«العودة من خلال الشركاء»: أبعاد ومُخرجات زيارة «أنتوني بلينكن» لأثيوبيا والنيجر

إعداد/ حسناء تمام كمال

مقدمة

في ظلِّ حالة تنافُس القوى الكبرى على أفريقيا، أجرى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، زيارة إثيوبيا والنيجر، وذلك في الفترة من 13 إلى 17 مارس؛ في سبيل تعزيز شراكة الولايات المتحدة مع أفريقيا، وقبل أن يبدأ «بلينكن» جولته، أكد أن الدول الأفريقية شركاء أساسيون في الأمن الغذائي، وأزمة المناخ، والصحة العالمية، وحقوق الإنسان، والسلام، وأنهم يستحقون تمثيلًا أكبر في المؤسسات العالمية، وأن هذه الملفات ستكون محلَّ التركيز إبان زيارته.

أولًا: الملفات والمُخرجات

في زيارته التي استمرت 5 أيام، تنوعت الملفات التي شملتها زيارة «بلينكن»، وكذلك الأطراف الذين شملتهم الجولة، وذلك في ظل وفدٍ أمريكيٍّ متكاملٍ، وكانت أهم تحركاته والمُخرجات في زيارة البلديْن، مايلي:

  • إثيوبيا

مساعدات  إنسانية: أعلن «بلينكن» عن مساعدات إنسانية جديدة، بقيمة 331 مليون دولار، لكن دون تقديم الدعم لانضمام إثيوبيا مجددًا إلى اتفاق تجاري كبير، وبهذه المساعدة الجديدة، يصبح إجمالي المساعدات الإنسانية الأمريكية لإثيوبيا، أكثر من 780 مليون دولار، في السنة المالية الأمريكية 2023، مخصصة للجميع، وليس لمجموعة أو منطقة واحدة.

دراسة العودة إلى «أجوا»: كشف وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن إمكانية إعادة إثيوبيا إلى عضويتها في قانون النمو والفرص في أفريقيا «أجوا»، بعد التنفيذ الكامل لاتفاقية «بريتوريا السلام»، الموقع بين «الحكومة الإثيوبية، والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي».

وكان الكثير من الإثيوبيين يُعوِّلون على هذه الزيارة، في إحداث تحوُّلٍ إيجابيٍّ، بشأن وضْع إثيوبيا في اتفاقية «أجوا»، وإلغاء قرارات عدة فُرضت على إثيوبيا، أهمها؛ إبعادها من برنامج الأفضليات التجارية لقانون «أجوا»، قانون النمو والفرص في أفريقيا.

لقاء مع  الـ«تيجراي»: التقى «بلينكن» ممثلين عن «جبهة تحرير شعب تيجراي»، وقال: إن الجانبيْن عبَّرا عن تمسُّكهما بتطبيق اتفاق السلام، المُبْرَم في 2 نوفمبر، في جنوب أفريقيا، بوساطة الاتحاد الأفريقي بدعم الولايات المتحدة، وأشار «بلينكن» إلى ضرورة الالتزام بتنفيذ الاتفاق، والحث على المُضي قُدُمًا.

ملف «سد النهضة»: بحسب  المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، وقبل بدْء الجولة، أكد أن وزير الخارجية الأمريكي، سبق أن ناقش قضية «سد النهضة» مع المسؤولين المصريين، خلال زيارته للقاهرة، في يناير الماضي، وبالمثل ستكون هناك فرصة لمناقشة ملف «سد النهضة» مع المسؤولين الإثيوبيين في «أديس أبابا»، وأن السفير «مايك هامر»، المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي، موجود في المنطقة كجزء من الجهود الأمريكية؛ لمتابعة قضية «سد النهضة»، غير أن لا جديد ذُكر تجاه هذا الملف، بعد انتهاء الزيارة، بالرغم من عودة التوتُّرات بين «مصر، وإثيوبيا» بفعل اقتراب الملء الـ4 للسد، دون  التوصُّل لتسوية.

