القاعدة في مرحلة ما بعد “الظواهري”: زيادة الاعتماد على “اللامركزية”

محمد فوزي: باحث متخصص في قضايا الأمن الإقليمي

أثارت عملية اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، والتي تمت في العاصمة الأفغانية كابول، عبر طائرة مسبرة تابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية مطلع الشهر الحالي، العديد من التساؤلات التي تحاول الوقوف على مستقبل التنظيم الإرهابي الأشهر في العالم، وبين اتجاهات قرأت العملية على أنها تدفع باتجاه آفول التنظيم، وأخرى تقلل من تداعياتها على مستقبل ونشاط التنظيم، خصوصاً في ظل “محدودية” دور الظواهري في السنوات الأخيرة، بسبب أمراض الشيخوخة التي أصابته، وكذا الملاحقات الأمنية له، سوف تحاول هذه الورقة وضع بعض المقاربات التفسيرية التي يمكن من خلالها فهم عملية اغتيال “الظواهري” في ضوء الحيثيات المتاحة عن العملية، وكذا الوقوف على التداعيات المحتملة لاغتيال “الظواهري” على مستقبل تنظيم القاعدة، لا سيما وأن استراتيجية التنظيم في السنوات الأخيرة ومع الخسائر الكبيرة التي تكبدها، تحولت نحو “اللامركزية” أو الاعتماد بشكل أكبر على استقلالية الأفرع الإقليمية، بما يضمن استمرار مشروع التنظيم المركزي.

مقاربات تفسيرية

أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب له مطلع الشهر الحالي، عن اغتيال “أيمن الظواهري”، مشيراً إلى أن “الظواهري” كان العقل المدبر أو لعب دوراً رئيسياً في الهجمات على المدمرة الأمريكية كول وسفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، فضلاً عن هجمات 11 سبتمبر، وأضاف “بايدن”: “لم يعد الناس في جميع أنحاء العالم بحاجة إلى الخوف من القاتل الشرير”، مؤكداً أن “بلاده عازمة وقادرة على الدفاع عن الشعب الأمريكي ضد أولئك الذين يسعون إلى إلحاق الأذى بنا” وفق تعبيره، وفي ضوء خطاب “بايدن”، وكذا الحيثيات المتاحة عن العملية، يمكن القول إن هناك جملة من الملاحظات الرئيسية فضلاً عن المقاربات التفسيرية التي يمكن من خلالها فهم عملية اغتيال “الظواهري”، وذلك على النحو التالي:

1- سعت إدارة الرئيس جو بايدن عبر عملية اغتيال “الظواهري” إلى تحقيق بعض المكاسب السياسية داخلياً وخارجياً، فعلى المستوى الداخلي حاول “بايدن” تصوير العملية على أنها “انتقام للشعب الأمريكي” ضد العقل المدبر للعديد من الهجمات التي استهدفت الولايات المتحدة ومصالحها، وهو الأمر الذي تسعى الإدارة الأمريكية عبره إلى إعادة بناء وترميم رأس مالها الاجتماعي في الداخل الأمريكي، خصوصاً مع التعثر في العديد من الملفات، ما أدى إلى تراجع شعبية الرئيس والحزب الديمقراطي، وما يعزز هذه الفرضية هو قرب انعقاد انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة.

وعلى المستوى الخارجي، أكد الرئيس “بايدن” في خطابه أن الإدارة الأمريكية لن تسمح بتحول الأراضي الأفغانية إلى ساحة للإرهابيين، وأنها سوف تواصل ملاحقة إرهابيي القاعدة داخل أفغانستان وخارجها، وهي إشارة يحاول الرئيس من خلالها توظيف العملية من أجل التأكيد على محورية دور الولايات المتحدة في ملف مكافحة الإرهاب المعولم، وكذا مواجهة الاتهام التي طالت واشنطن عقب الانسحاب من أفغانستان، خصوصاً وأن هذا الانسحاب الذي وُصف من بعض الدوائر الرسمية العالمية بـ “الفوضوي”، قد أدى إلى تحول الجغرافيا الأفغانية إلى بيئة خصبة لتنظيمات العنف والإرهاب، وخصوصاً تنظيمي القاعدة وداعش، فضلاً عن أنه شجع العديد من تنظيمات الإرهاب على السعي لاستنساخ تجربة طالبان.

