العلاقات “العراقية – السورية” بين مشهدين

إعداد: مروة سماحة

المقدمة

لم تشهد ساحة العلاقات “العراقية – السورية” الكثير من الاستقرار  على مدار الزمن؛ بالرغم مع وجود مشتركات جغرافية، وروابط مجتمعية، وعلاقات اقتصادية متبادلة، إلا أنَّ التوتر الأمني والتذبذب السياسي كانا العامل الأوضح في المشهد، وأثَّر بمجرى العلاقات، وكثيرًا ما دخلت العلاقات بين الطرفين بتوترات أمنية تارةً، وسياسية تارةً أخرى، قبل عام 2003، مع وجود مشترك مهم، ألا وهو الحزب الحاكم نفسه في كلا البلديْن، وحتى بعد 2003، وبعد تغيُّر النظام، إلا أنَّ الأمر أصبح مختلفًا بعد اندلاع أحداث الأزمة السورية، وخصوصًا بعد سيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على الأراضي العراقية، في عام 2014؛ ما جعل العراق يسلك سياسة ديناميكية وأمنية بشكلٍ كبيرٍ تجاه سوريا، وحاول العراق أن ينهض بدور المحايد في الأزمة، وفي ذلك السياق، سيتم تناول مراحل التغيُّر في العلاقات “العراقية – السورية” وطبيعة العلاقات بين الدولتيْن بعد طيِّ سوريا عزلتها الاجتماعية، بعودتها إلى أحضان جامعة الدول العربية، بعد عزلة استمرت اثني عشر عامًا .

أولًا: حقبة التوتر في العلاقات “العراقية – السورية”

كان الشيء الذي يغلب على العلاقات “العراقية – السورية”، هو الخلاف والتوتر  في الماضي، إلا أن هذا التوتر الكبير أصبح واضحًا بعد تغيُّر النظام السياسي في العراق، عام 2003؛ إذ بدأت سوريا مخاوفها الكبيرة والواضحة من عملية تغيُّر النظام العراقي، وما سيعود عليها من تداعيات أثره، وما أكد هذه المخاوف هو إصدار  الكونجرس الأمريكي قانون معاقبة سوريا، في ديسمبر 2003، وبدأت نقطة التحوُّل الكبيرة في تاريخ العلاقات بين الطرفيْن؛ إذ انتهجت سوريا طرقًا مختلفةً لوضع حجر الزاوية أمام الوجود الأمريكي في العراق، وتهديد الاستقرار العراقي؛  لدفع الضرر عنها بمساعدة دول إقليمية؛ بسبب شعور الخطر التي عاشته سوريا، ليس من  الجانب  السياسي والأمني فقط، وإنما من الجانب الاقتصادي أيضًا، الذي شهد انخفاضًا واضحًا بعد مرحلة من الازدهار، في السنوات من (2000 – 2002)

كل هذه العوامل ساعدت أن يكون الحضور السوري في العراق سلبيًّا، وعاش فترة من التوتر والتقاطعات الأمنية، ولا سيما إبان حكومة السيد “نوري المالكي” في دورته  الأولى، المتبنِّي لرؤية حزب الدعوة الإسلامي، الرافض لحزب البعث الحزب الحاكم في دمشق، وقامت سوريا بحماية وتوفير ملاذٍ آمن  لكبار عناصر حزب البعث، الفارِّين من العراق، تتراوح أعدادهم من (30.000) إلى (40,000)، وسمحت لهم بالدخول مع من يعيلو، وممارسة نشاطهم السياسي والأمني المسلح المعارض؛ ما اعتبره العراق بمثابة تهديدٍ لأمنه القومي في النظام الجديد.

ولن يقف الأمر عند ذلك فقط، ففي عام 2005، اتهم وزير الخارجية العراقي الأسبق، هوشيار زيباري، سوريا، بتوريد العناصر الإرهابية إلى العراق؛ حيث كانت سوريا تحتوي على معسكرات تدريب للإرهابيين التكفيريين، الذين يتسللون عبر الأراضي السورية إلى العراق؛ ما دفع الحكومة العراقية حينها، إلى اتهام سوريا بزعزعة الأمن العراقي، وسيْر العملية الديمقراطية، ووصل الحال بالحكومة العراقية، محاولة رفع شكوى إلى مجلس الأمن الدولي حول سوريا، لولا تدخل جامعة الدول العربية وتركيا في تهدئة الوضع.