ووفقًا لإثيوبيا، فالزيارة أتت مثمرة، ووضعت معالم جديدة في طيِّ صفحة الماضي، ونقْل العلاقات إلى مستوى أفضل، وقال المتحدث الرسمي باسم الخارجية الإثيوبية، ملس ألم: إن زيارة «بلينكن» لإثيوبيا، حققت أهدافها في التوصُّل لتفاهمات مشتركة، طوت صفحة الماضي من العلاقات التي شابها التوتُّر، إلى البحث عن شراكةٍ جديدةٍ، وإعادة العلاقات التاريخية بين «إثيوبيا، والولايات المتحدة» لمستوى أفضل مما كانت عليه، كما أكد رغبة الولايات المتحدة في دعْم المؤسسات الإثيوبية، ودعْم عملية السلام في مختلف المجالات من إعادة الأعمار والتنمية، مع التأكيد على أن قد يكون هناك مجال للتعاون فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر بالمنطقة، وقال: الولايات المتحدة تشيد بجهود إثيوبيا في دعْم الاستقرار بـ«جنوب السودان، والصومال».

  • النيجر

دعم إنساني للإقليم: أعلن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن تقديم مساعدات إنسانية جديدة، بقيمة 150 مليون دولار، لمنطقة الساحل الأفريقي، قال: إنها ستوفر الدعْم لإنقاذ حياة لاجئين وغيرهم من المتضررين من الصراعات وانعدام الأمن الغذائي.

وتُعدُّ النيجر هي أكبر مُتلقٍّ للمساعدات العسكرية من وزارة الخارجية في غرب إفريقيا، وثاني أعلى دولة في أفريقيا جنوب الصحراء، ودائمًا ما تُثمِّن الولايات المتحدة جهود النيجر، في الحفاظ على حدود مفتوحة لأولئك الفارِّين من الصراعات، في وقتٍ تتزايد فيه عمليات إغلاق الحدود والقيود المفروضة على الحركة على مستوى العالم.

وبالنسبة للولايات المتحدة، تأتي النيجر في خط المواجهة الأفريقية الأول لعناصر «القاعدة، وداعش»، خصوصًا أن «بوركينا فاسو، ومالي»، عانتا من الهجمات الإرهابية الفترة الأخيرة؛ لذلك أرسلت الولايات المتحدة 800 جندي أمريكي؛ لتدريب القوات النيجيرية؛ لمواجهة «داعش، والقاعدة».

وخطاب الولايات المتحدة تجاه النيجر، يمكن فهمها في سياق إستراتيجية التمييز، والتي تحاول فيها، أن تميز تواجدها عن تواجد القوى الأخرى، وتطوير عُمْق علاقاتها مع دول أخرى، بما يزيد مساحة تواجدها، ولكن لا تتخلَّى عن حلفائها التقليديين، وتستخدم هذه الإستراتيجية عندما تشتد المنافسة مع زيادةٍ في عدد اللاعبين الدوليين في مساحة، وفي ظل وجود موارد وسياقات يمكن الاستفادة منها في خدمة أهداف جديدة، وهي إستراتيجية اقتصادية بالأساس، عادةً ما يستفاد منها في سياقات سياسية.

ثانيًا: الدلالات

تحمل الزيارة عددًا من الدلالات، سواء في بيان أهميتها، أو في مُحدِّدات علاقة الولاية المتحدة بالدول الأفريقية، نشير إلى أبرز هذه الآليات فيما يلي:

المصالحة مقابل المساءلة: وهذا مبدأ أعلن صراحة؛ إذ أكد كبير الدبلوماسيين الأمريكيين، أن علاقات تجارية أكبر مع إثيوبيا تعتمد على تمسكها بـ«المصالحة والمساءلة»، فيما يتعلق بالحرب التي أوْدت بحياة 500 ألف شخص تقريبًا، بحسب التقديرات الأمريكية، وأن صلاح العلاقات مرتهن بإصلاح ما تركته حرب الـ«تيجراي».

لا مجال للانفراد «الروسي – الصيني»: كان «بلينكن» هو أول وزير خارجية أمريكي يزور المستعمرة الفرنسية السابقة، التي ينظر إليها على أنها قاعدة عسكرية رئيسية للقوات الغربية في حملتها لمكافحة «الجهاديين» في منطقة الساحل، وهو محاولة لكسر الانفراد «الروسي – الصيني» الذي شمل منطقة الغرب الأفريقي عقب الانسحاب الفرنسي.