والملاحظ أن الولايات المتحدة نفذت العملية عبر طائرة مسيرة تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، وليس الجيش الأمريكي، في عملية دقيقة لم تسفر عن سقوط ضحايا مدنيين، وهي آلية استندت إلى دافعين رئيسيين الأول يرتبط باتفاقات الدوحة التي عُقدت بين طالبان والولايات المتحدة، وهي الاتفاقات التي قضت بعدم تنفيذ الجيش الأمريكي لعمليات في أفغانستان، أما الاعتبار الثاني فيرتبط بطبيعة العملية، إذ أنها عملية ذات طابع استخباراتي وهي مهام توكل عادةً لوكالة الاستخبارات المركزية.

2- أشار تقرير لصحيفة “التايمز” البريطانية، نُشر عقب اغتيال “الظواهري”، إلى أن عائلة “الظواهري” كانت سبباً رئيسياً في عملية اغتياله، لكن هذه المشاركة في العملية كانت ضمنية، حيث رصدت الاستخبارات البريطانية انتقال أسرة “الظواهري” إلى كابول، وإقامتهم في منزل بحي شيربور، الذي كان يختبئ فيه “الظواهري”، ما أدى إلى رصد التواصل بين “الظواهري” وأسرته، ومن ثم رصد تحركات “الظواهري”، والترتيب لعملية اغتياله.

3- أحد المقاربات التفسيرية المطروحة والتي يمكن في ضوئها فهم عملية اغتيال “الظواهري”، تتمثل في ضلوع حركة طالبان في عملية الاغتيال، وذلك في ضوء مؤشر مهم، وهو ثبوت إقامة “الظواهري” في منزل أحد مساعدي وزير الداخلية في حكومة طالبان سراج الدين حقاني، ما يعني أنه كان تحت حماية الحركة، ويُعزز من صحة هذه الفرضية وجود خلافات داخل حركة طالبان حول طبيعة علاقات الحركة في مرحلة ما بعد السيطرة على أفغانستان، مع تنظيم القاعدة، حيث يعارض اتجاه رئيسي داخل الحركة وجود علاقة ارتباطية مع طالبان، خصوصاً مع سعي الحركة إلى كسب الشرعية الدولية، ورغبتها في عدم الصدام مع المجتمع الدولي في الفترة الراهنة، فضلاً عن رغبة الحركة في الحصول على مساعدات دولية واستعادة الأموال المُجمدة في الخارج، وبالتالي فإن تحول أفغانستان لمأوى لتنظيمات الإرهاب وقادة القاعدة، يتعارض مع مساعي الحركة في هذا الاتجاه.

وحتى مع افتراض عدم ضلوع طالبان بدور في عملية اغتيال “الظواهري”، إلا أن الحركة ستُتهم من قبل تنظيم القاعدة بالتقصير على مستوى حماية زعيمها، وهي أمور تدفع باتجاه حدوث صدام بين الطرفين في كل الأحوال.