واشتد توتر العلاقة بين “العراق، وسوريا” قبيل انتخابات مجلس النواب، في عام 2010، بالعراق، فقامت سوريا  بدعم القائمة العراقية، برئاسة “إياد علاوي”، مقابل منافسها الأقوى، قائمة ائتلاف دولة القانون، الذي رأسه “نوري المالكي”؛ إذ اعتبر ذلك أشبه بالدعم الطائفي، وحتى بعد إعلان نتائج الانتخابات وصعود القائمة العراقية، دعمت سوريا بصورةٍ كبيرةٍ جدًّا القائمة بتشكيل الحكومة، عن طريق تفاهمات مع زعيم التيار، السيد مقتدى الصدر، إلا أنَّ التدخل الإيراني حال دون ذلك؛ إذ استخدمت إيران العلاقات مع سوريا؛ لحل الخلاف ما بين “نظام الأسد، وحكومة المالكي”، واستمرت العلاقات بتذبذب لحين اندلاع أحداث 2011، في سوريا، وما رافقها من حرب أهلية.

في الوقت نفسه، لم يمنع ذلك التوتُّر من استقبال سوريا ملايين المهاجرين العراقيين الذي نزحوا؛ بسبب الأعمال الإرهابية والطائفية في العراق، وسهَّلت عملية دخولهم واستقرارهم؛ ما عاد بمردود اقتصادي واجتماعي كبير لسوريا، استخدم كورقة ضغط على الحكومة العراقية من جهة، والقوات الأجنبية الموجودة في العراق من جهةٍ أُخرى.

انفراج العلاقات بين الدولتين

لم تستمر حالة التوتر طويلًا، فبمجرد اندلاع الأحداث في سوريا عام 2011؛ إذ تغيَّر موقف العراق ولم تسعَ لكسب الموقف ضد سوريا بشكلٍ يحقق له غاياته ورغباته، إلَّا أنه حاول التعامل مع الموقف بطريقة من الحياد والدبلوماسية وقلق متواصل من الأحداث في سوريا، وهذا ما أفاده تصريح “نوري المالكي”، الذي حذَّر فيه من مآلات الحرب الأهلية في سوريا، قائلًا: «الوضع في سوريا شديد الخطورة؛ ما يستدعي التعامل معه بوسائل مناسبة، بما لا يسمح تحوُّل ربيع سوريا إلى شتاء.

وما يقلق العراق هو أن يتولى الحكم في سوريا المتطرفون الإسلاميون السُّنَّة، وأن تزداد التوترات الأمنية، ويكون العراق ساحةً للحرب الطائفية الإقليمية، وأصبح هذا القلق مؤكدًا بعد سيطرة تنظيم “داعش” على مناطق المعارضة في سوريا؛ ما جعل العراق بشكلٍ رسميٍّ، يندد بضرورة إجراء الحل السلمي، والتوصل إلى الحلول عن طريق “الحوار، وعدم الذهاب إلى التسلح والمواجهة المسلحة”.

وكذلك تبنَّى العراق موقفًا دبلوماسيًّا واضحًا في الأزمة؛ إذ كان موقف العراق، الدعوة إلى حلِّ الأزمة عن طريق الحوار بين جميع الأطراف السورية، واستبعاد الحل العسكري، ودعم الجهود الدولية والإقليمية كلها التي تدعم الحل السلمي للأزمة، وقد طالب العراق في اجتماعات القمم العربية والاجتماع الوزاري، بإعادة مقعد سوريا إلى الجامعة العربية، بوصفها، من الدول المؤسسة لهذا الصرح العربي، ولا بُدَّ من أن يكون لها دورٌ فعَّالٌ، في ظلِّ ما تشهده من أزمة على الصعيد العربي، والعراق قد تحفظ على قرار مجلس الجامعة العربية بجلسته غير العادية على المستوى الوزاري، في (12/11/2011)، بشأن تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية، إلا أنَّ هذا لم يمنع من أن يكون هناك موقف موازٍ لموقف الدولة الرسمي من بعض الأطراف السياسية والأحزاب بالداخل العراقي ما بين “مؤيد، ورافض”، وكان الموقف العراقي يسير على محوريْن:

