما التاريخية ليست مجرد ترفيه، بل لها جوانب ربحية اقتصادية وثقافية مهمة، فتصدير هذه الأعمال يعزز من تأثيرها وانتشارها، مما يساهم في تعزيز القوة الناعمة المصرية في المنطقة وتعزيز النفوذ الثقافي. بالإضافة إلى ذلك، تسهم هذه الأعمال في دعم إظهار صورة إيجابية عن الثقافة والقيم الدينية والاجتماعية المصرية، وتشكل مصدرًا للدخل وتعزز من قدرتها على المنافسة في السوق الإقليمية والعالمية، كما يسهم نجاح هذه الأعمال في الدول العربية والعالمية في تعزيز مكانة مصر كمركز رئيسي للإنتاج الدرامي في المنطقة.
المصادر:
د. محمد عمارة، “الدراما التاريخية وتحديات الواقع المعاصر”، القاهرة، مكتبة الشروق الدولية، ٢٠٠٥.
أ.د. محمد سهيل طقوش، “تاريخ السلاجقة في خراسان وإيران والعراق”، بيروت، دار النفائس، ٢٠١٦.
د. يحي السيد عمر، “القوة الناعمة التركية: مقومات الصعود في العلاقات الدولية”، تركيا، دار الأصول العلمية، ٢٠١٩.
جنى جبور، “تركيا: دبلوماسية القوة الناهضة”، قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٩.
سهام الدريسي، “الدراما التاريخية التركية: تحليل مضامين ومرتكزات القوة الناعمة”، أوراق سياسية، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات.