العلاقات الجزائرية الفرنسية بين ملف الذاكرة ومستقبل العلاقات

اعداد: رابعة نورالدين وزير

على خلفية الأحداث الأخيرة بين الجزائر وفرنسا وما شهدته العلاقات بينهما من تصعيد، آخرها استدعاء الجزائر لسفيرها بباريس، على خلفية ما وصفته الجزائر بأنه انتهاكٌ لشؤونها الداخلية لقيام الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، بانتقاد نظامها السياسي – وصفه بنظام عسكري متسلط- وإصدار بيانات حول ما إذا كان هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي من عدمه.

هذه البيانات الأخيرة أدت لقيام الجزائر ببعض الإجراءات ضد فرنسا، منها قرار إغلاق المجال الجوي أمام الطيران العسكري الفرنسي؛ ما أدى لتعطيل عمليات الجيش الفرنسي ببعض مناطق أفريقيا، ومطالبة فرنسا باحترام سيادة الجزائر وعدم التدخل بشؤونها، وقد طالبت مظاهرات جزائرية طرد السفير الفرنسي، ونظرًا لتاريخية العلاقة بين الجزائر وفرنسا وسعي الطرفين حديثًا لبناء جسور من التعاون والعلاقات بمختلف المجالات؛ نحاول من خلال هذه الورقة التقييمية تحليل التصعيدات الأخيرة التي شهدتها العلاقات بين الجزائر وفرنسا؛ لوضع سيناريوهات حول مستقبل العلاقة بينهما وهل يؤثر التصعيد على الانتخابات المقبلة؟

أولًا: مقدمات التقارب الجزائري الفرنسي (عهد تبون- عهد ماكرون)

إن العلاقة التي تربط الجزائر وفرنسا فريدة من نوعها؛ نظرًا لارتباط تاريخهما لفترات كبيرة معًا، وقد سعى كلٌّ من الرئيس الجزائري “عبد الحميد تبون” ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون” لبناء جسور من الثقة والتعاون بين الجزائر وفرنسا مؤخرًا، بدأت بتأييد الرئيس الفرنسي للرئيس الجزائري، وعليه تعمقت العلاقات بين البلدين منذ عام ٢٠١٧، عندما زار الرئيس الفرنسي الجزائر في ديسمبر 2017، وأكد على ثلاثة محاور رئيسية للعلاقات بين البلدين، أولهما، وحدة الإرادة المشتركة بينهما،  واحترام فرنسا “ذاكرة الجزائر” وتسليم رفات المقاتلين الجزائريين التي تحتفظ بها فرنسا بمتحف “الإنسان” بباريس، فتح الاقتصاد الجزائري على الاقتصاد الفرنسي وتشجيع الاستثمارات بينهما بإنشاء صندوق استثماري مشترك، ثالثًا، ضرورة إقامة علاقات تلبي تطلعات جيل الشباب وتعزز التعليم العالي والتدريب المهني.

وأُبرمت عشرات الاتفاقيات بأواخر عام 2017، عندما اجتمع رئيسا وزراء البلدين بلجنة حكومية مشتركة؛ لتوقيع أحد عشر اتفاقًا بمجالات متعددة أهمها؛ (الصحة، التدريب المهني، التعليم العالي، الأغذية الزراعية، وإقامة المنشآت)، إضافةً لأوجه التعاون الأُخرى التي تمت بلجان مشتركة أو غيرها، وقد أحرزت العلاقات الاقتصادية بين البلدين تقدمًا كبيرًا؛ ما جعل الجزائر بالنسبة لفرنسا تتصدر قائمة الشركاء التِّجاريين بأفريقيا، واحتلت المرتبة الثالثة بقائمة الصادرات الفرنسية لأفريقيا، كما تصدرت فرنسا عام 2019 قائمة عملاء الجزائر واحتلت المرتبة الثانية بعد الصين بقائمة مورديها.