حرص الولايات المتحدة على لقاء الفاعلين غير الرسميين: لم تكن زيارة «بلينكن» فقط على مستوى الرؤساء، لكنه التقي كذلك الأطراف الأُخرى غير الرسمية والفاعلة في تلك البلدان، ففي إثيوبيا التقي برئيس «جبهة تحرير التيجراي» في أثيوبيا، وقبل لقائه الرئيس، محمد بازوم، استهل «بلينكن» زيارته بلقاء مقاتلين سابقين، نبذوا العنف، ويستفيدون من برنامج لإعادة الاندماج في النيجر، تموّله الولايات المتحدة، بنحو 20 مليون دولار.

وفي هذا الصدد، يجدر طرْح تساؤلٍ رئيسٍ، هو هل ستتجه الولايات المتحدة، بدرجة ما ناحية الشعبوية في علاقاتها مع القارة الأفريقية، الشعبوية: عادة ما تعني تقديس الشـعب أو القومية أو العرق أو الهويـات الصغيـرة، باعتبارهــا طريق للتخلص مــن التوتُّرات الناتجة عن تهميش بعض الفئات، وهذا التساؤل جدير بالنظر فيه، خصوصًا إذا ما أظهرت تنسيقات أُخرى من الولايات المتحدة تجاه التنسيق مع الفاعلين غير الرسميين في أفريقيا.

دعم مواجهة قوات «فاغنر»: قالت مسؤولة أمريكية كبيرة ضمن وفد «بلينكن»: إن هذه الزيارة تهدف إلى دعْم جهود الرئيس «بازوم»، الذي ينتقد عمل مجموعة «فاغنر» المسلحة، مضيفةً أن «واشنطن» تريد مساعدة «نيامي» على أن تصبح قواتها المسلحة «احترافية»، وتابعت «بصراحة؛ النيجر في وضْعٍ صعْبٍ للغاية، لكن رغم كل هذه التحديات تحاول السلطات القيام بما يجب القيام به».

فترة الزيارة: فترة الزيارة 5 أيام، هي مدة طويلة نسبيًّا للدولتيْن، خصوصًا إذا ما قرَّرت الزيارة مخصصةً لدولتيْن، ولقد حازت إثيوبيا بالنصيب الأكبر من الزيارة، سواء في الدعم، أو في لقاءات المسؤولين، وربما المدة ذاتها، مقارنةً بعدد الدول المشمولة بالرعاية، لها دلالة أخرى، وربما يكون هذا نهْج تتبعته الولايات المتحدة، في أن يكون علاقتها مع الشركاء الجدد، قائمة على عُمْق العلاقات، مع عدد الفاعلين داخل الدولة الوحدة.

ثالثًا: تحديات قائمة.. وقضايا مؤجلة

ومع انتهاء الزيارة، يبقى على عاتق الولايات المتحدة عددٌ من التحديات، منها ما يلي:

كيفية تحديد الوقت والتسلسل ومعايير استعادة المساعدة الاقتصادية، بما في ذلك العودة الإثيوبية إلى «أجوا» AGOA، بجانب الحاجة الماسة للغاية؛ لإنهاء انتهاكات حقوق الإنسان ومعالجتها، خصوصًا في ظلِّ الإعلان الأمريكي، بأن الانتهاكات المتعلقة بحقوق الإنسان في الـ«تيجراي» لم تنتهِ به.

وبالتالي، في حالة التزامها بمبدأ «المصالحة مقابل المساءلة»، فتبقى مُلْزَمة بالبتِّ في كيفية تحقيق العدالة على أساس التوثيق والتحقيق والإجراءات العادلة، وهناك حاجة إلى المصالحة التي تسمح للإثيوبيين بإيجاد طريقة للعيش معًا في المستقبل.

يبقى على الولايات المتحدة التقرير، إذا ما كانت الحرب في «تيجراي» هي المساءلة الوحيدة التي تحرص على حلِّها أم لا، خصوصًا أن الحرب في «تيجراي» لم تكن الصراع الوحيد في إثيوبيا؛ إذ تشهد منطقة «أوروميا الوسطى» أعمال عُنْف وانتهاكات لحقوق الإنسان في الصراع بين الحكومة المركزية و«جيش تحرير أورومو»، وتنطبق الحاجة نفسها إلى إنهاء العنف وتعزيز السلام هناك، كما هو الحال في «تيجراي»، وهل ستربط ذلك أيضًا بالعودة إلى «أجوا» أو لا؟

كما يجدر الإشارة إلى أن هناك ملفات مهمة لم تكن على الطاولة إبان الزيارة؛ مثل وجود القوات الإريترية على أراضي إقليم «تيجراي» شمالي إثيوبيا؛ حيث تنُصُّ بعض بنود اتفاقية «بريتوريا» على خروج القوات «الأجنبية» من أراضي الإقليم، والعودة إلى ما قبل الحرب، وهي الأوضاع التي قد تتسبب في تغيير العديد من الأوضاع في المنطقة الشمالية، التي حدثت خلال فترة الحرب، وهذا الملف على أهميته، لم يتبين موقف الولايات المتحدة من الزيارة، أو على الأقل لم يُصرَّحْ به علانية.