الأول: الموقف الرسمي: هو الموقف الذي تبنته الحكومة العراقية، وهو موقف الحياد والتعامل بشكلٍ دبلوماسيٍّ مع الأزمة والمعطيات، وتأكيد الحل السلمي والحوار والتواصل، وهذا ما تُرجم عن طريق مواقف العراق الدبلوماسية بالتصويت على القرارات الدولية ضد سوريا في جامعة الدول العربية.

الثاني: الموقف غير الرسمي: يعيش العراق حالةً من عملية الإرباك في المواقف الداخلية والخارجية؛ نتيجة التعارض الناتج عن موقف الدولة الرسمي والمواقف الموازية لقوى وأحزاب سياسية وعسكرية متنفذة داخل الدولة، فمع إصدار المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف فتوى دينية تمنع الذهاب إلى سوريا؛ للقتال والدفاع، إلا أنَّ بعض الفصائل المسلحة التابعة لأحزاب سياسية عراقية، والتي لديها ارتباط وثيق ومباشر مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ذهبت وقاتلت في سوريا؛ لتوافق الموقف الإيراني مع مواقف النظام في سوريا.

لم يكن ذلك فقط، وإنما قام العراق بإعداد طريق مروري بري إلى سوريا؛ لتزويدها بالسلاح والمؤن والعتاد والأغذية وغيرها، في حين خفضت دول عربية أخرى علاقاتها مع سوريا، فتحرك العراق في الاتجاه المعاكس؛ إذ استضافت زيارات رسمية، ووسعت العلاقات التجارية، وقدمت الدعم المادي، بما في ذلك وقود (الديزل)، الذي تشتد الحاجة إليه.

والجدير بالإشارة، بصفة خاصة، هو استعداد العراق للتهرب من مطالب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بقطع شحنات الأسلحة الإيرانية إلى دمشق، سبق للولايات المتحدة أن اتهمت حكومة “المالكي” بمساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية، حتى إن واشنطن طالبت بإجراء عمليات تفتيش منتظمة للطائرات الإيرانية، التي تعبر الأجواء العراقية؛ لاعتراض الأسلحة المتجهة إلى سوريا، وحذَّرت كُل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أنَّ المساعدة تتوقف على هذا التعاون؛ لتفادي هذه الضغوط والتبعية المفرطة، التي يمكن أن تستخدمها الولايات المتحدة كوسيلة ضغط عليه، في الوقت نفسه، أبقى العراق خطوط اتصاله مفتوحة مع بعض جماعات المعارضة السورية، ولا سيما في شمال العراق (إقليم کردستان)، وبعض الأطراف السنية في العراق، وفي الأمر نفسه، رفض وزير الخارجية، هوشيار زيباري، المزاعم التي تردد بأن إيران كانت تشكل سياسة العراق تجاه سوريا.

واستمر العراق بعرض المبادرات والرؤى بشأن الأزمة السورية على مستوى المناقشات الخاصة بالأمن الإقليمي على المستوى الدولي وعلى المستوى الإقليمي، ولا سيما في القمم العربية واتحادات البرلمانات العربية والبرلمان العربي؛ إذ تبنّى العراق الموقف الواضح من ضرورة إعادة سوريا إلى القمة العربية وإذابة الخلافات، وكان آخر المبادرات هو ما نتج عن اجتماع اتحاد البرلمانات العربية المنعقد في بغداد، بشهر مارس المنصرم، وهو تشكيل وفد برلماني عربي برئاسة العراق، يزور سوريا ويلتقي بالمسؤولين السوريين؛ في محاولة لإذابة الخلافات وحلحلة الأمور، وبالفعل؛ عادت سوريا عضو في جامعة الدول العربية وطوت صفحة عزلتها الإقليمية.