ولم يكُ التعاون قاصرًا على المجال الاقتصادي، بل تنوَّعت مستوياته، كـ(التعاون الثقافي والعلمي والتقني)، في إطار وثيقة الشراكة التي تنمي العلاقات بين البلدين في الفترة من (2018- 2023)، ومن أهم ما يتضمنه إطار الشراكة بهذه الزاوية هو توفير تدريب للمدرسين والباحثين، وإنشاء مدارس جزائرية متخصصة بالمجالات التقنية، وتحسين وضع التعليم العالي والتدريب المهني، وتقديم المنح الدراسية وغيرها.

ثانيًا: محطات التصعيد المتبادل بين فرنسا والجزائر

يعتبر الخلاف الجزائري الفرنسي حول ملف الذاكرة هو نقطة الأساس باتجاه العلاقات بينهما، ومؤخرًا تداولت الصحف الفرنسية تصريحات على لسان الرئيس الفرنسي حول تساؤله عن وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار من عدمه؛ حيث يرى أن الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي كانت تحت السيطرة العثمانية؛ لذا فليس للدولة تاريخ أو ذاكرة وأن ما تعيشه الآن ما هو إلا محاولة لوضع تاريخ جزائري قائم على كراهية فرنسا والفرنسيين، وقد أثارت هذه التصريحات حفيظة المسؤولين الجزائريين والشارع الجزائري، فرد الرئيس “تبون” بأن الجزائر تطالب فرنسا باحترام سيادتها وتاريخها.

ومن هنا بدأت الأحداث بينهما بالتصاعد، فقد استدعت الجزائر سفيرها بفرنسا للتشاور حول تصريحات الرئيس الفرنسي، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطيران الفرنسي، وقد كان مفتوحًا أمام الطيران الفرنسي العسكري بالوقت الذي تكثف القوات المسلحة الفرنسية من عملياتها العسكرية بمنطقة ساحل العاج؛ لذا توقفت عمليتان عسكريتان، ورفضت أي تدخل فرنسي بالشؤون الداخلية.

إضافةً لتصريحات الرئيس الفرنسي بشأن “الحركيين الجزائريين” الذي وعد فيه بإقرار قانون خاص بالتعويضات لهم؛ ما أثار غضب الجزائريين، ولم يكُ التصعيد هو الأول بل قامت الجزائر بسحب سفيرها من فرنسا عام 2020، بعد قيام القنوات الفرنسية الرسمية ببث (وثائقي) يتحدث عن الاحتجاجات المناهضة للنظام الجزائري، وفي يونيو 2021، نشرت إحدى الصحف الفرنسية تقريًرا حول الوضع السياسي بالجزائر، ثم نشرت صحيفة “لوموند” مقالًا بعنوان “الجزائر في مأزق”، وقد سبقه قيام وزير الخارجية الفرنسي بإلغاء زيارة مكونة من وفد وزاري للجزائر على أثر تداعيات كورونا، فيما صرح الجانب الجزائري أن الإلغاء بطلب جزائري لحجم الوفد الوزاري؛ حيث تم تقليص عدد الوزراء؛ ما أى لاستياء الجزائر والمطالبة بإلغاء الزيارة.

وما سبق ذلك من تشديد إجراءات منح التأشيرات لمواطني دول المغرب العربي كرد على رفض حكومات هذه الدول إصدار تصاريح قنصلية لاستعادة مهاجريها غير الشرعيين بفرنسا، بعد أن تبنَّت فرنسا قانون الهجرة عام 2018، والذي يقضي بأن “الأشخاص المؤهلين الذين سيتم استقبالهم بفرنسا للِّجوء يجب أن يكونوا مدرجين بالفعل بفرنسا، وأما من لا يستوفي الشروط فيجب إعادته إلى أرضه”، إضافةً لمحاولات “ماكرون” استمالة الحركة الجزائرية التي دعمت فرنسا خلال حرب التحرير البالغ عددهم (300: 400) ألف  فرنسي من أصول جزائرية لاستمالتهم وكسب تأييدهم بالانتخابات المقبلة، دون الاهتمام بوجود ما يزيد عن 3 مليون فرنسي من أصل جزائري آخرين لا ينتمون للحركة ولكنهم يشاركون بالانتخابات؛ لذا إن تم استرضاؤهم قد يغيروا موازين العملية الانتخابية لصالحه.