رابعًا: سيناريوهات

استجابة محدودة: ويتوقع هذا السيناريو، أن تكون ارتدادات زيارة «بلينكن» محدودة، على ألَّا تصاحبها خطوات لاحقة، وأن يكون ارتدادات هذه الزيارة غير قوية؛ استنادًا إلى رغبة الولايات المتحدة، أن تملي شروطها في الالتزام الإثيوبي التَّام في إتمام ما ترتب على اتفاق السلام مع الـ«تيجراي»، وقصر الملف الاقتصادي على تقديم المساعدات، وليس الشراكة، وهذا السيناريو مُسْتَبْعد.

نجاح نسبي: ويتوقع هذا السيناريو، أن يكون هناك نجاح نسبي لهذه الزيارة، ويرتكز هذا السيناريو، أن هناك احتمالية لأن تكون هناك استجابة متباينة من الدول تجاه التقارُب الأمريكي، فإن بدت إثيوبيا مُرحِّبَةً، قد تكون النيجر مترددةً تجاه حدود هذا التقارُب، وهي الدولة المُحاطَة بالنفوذ الروسي في غرب أفريقيا، ومن ثمَّ قد تُجنِّب نفسها من أن تكون مساحة حربٍ بالوكالة، وهذا السيناريو غير مُسْتَبْعد.

نجاح فى التأسيس للعودة من خلال الشركاء: ويتوقع هذا السيناريو، أنه في ظل إستراتيجية الولايات المتحدة، والتوجُّه نحو العودة إلى أفريقيا، بشتَّى الطُّرُق منها «الأمني، والعسكري، والاقتصادي»، وباعتبارها مازالت القطب الأقوى عالميًّا، حتى في ظل تصاعُد تنافسات الأقطاب، كل ذلك يجعلها شريكًا موثوقًا به، ويجعلها فاعلًا مُرحَّبًا به.

خصوصًا أنها تُحْسِنُ اختبار وكلائها، وأما عن علاقتها مع إثيوبيا، فلديها رصيد واسع من التفاهمات، كما أن إثيوبيا وكيلها المُفضَّل في منطقة القرن الأفريقي، وأن النيجر يمكن أن تكون وجهًا مناسبًا للتواجُد؛ بذريعة مكافحة الإرهاب _ «القاعدة، وداعش»، وأن لدى هذه الدول حاجات مختلفة يمكن أن يسدها الوجود الأمريكي، كل هذا سيُفضي في النهاية في نجاح العودة الأمريكية، من خلال هؤلاء الوكلاء، وهذا السيناريو مُرجَّح.

بالأخير:

يمكن القول: إن الولايات المتحدة بزيارتها لإثيوبيا، تُرسِّخ العودة لأفريقيا من خلال شركائها، على رأس هؤلاء الشركاء هو إثيوبيا، وتسعى لأن تأخذ التعاون إلى مستوى عميقٍ، من خلال تعريز علاقاتها بكافة الفاعلين في الدولة الواحدة، أما الصورة المُصدَّرة بمشروطيتها، بضبط حالة حقوق الإنسان والالتزام، باتفاق «تيجراي»، ماهي إلا لحفْظ ماء الوجه، لكن المُعْطَيَات الفِعْلِيَّة على أرض الواقع، والمتمثلة في الزيارة بحدِّ ذاتها، وحجم المساعدات المقدمة، ومدة الزيارة، والتمهيد لعودتها لـ«أجوا»، تؤكد أن خطوات جادة واسعة وداعمة، تتخذها الولايات المتحدة تجاه إثيوبيا، ومن ناحيةٍ أُخرى، يؤكد الاتجاه ذاته، تحرُّكات الولايات المتحدة ناحية التواجُد، بتمثيلٍ دبلوماسيٍّ عالي المستوى في مناطق غرب أفريقيا.

كلمات مفتاحية