باتت إثيوبيا تُشكِّل موْطِئ قدمٍ للاضطراب وعدم استقرارٍ في منطقة القرن الأفريقي؛ فقد شهد الداخل الإثيوبي، نهاية الشهر الماضي، اختراقًا لهُدْنةٍ استمرت قُرابة خمسة شهور، بين كلٍّ من حكومة «أديس أبابا، ومتمردي إقليم جبهة تحرير تيجراي»، وفي ضوء تلك الأحداث، تم استئناف القتال مرةً أُخرى، وعادت الأمور إلى سابق عهدها، وأصبح أن تنعم الأرض بالسلام أمرًا محل الكثير من الشكوك، وتزامنًا مع تلك الأحداث، أعلنت الأمم المتحدة في تقريرٍ خاصٍّ بها، عن تكهُّناتٍ بجفافٍ مُدمِّرٍ بمنطقة القرن الأفريقي، وذكرت في التقرير، أن إثيوبيا سترتطم بمجاعة قاسية للغاية، وهذا «ما زاد الطينة بلّة»؛ فأصبح الحاضر مُهدَّدًا بالحرب، والمستقبل مُخيّمًا بالمجاعة، وفي هذا السياق، أصبح الشاغل الوحيد في المنطقة هو تهدئة القتال بإثيوبيا، ووقف العنف؛ فالصراع يُفاقِم مخاطر انعدام الأمن الغذائي بشكلٍ كبيرٍ، وهذا ما تجلَّت مؤشراته؛ حيث تم تهريب المؤن الغذائية الخارجية من «إقليم تيجراي»، إبَّان فترة الصراع، فضلًا عن منْع الأمم المتحدة للإمدادات الغذائية لـ«إقليم تيجراي»؛ ما زاد الأمر تأزُّمًا في بقعة أرضية، من المفترض أنها تعاني من انعدام الأمن الغذائي.
مراحل تحوُّل وتيرة الصراع داخل إثيوبيا بعد اختراق الهُدْنة
• المرحلة الأولى:
الحسْم العسكري في تحقيق الأهداف
تم خرْق الهُدْنة التي استمرت قُرَابَة خمسة شهور، بين كُلٍّ من حكومة «أديس أبابا، ومتمردي إقليم تيجراي» مع تبادُل الاتهامات لكل طرفٍ بالمسؤولية نحو خرْق الهُدْنة، وكان لكل طرفٍ مبرراته التي لا تحمل عنصر اليقين، وفقًا لمنع تواجد الإعلاميين في تلك المنطقة.
ومن المتوقع، أن تلك الهجمات العسكرية التي استأنفت القتال، وخرقت الهُدْنة المنصوص عليها، كانت بفعل قوات متمردي «إقليم تحرير تيجراي»؛ لإدراكهم بعدم جدوى المفاوضات؛ لعدم بناء حوارٍ وطنيٍّ، كما وعدت الحكومة المركزية، فضلًا عن استمرار الحصار على «الإقليم».
توغُّل القوات العسكرية لـ«إقليم تيجراي» نحو أراضي إقليم «أمهرة»
ومن هذا المنطلق، تحرص قوات «تيجراي»، على مجابهة الحكومة الفيدرالية خارج حدود «الإقليم»، فشرعت ميليشيات «تيجراي» العسكرية، بفتْح جبهتيْن للقتال، في إقليميْ «أمهرة، وعفر»، وتمكَّنت من التقدُّم نحو الجنوب، بعمق ٥٠ كم، داخل «إقليم أمهرة»، كما سيطرت على خمس بَلْدَاتٍ، فضلًا عن الاستيلاء على عِدَّة مناطق في جنوب شرق «عفر»، مثل منطقة «يالو»، وكان لذلك رد فعل من الحكومة الإثيوبية، يتمثل في تدمير جسر «الهواها مالاش»، الواقع في شمال مدينة «كوبا»؛ بدافع الحدِّ من استمرار قوات «تيجراي» من التقدُّم نحو جنوب «أمهرة»، مقابل انسحاب جيش الحكومة المركزية من «كوبا»، وتجنُّب سقوط المدنيين، وفي ضوء هذه الأحداث، أشارت حكومة «الأمهرة» إلى استيائها البالغ، إزاء تقدُّم قوات «تيجراي» نحو «الإقليم»، ووفقًا لذلك، قامت ميليشيات عسكرية بشنِّ غارات على «إقليم أورومو»، المؤيد لـ«جبهة تحرير تيجراي»، وراح ضحية ذلك الهجوم عشرات الضحايا.
