الهُويّةُ الوطَنيّةُ طَريق التَّصَدي للتحديات الدُّولية

حسام عيسى 

باحث بالعلوم السياسية و العلاقات الدولية 

إن الهُوية  الوطنية مُكونة من أغَلبية الهُوية الفردية للمجتمع بشكلها الجمعي؛ حيث إن الهُوية الوطنية مَن مُحددات الهُوية الفردية والرَافد الرئيسي لها أيضًا؛ لذا تكون مُكونات الفرد والمجتمع من نفس الروافد  (اللغة والدين والعادات والتقاليد والثقافة)، وأن مُجمل هُويات الفردية هي المُكونة للهُوية الوطَنية، فتُنتج السلوكَ العام للمُجتمع، وسماته الأساسية من أُسلوب الحياة بالتَّعلم والعمل والتعَامل، وينتج السلوك والخصائص بالتعامل مع الأزمات؛ ليُنتج مدى ارتباطه الأُسري والمجتمعىِ؛ ليعطى درجةَ الانتماء و الولاء للدولة التي ينتمى إليها؛ حيث إن مفهوم الهُوية الوطنية هي الخصائص والسمات التي تتميز بها الدولة ومؤشر الانتماء لدى أبنائها، وبدونها تفقد الدول معني وجودها.

إضافةً لمحددات الهُوية الوطنيَة الموقع الجغرافي الذي يوفر الاستدامة والتنمية ويُظهر سِمات الهُوية بشكل واضح مؤثر إيجابيًّا بالمُجتمع، وأن الاستعمار والصراع من العوامل المُغيرة بالسلب التي تفْقد الهوية معانيها وفوائدها؛ حيث إن تلك الهُوية التي تنتج  تاريخًا مشتركًا عابرًا للأجيال بين أفراد المجتمع الذي يوضح  مدى تلاحم الهُويات الفردية بتحقيق أحلام وطموحات وتنمية أو حماية مشتركة من عدمه، من خلال (عادات و تقاليد ولغة ودين) متناغمة، وكلما تعاونت وتصالحت هذه المفردات مع بعضها، كلما أثر إيجابيًّا بالمجتمع ببناء تاريخ تنموي خالٍ من الصراعات . 

حيث يوضح العالم “فريدريك راتزال” الألماني الجنسية بكتابة “الجغرافيا السياسية” عام 1897 – إن الأرض والإنسان معًا يمثلان كائنًا حيًّا واحدًا ينمو ويكبُر، ومن أهم مُقومات بقائه ونموه وقوته، هو المجتمع بتجانُسه وتلاحُمه وتناغم عناصر هُويته، بالتعايش والتناغم لكل من (اللغة و الدين) وإن اختلفت؛ حيث إن العادات والتقاليد والثقافة هي البوتقة التي تنصهر بها كُل هذه الخلافات؛ لتنتج الانتماء والولاء والتنمية للجميع، ويُظهر ذلك مفهوم المصلحة؛ ليصبح المفهوم الأساسي للهُوية الوطنية؛ حيث تجتمع الأغلبية بمصالح مشتركة يتصدرها الأمن والحمَاية والاستقرار والبَقاء أولًا، ثم تحقيق باقي الرغبات المجتمعية، من حيث أهميتها للأغلبية، وبذلك تكون الهُوية بمُفهومهَا للإنسان والمجتمع مُرتكزة بشكل أساسي على الوَعي والإدراك.

و كمَا أكد جمال حمدان بكتابه “شخصية مصر – عبقرية المكان” – الجزء الثاني – أن المكان بجغرافيته وموقعه يتفاعل مع الإنسان المصري بتناغم قوي؛ ما أنتجَ الهُوية الحضارية عندما كانت هناك تنمية مُستدامة واستقرار وتجانُس مُجتمعي مَادي وثقافي، والذى أمَد هذه الحضارة هو الموقع الجغرافي بخصائصه التنموية من أرض خصبة ومَناخ وموقع هذهِ الخصائص جَذبت الإنسان بتجانس وتناغم بتحقيق حضارةٍ تنويريةٍ أفادت البشَرية جمعاء، كان ذلك من هُوية حضارية نابعة من أغلبية المجتمع الذي أعَطى قوة لبناء الدولة المصرية القديمة . 