العلاقات “العراقية – السورية” بعد عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية

كانت العراق متمسكة بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، ممارسة دورها المهم في العمل العربي المشترك منذ تجميد مقعدها فيها.

وفي أعقاب عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية بأربعة أشهر، قام رئيس وزراء العراق، محمد شياع السوداني، بزيارة دمشق، في شهر يوليو الجاري، وهذه هي أول زيارة لرئيس وزراء عراقي إلى دمشق، منذ العام 2010؛ حيث زارها “نوري المالكي” رئيس الوزراء الأسبق.

وفي سياق الزيارة، أجرى الثنائي “بشار الأسد، والسوداني” مباحثات، تركزت على العلاقات بين “سوريا، والعراق”، وتعزيز التعاون بينهما، ولا سيما التعاون المشترك والأخطار الأمنية التي تهدد كلا البلديْن، وأشاد “الأسد” بالدور العراقي في الأزمة السورية خلال الحرب الإرهابية، وتنديده لكافة تبريرات العدوان عليها.

وفي مقابل ذلك، أكد “السوداني” أن موقف العراق ثابت بدعم وحدة سوريا وسيادتها، وأن أمن العراق من أمن سوريا، موضحًا أهمية التنسيق بين البلديْن؛ لمواجهة التحديات المشتركة وخاصة الإرهاب ونقص المياه، وأعرب عن رفضه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، وأعلن “السوداني” عن الاتفاق مع الجانب السوري على إيجاد آليَّات تنسيق لمواجهة المخدرات، وضرورة ضمان حصص مائية عادلة، لافتًا أن أبواب العراق مفتوحة للاستثمار

وتأتي تلك الزيارة في سياق تقديم الدعم العراقي للعاصمة السورية بعد القبول والانفتاح الإقليمي لها إثْر عودتها لجامعة الدول العربية، وفي وقتٍ يشهد فيه الجانب الأمني تحديات؛ حيث تشهد الجبهة الشرقية المشتركة بين “سوريا، والعراق” تحركات لتنظيم” داعش”، مستفيدة من اتساع الحدود بين البلديْن والجغرافيا الواسعة الممتدة والمتداخلة عبر بادية مترامية الأطراف، يمكن التنقل خلالها بكل سهولة، بالتالي استمرار تهديدات التنظيم بنقل المعدات والسلاح والعتاد

وتأتي الزيارة في وقتٍ متصاعد من التوتُّر بين كل من “موسكو، وواشنطن” بعدما تحركت قامت الأمريكية التي تقود التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، بمناورات وتدريبات عسكرية على محور المنطقة 55 كيلو، وهي منطقة وجود قاعدة “التنف” بشرق سوريا، وخاصة أن المنطقة نفسها تشكل المثلث الذي تلتقي به الحدود “العراقية، والسورية، والأردنية”.

ختامًا:

شهدت العلاقات “السورية، العراقية” حلحلةً بشكل ملحوظ منذ ٢٠١١، على خلفية الحرب الأهلية بسوريا، بعد خلاف وتوتر  في طبيعة العلاقات في أعقاب إصدار الكونجرس الأمريكي قانون معاقبة سوريا  ٢٠٠٣، وعرقلتها اقتصاديًّا بشكلٍ خاصٍّ.

ومن المتوقع، أن تزداد العلاقات الثنائية قوةً وتعاونًا بين الدولتيْن، ولا سيما بعد أن عادت سوريا إلى أحضان الجامعة العربية، وأُنهيت عزلتها إقليميًّا، وهذا يتوافق مع دبلوماسية “السوداني” ومساعيه؛ لتعزيز العلاقات إلى مستويات متقدمة، ولا سيما في ظل ما يواجهه البلدان من مشاكل مشتركة، على رأسها؛ “الإرهاب، وتحديات المياه” وغيرها، ولا سيما بعدما زار “السوداني” دمشق كأول رئيس وزراء عراقي يزور سوريا منذ أربعة عشر عامًا، وتأكيده على دعم سوريا، والعمل المشترك في كافة المجالات.

 

كلمات مفتاحية