دور إيريتريا الغامض في الصدام العسكري بإثيوبيا
تجدُر الإشارة، أن الدور الإيريتري في الصراع، ينعت بالغموض، وقد يكون السبب هو خشية فرْض عقوبات من قِبَلِ الولايات المتحدة على إيريتريا، بالرغم من وجود حشود عسكرية إيريترية على الحدود الشمالية لـ«إقليم تيجراي»، التي تفصل بين «الإقليم، وإيريتريا»، كما تتواجد أيضًا في «إقليم الأمهرة»، وفي ضوء تقارُبٍ بين «إقليم تيجراي»، والرئيس الإيريتري، أسياس أفورقي، فإن الثاني لايريد توتُّر العلاقات مع الأول؛ لتجنُّب عدم استقرار الصراع
وفي سياقٍ متصلٍ، صدَّرت الحكومة الإثيوبية للعالم برُمَّتِه، أنها حكومة تسعى للسلام، واستقرار البلاد، كما أكدت على عدم خرْقها لهُدْنة السلام، التي عقدت في شهر مارس؛ وبناءً على ذلك، قام السفير الإثيوبي بالسودان، بدعم ذلك المنطلق، من خلال مطالبة الحكومة السودانية، في ٢٩ أغسطس الماضي، بالضغط على «إقليم جبهة تحرير تيجراي»؛ للتشريع في مفاوضات تهدف للسلام؛ لتسوية الصراع، وقام «آبي أحمد» بزيارةٍ رسميةٍ للجزائر، في ظل تأجُّج الأحوال في بلاده؛ حتى يوضح للمجتمع الدولي، أن الأمور على ما يُرام، فلا تُفرض على بلاده عقوبات اقتصادية.
رد فعل المجتمع الدولي حيال استئناف القتال بأثيوبيا
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، أعلن «بايدن»، يوم الجمعة الماضية، بتمديد حالة الطوارئ الوطنية في بلاده، لعام آخر؛ نظرًا لتصعيد الصراع في شمال إثيوبيا؛ فذلك الصراع جديرٌ بأن يسبب تداعيات جسيمة على الأمن القومي الأمريكي، وسياسة أمريكا الخارجية، فضلًا عن تهديده لمنطقة الشرق الأفريقي برُمَّتِه، وشدَّد أن ما يحدث داخل إثيوبيا ما هو إلا انتهاك صريح لحقوق الإنسان؛ لما فيه من «عنف، وعنصرية إثنية»، وفي صدد تهدئة الوضع، ووقْف القتال بإثيوبيا، أرسلت أمريكا مبعوث سلامٍ خاصٍّ إلى شمال إثيوبيا، وهو «أوروهو كينياتا».
موقف الأمم المتحدة:
وظَّفت الأمم المتحدة المعونات الخارجية في «الإقليم» – شبه يعاني من المجاعة – كورقة ضغطٍ على «إقليم تيجراي»؛ لوقف تقدُّم قوات «الإقليم» نحو أراضي «إقليم الأمهرة»، وكان لهذا دور كبير في تحوُّل وتيرة الصراع.
• المرحلة الثانية:
عملية المفاوضات
في الآونة الأخيرة، أعلن متمردو «إقليم تيجراي» بإثيوبيا استعدادهم للانخراط في محادثات سلامٍ، يقودها الاتحاد الأفريقي؛ لكي تضع الحرب أوزارها، في منطقة استُؤنفت بداخلها الحرب لسنتيْن، وقد أبدى الاتحاد الأفريقي بهذه الخطوة احتفاءً كبيرًا، ووصفها بأنها خطوةٌ فريدةٌ نحو السلام.
وهذا الإعلان جاء وفقًا لجهود «دبلوماسية – دولية» في إطار السلام، وأيدت إثيوبيا ذلك بشدة، وأكد وزير الدولة لشؤون السِّلم الإثيوبي، أن هذا الموقف لـ«إقليم تيجراي» يشير إلى مزيدٍ من التطور، وفي هذا السياق المتصل، دعا الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش» الأطراف، باغتنام الفرصة للسلام، وقد طالب زعيم «جبهة تحرير تيجراي»، الأمين العام للأمم المتحدة، باستئناف وصول المعونات الغذائية لـ«إقليم تيجراي»، فضلًا عن عدم وجود أطراف مُتحيِّزة لحكومة «أديس أبابا» في عملية المفاوضات.