4- أحد الأطروحات الرئيسية التي ركزت عليها الأدبيات السياسية في تناولها للظاهرة الإرهابية خلال العقدين الأخيرين على وجه الخصوص، تمثلت في التركيز على فكرة أن التنظيمات الإرهابية تحولت إلى أداة وظيفية في أيدي بعض الدول، خصوصاً مع وجود العديد من الشواهد التي أثبتت ذلك، والتي كان آخرها الحرب الروسية الأوكرانية، حيث سلطت العديد من التقارير الاستخباراتية والإخبارية الضوء على نقل مجموعات مسلحة إسلامية من سوريا إلى أوكرانيا برعاية الولايات المتحدة، للقتال ضد روسيا، وهي المجموعات التي تضمنت عناصر من تنظيم داعش الإرهابي، وبالتالي – حتى لو ضعُف هذا الاحتمال – لا يُستبعد أن يكون لتنظيم داعش دور في عملية اغتيال “الظواهري”، على اعتبار أن داعش هو أحد المستفيدين الرئيسيين من هذه العملية، لما سيترتب عليها من زعزعة للتنظيم الرئيسي المنافس له.

تهاوي نموذج “القاعدة” وصعود النموذج الداعشي

كان تنظيم القاعدة حتى العام 2011، التنظيم الجهادي الأشهر في العالم والأكثر انتشاراً، ومع ما عُرف بانتفاضات الربيع العربي، وما صاحبها من ارتدادات بدأ تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ “داعش” في الظهور والاستيلاء على زعامة المشهد الجهادي العالمي، خصوصاً مع سيطرته في أعوام 2013 و2014 على مساحات واسعة من الأراضي السورية والعراقية، وإعلان إقامة خلافته المزعومة، ما أدى إلى صدام بين التنظيمين الإرهابيين، بسبب بعض الخلافات الفقهية والسياسية بينهما، ومع التوسعات والتمدد الكبير الذي حققه تنظيم داعش أصبح نموذجاً ملهماً بالنسبة للعناصر المتطرفة والإرهابية حول العالم، لكن ومع الانحسار والهزائم المتتالية التي تعرض لها تنظيم داعش الإرهابي، وإسقاط خلافته المزعومة في في الموصل في سبتمبر 2017، والباغوز في مارس 2019، وكذا الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عاد تنظيم القاعدة إلى الواجهة، خصوصاً على مستوى السعي لاستعادة مكانته في الساحة الجهادية العالمية.

في هذا السياق مثل صعود حركة طالبان فرصة كبيرة لتنظيم القاعدة، خصوصاً مع النظر إلى القاعدة من قبل العديد من الدوائر على أنها تمثل العمود الفقري لجماعة حقاني وكذا الجناح العسكري والفقهي لطالبان، كما حافظ “القاعدة” على حضوره في سوريا من خلال تنظيم حراس الدين التابع له، وكذا بعض قيادات هيئة تحرير الشام “جبهة النصرة”، فضلاً عن حضور التنظيم بشكل كبير في اليمن استغلالاً للأزمات الأمنية التي تشهدها البلاد، خصوصاً في المناطق الريفية.

وبالإضافة لما سبق يحظى تنظيم القاعدة بحضور كبير في شبه القارة الهندية، وكذا القارة الأفريقية، عبر تنظيمات نصرة الإسلام والمسلمين، وقاعدة المغرب الإسلامي، وحركة الشباب الصومالية، التي بدأت مؤخراً في تجاوز الجغرافيا الصومالية والتحرك صوب الأراضي الكينية والإثيوبية، فضلاً عن العديد من الأفرع الإقليمية لتنظيم القاعدة في دول غرب أفريقيا.

وقد ارتبطت مساعي القاعدة فيما يتعلق بالتوسع في تأسيس الأفرع الإقليمية، برغبة التنظيم في تغيير استراتيجيته، خصوصاً على مستوى تقليل الاعتماد على فكرة “المركزية” والانتقال إلى “اللامركزية” أو زيادة الاعتماد على هذه الأفرع ومنحها المزيد من الاستقلالية مع حفاظها على الخطوط العريضة الحاكمة لنهج التنظيم الإرهابي، بما يضمن تجاوز الضغوط والملاحقات المفروضة على التنظيم المركزي وقادته، واختراق نطاقات جغرافية جديدة، بما يحقق المزيد من المكاسب الجيوسياسية للتنظيم، وكذا مزاحمة تنظيم داعش.