بعد صدور هذا القرار، صدرت عدة تصريحات من الجانبين تخصُّ “الذاكرة الجزائرية” واستمرار اتهام ماكرون للجزائر “بأنها تثير الضغائن ضد فرنسا”، واستمرار تساؤلاته حول فترة الحكم العثماني للجزائر، ولماذا لا يعتبره الجزائريون استعمارًا مثل فرنسا؟

ولعل هذا التوتر له جذوره الممتدة والمرتبطة بشكل أساسي بتاريخ استعمار فرنسا للجزائر،  ثم الاختلاف حول ما يعرف بملف “الذاكرة” والذي يتعلق أساسًا بالجرائم التي ارتكبتها فرنسا فترة احتلالها للجزائر، ولم تعتذر عنها بشكل رسمي حتى الآن، أو إعطاء إجابات شافية للأسئلة التي يطرحها المسؤولون الجزائريون حول مصير رفات بعض القادة الجزائريين الذين قتلتهم بغمار الحرب بينهما، أو تقديم اعتذار رسمي عما بدر من فرنسا تجاه الجزائريين فترة الاستعمار.

وعليه فتعجُّ ساحة العلاقات بين الجزائر وفرنسا بالكثير من الأحداث التي أدت لدخولهما بدائرة من التوترات والتصعيد المستمر، سواء قيام الجزائر باستدعاء سفيرها بفرنسا على خلفية تصريحات  الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حول تاريخ النضال الجزائري، وما إذا كان هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار أم أن الأمة الجزائرية الحالية قد أرست قواعدها على الكراهية لفرنسا.

ولا يمكننا إغفال الموقف الفرنسي من قضية الصحراء الغربية أيضًا أحد محركات التصعيد بينهما؛ حيث اتخذت فرنسا بعض الإجراءات التي تمثل استفزازًا للجزائر، أهمها قيام فرنسا بتشكيل لجنة دعم بمدينة “الداخلة” في منطقة يقع معظمها تحت السيطرة المغربية، كما أن فرنسا تؤيد مقترح الحكم الذاتي المغربي كخطوة نحو تسوية نزاع الصحراء الغربية في حين ترفض الجزائر هذا المقترح وتشجع موقف جبهة البوليساريو.

دوافع التصعيد بين فرنسا والجزائر 6

لعل أحد أسباب تصعيد التوترات بينهما هو انفراد الجزائر بقراراتها بعيدًا عن فرنسا على عكس ما كان يحدث في التسعينيات فقد كانت فرنسا لاعبًا مهمًّا بالسياسة الجزائرية وتؤثر بشكل كبير بصناعة القرار فيما يخص مجالات التعليم والتدريب المهني والتعاون بالمجال التقني ومجال التجارة، كما يعتبر تقليص حصة فرنسا بالأنشطة الاقتصادية مع الجزائر لصالح الصين وتركيا وإيطاليا وغيرهم؛ حيث أدت الخلافات لوقف إمكانية تجديد عقد شركة المياه والصرف الصحي بالعاصمة سيال، وشركات صيانة مترو الانفاق، وفرض قيود على الشركات والاستثمارات الفرنسية على سبيل المثال شركة “رينو للسيارات” يعتبر من أهم الأسباب التي تستفز بها فرنسا القيادة الجزائرية، وتأخذ الجزائر خطوات وثيقة نحو إعادة العلاقات مع محيطها الأفريقي بالتعاون مع الصين بشراكات التنقيب عن المحروقات بمنطقة الساحل،  كما أنشأت “وكالة التعاون الدولي لأجل التضامن والتنمية” ( ALDEC)؛ ما يؤدي لإثارة الغضب الفرنسي فبعد أن كان الحليف الأول أصبح حليفًا من درجة ثانية.