هل سيتمكن الاتحاد الأفريقي من الوصول إلى مفاوضات ناجحة بين حكومة «أديس أبابا» ومتمردي «تيجراي»؟
بشكلٍ عامٍ، ليس من مصلحة كُلٍّ من «الحكومة الإثيوبية، ومتمردي إقليم تيجراي» استئناف القتال فيما بينهما؛ لما يجنيه من عواقب جسيمة، ولا سيما في ظل تنبؤات الأمم المتحدة، بزيادة حِدَّة «الجفاف، والمجاعات» مستقبليًّا، فـ«الجفاف، والصراع» يجعلان البلاد على شفا حفرة من الهلاك، ولكن بطبيعة الدول القائم نظامها الاجتماعي على الإثنيات، فإن تغليب المصلحة الوطنية أمرٌ ليس بشائعٍ، خاصةً بدولةٍ على غرار إثيوبيا، والتناحُر بين إثنيتيْ «الأمهرة، والتيجراي» على الحكم، وبالتالي، فمن الممكن، النظر إلى خطوة الدخول في مفاوضات تحت قيادة الاتحاد الأفريقي من قِبَلِ «إقليم تيجراي» أمر غايته استئناف المعونات الغذائية إلى «إقليم تيجراي»، وتدلو رغبة الحكومة الفيدرالية بالانخراط في مساعي سلامٍ إلى ظهورها في المشهد الدولي، بصورةٍ حميدةٍ سلميةٍ؛ لتتجنُّب سيْل العقوبات الأمريكية، وتجدُر الإشارة إلى أن الاتحاد الأفريقي لا يستطيع إنجاز أيّ تقدُّمٍ حقيقيٍ؛ لأن «أديس أبابا» هي مقرُّه، وهناك تطويع لأعماله دائمًا؛ لصالح الحكومه الإثيوبية.
ومن ناحيةٍ أُخرى، فلم يستطع الاتحاد الأفريقي من الوصول إلى تسويةٍ نهائيةٍ، تعمل على تهدئة واستقرار الأمور؛ نظرًا لتمسُّك كلا الطرفين بحقوقهم: فبالنسبة لـ«إقليم تيجراي»، يحرص كل الحرص على رفْع حصار الحكومة المركزية على «الإقليم» المقيم منذ أكثر من ثمانية أشهر، فضلًا عن استرداد أراضيها، التي استولت عليها إدارة «إقليم أمهرة»، منذ ٢٠٢٠، ومن ناحيةٍ أُخرى، رفْض «الجبهة» الشديد لمشروع «آبي أحمد»، بالتحوُّل نحو المركزية؛ لأنه بذلك سيكون «إقليم تيجراي» بعيدًا عن المشهد السياسي، وإمكانية الوصول إلى السلطة مجددًا، سيكون غير ممكنٍ، فبالتالي، من الصعب أن توافق «جبهة تحرير تيجراي»، بالانخراط داخل مفاوضات لقطع رأسها.
وبالنسبة لحكومة «أديس أبابا»، فإنها متمسكة بشدة على إقصاء «تيجراي» عن المشهد السياسي، وفي هذا السياق، فمن المحتمل، عدم رضاها على ما تتوصل إليه التسويات؛ حيث إذا تواجد متمردو« إقليم تيجراي» في المشهد السياسي، فلم يتوقفوا في الصراع؛ حتى يستردوا السلطة مرةً أُخرى؛ لذلك فإن رؤية «آبي أحمد»، بكبْح نفوذهم، وإقصائهم، سليمة بالنسبة لمصلحته، وعلى صعيدٍ آخر، فالتقارُب الإيريتري مع «إقليم تيجراي» يُثير حفيظة «آبي أحمد»؛ بسبب ضعف قوة حكومة «أديس أبابا»، أن تقاتل – بمفردها – متمردي «تيجراي»، ولا سيما بوجود داعمين لتلك «الجبهة» في كلٍّ من« إثيوبيا، وإيريتريا»، فذلك الأمر يشهد تعقيدًا كبيرًا في إثيوبيا، ولذلك التعقيد تهديدات على دول الجوار، ومن المحتمل، أن يتم الوصول لهُدْنةٍ مؤقتةٍ لتهدئة الوضع، واستعادة المعُونات الغذائية لـ«إقليم تيجراي»، وتجنُّب فرْض ضرائب على البلاد، ثم خرْقها مرةً أُخرى واستئناف القتال.