مستقبل القاعدة في مرحلة ما بعد “الظواهري”

على الرغم من عدم لعب “الظواهري” الدور “الكاريزمي” والقيادي الذي كان يقوم به سلفه “أسامة بن لادن”، إلا أن عملية اغتياله سوف يكون لها بعض الارتدادات على تنظيم القاعدة، خصوصاً على مستوى معنويات قادة وقواعد التنظيم، في ضوء المكانة الكبيرة التي يحظى بها القادة داخل تنظيمات العنف الإسلاموية بشكل عام، وهو ما يعني أننا سنكون بصدد سيناريوهين رئيسيين فيما يتعلق بمسار تنظيم القاعدة في المرحلة المقبلة، وذلك على النحو التالي:

1- أحد السيناريوهات المطروحة فيما يتعلق بمستقبل تنظيم القاعدة في المرحلة المقبلة، يتمثل في تصاعد منحى العمليات الإرهابية للتنظيم، من خلال أفرعه الإقليمية (وهو السيناريو المُرجح)، خصوصاً وأن تنظيمات العنف والإرهاب تتجه نحو تصعيد المنحى العملياتي عقب اغتيال قادتها، كنوع من الرد على هذه العمليات، وسعياً لإيصال رسائل بعدم تأثير هذه العمليات عليها، وربما يدعم وصول “سيف العدل المصري” وهو المرشح الأبرز لخلافة “الظواهري”، هذا السيناريو، وذلك بسبب السمات الشخصية والتكوينية لـ “سيف العدل”، إذ أنه محسوب على الجناح العسكري داخل التنظيم، وليس المدرسة الفقهية.

وكإجراء احترازي للتعامل مع هذا السيناريو، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تحذيراً لمواطنيها في كافة دول العالم، قالت فيه إن “أنصار لقاعدة أو المنظمات الإرهابية التابعة لها قد يسعون لمهاجمة المنشآت أو المواطنين الأمريكيين”.

2- ربما تدفع عملية اغتيال “الظواهري” باتجاه استمرار تراجع تنظيم القاعدة، خصوصاً إذا ما وُضعت العملية جنباً إلى جنب مع أزمة القيادة التي يعاني منها التنظيم مع استهداف معظم قادة الصف الأول أو الجيل المؤسس في السنوات الأخيرة، فضلاً عن أزمة الموارد المالية التي فشل “الظواهري” في التعاطي معها، وكذا السياق الإقليمي والدولي الذي يفرض على طالبان فك الارتباط مع تنظيم القاعدة،  الأمر الذي يقلل من مساحة الدعم الطالباني للقاعدة.

وختاماً، يمكن القول إن القول بأن عملية اغتيال “الظواهري” سوف تدفع باتجاه آفول تنظيم القاعدة يمثل ضرباً من المبالغة، خصوصاً مع زيادة اعتماد التنظيم على استراتيجية “اللامركزية”، والتقدم المُحرز من قبل بعض أفرع التنظيم في العالم، لكن طبية النهج العملياتي للتنظيم في المرحلة المقبلة سوف ترتبط بشكل رئيسي بطبيعة القائد الجديد للقاعدة، وفي هذا السياق تشير كافة التقديرات إلى احتمالية خلافة محمد صلاح زيادن المعروف بـ “سيف العدل المصري” للظواهري، خصوصاً وأن “سيف العدل” من الجيل المؤسس للقاعدة، وله تاريخ كبير مع القاعدة وفي النشاط الإرهابي بشكل عام، لكن يظل هناك احتمالات أخرى فيما يتعلق بمسألة قيادة القاعدة، إذ يمكن أن تؤول هذه القيادة إلى شخصيات أخرى مثل: “عبد الرحمن المغربي” صهر الظواهري ومستشاره ومسؤول الاتصالات الخارجية للقاعدة لسنوات، فضلاً عن احتمالية انتقال القيادة إلى أحد الأفرع الإقليمية للتنظيم.

كلمات مفتاحية