ولعل استمرار تمسك الجزائر بملف “الذاكرة” وذكرها له بكل المناسبات وإصرارها على إغلاقه ولكن بعد الحصول على اعتراف فرنسي رسمي بالجرائم التي قام بها الاستعمار على الأراضي الجزائرية، إضافةً لإعادة رفات المقاتلين الجزائريين التي تحتفظ بها فرنسا لوقتنا الحالي.

أيضًا يعتبر استمرار تمسك فرنسا بروايتها حول التاريخ الجزائري التي تسميها “رَيْع الذاكرة”  تُدين فيه الاستعمار، وهو نظام أرسته النخبة الحاكمة بالجزائر والنظام العسكري، في حين تستمر الجزائر بإلحاحها حول ضرورة الاعتذار عن جرائم الاستعمار ضد الجزائريين.

هل تستمر العلاقات الفرنسية الجزائرية بالتصعيد أم تتجه لإعادة الدفء؟

من خلال ما سبق طرحه يمكننا وضع تصور لمسارات العلاقات الفرنسية الجزائرية مستقبلًا وذلك في صورة سيناريوهات كما يلي: –

السيناريو الأول هل يستمر التصعيد لضمان الانتخابات؟

يذهب هذا السيناريو إلى استمرار توتر العلاقات بين البلدين كنتيجة لتمسك كل طرف منهما بوجهة نظره حول ملف الذاكرة”، وما ينتج عن ذلك من عدم اعتراف فرنسا بالجرائم التي قامت بها ضد الجزائريين على مدار سنوات الاستعمار، مع استمرار تمسكها بعدم تقديم اعتذار رسمي للشعب الجزائري؛ لذا ستظل الجزائر تلح بطلبها فيما يخص تسوية ملف الذاكرة واحترام حقوق الشعب الجزائري، واستمرار مطالبتها بإقامة تحقيق بجرائم الاستعمار على أرضها، قد يأخذ هذا السيناريو إمكانية تحقق كبيرة، خاصة مع قرب الانتخابات الفرنسية ورغبة ماكرون بإرضاء اليمين على حساب الجزائريين؛ لضمان الأصوات الانتخابية؛ حيث إن لليمين المتطرف الفرنسي ممثلًا في حزب “التجمع الوطني” وعلى رأسه “مارين لوبان” مرشحة الرئاسة الفرنسية بالدورة القادمة أبريل 2022، فمن أهم أفكارهم وتوجهاتهم معادة المهاجرين، ولذا فقد تم اعتماد قانون الهجرة بفرنسا، وبدأت بتقليص حجم التأشيرات.

السيناريو الثاني هل التصعيد محاولة لاسترضاء الداخل فقط؟

يذهب هذا السيناريو إلى أن الخلافات بين البلدين مرتبطة بفترة حساسة تتمثل بقرب موعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وأن محاولات ماكرون لفتح ملف الهجرة ما هو إلا محاولة لاسترضاء الداخل وإبداء قدْرٍ من الاهتمام بملف اللاجئين، أحد أهم الملفات التي تؤرِّق اليمين المتطرف الفرنسي؛ لذا  قد تقوم بعض الدول المغربية بتسوية وضع اللاجئين بفرنسا، وبالتالي يتجه الوضع بينهما  للتهدئة  حتى تمر فترة الاستحقاقات الرئاسية.

ختامًا يمكننا القول: إن الجزائر تأخذ خطوات جادة وقوية وردود أفعال واضحة لما تقوم به فرنسا تجاهها، فقد قلَّصت من حجم التعاون الاقتصادي وأعادت إحياء اتفاقيات جمّدت لعقود على سبيل المثال “اتفاقية الشراكة مع تركيا” وتؤكد بشكل مستمر على حقها بحماية مصالحها وضمان عدم التدخل بشؤونها باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة وليست محمية فرنسية، وفي ذات الوقت، وعليه فقد يستمر تمسكها بملف الذاكرة ” لسنوات حتى حصولها على التعويض والاعتذار اللازمين لذلك.

 

 

 

 

 

 

 

 

كلمات مفتاحية