إن الهُوية الوطَنية تُمثل عمودًا فقريًّا للدول؛ لشمول مُكوناتِها على العناصر الأساسية المُحددة لشخصية المُجتمع، تِلك المُكونات المتمثلة بـ(اللغة والدين والعادات والتقاليد والثقافة)، هي عامل الاستقرار المجتمعي، ولكن يظل السؤال ماذا تُقدم تِلك الهُوية الآن؟ .

كما قال العالم “رتزال” بكتابه “الجغرفيا السياسية”: إن الدول كائن حي يُولد ثم يكبر ثم يشيخ، وإن مكونات الهُوية ومدى قُوتها وصَلابتِها وعُمقها بوجدان وعقل المُجتمع قادرةٌ بخلق القوة من رحم الشيخوخة؛ لتنمو وتكبر وتَقوى، كما تستطيع تلك الهوية إبقاء الدول بقوة ونضارة الشباب لأطول فترة مُمكنة.

كما أن الهُوية عندما تنمُو وتَنضج بثقافتِها ووعيها تؤثر بالتبعية بالمحيط الخارجي والإقليمي؛ لتصدر تِلك الهُوية ومُكوناتِها خارج حدودهِا؛ لتُزيد من قوتها، و تتوغل بداخل الثقافات والهُويات الضعيفة وتمتصها فكريًّا؛ لتكون خاضعة لإرادتها محققةً مصالح الهُوية الأقوى، وإن عجزت تسعى لخلق استقرار إقليمي؛ لتنمو تلك الهُوية و تكبر، أي أن الاستقرار هو التُربة الخصبة لنمو الهُوية، سواءً داخل المُجتمع أم خارجه،  فكلما كانت الهُوية قوية مُجتمعيًّا بالداخل، خلقت الاستقرار الإقليمى، وحققت النمو المجتمعي؛ بهدف الاستمرار والإنماء والتطور، مُحققةً حالة من الرضا المجتمعي.

حيث تؤكد النظرية البنائية، أن الهُوية هي المُكونة للمصلحة القومية والمحافظة والمحققة للأمن القومي؛ حيث يرى أصحاب النظرية البنائية، أن بنية البيئة الدولية بنية اجتماعية، مكوناتها مجموعة من القيم والقواعد تؤثر بالهُوية، كَما أن هُويات الدول تؤثر ببنية البيئة الدولية بتفاعل مستمر بشكل الكائن الحي، وأن ذلك يدحض فكرة النظرية الوضعية المتمثلة بالنظرية البنيوية لصاحبها “كينث والتز” التي تؤكد أن هناك “قوانين تحكم بنية المجتمع، وأنها ثابتة ولا تتغير” حيث تؤيد البنائية فكرة راتزال، بأن الدول كائن حي، وأن البيئة الدولية مُكونة من مجموعة من الكائنات الحية؛ لذلك تتغير البيئة الدولية بتغير هويات الدول وبمن يتحَكم بالبيئة الدولية بمكونات الهُويات لكل دولة على حدة، و مدى قوة تفاعلِها الإقليمي والدولي معًا؛ لتفرض الاستقرار إذا كان بصالحها أو عدمه إذا كان مضرًا لها.

v   لذا أرى بأن الهوية هي الرابط بين الفرد و المجتمع لتكوين الهوية القومية للدول، وأن الهوية القومية للدول هي المكونة للبيئة الدولية وأن الفاعل الرئيسي بالعلاقات الدولية هي الدول القومية، وأن الهُوية الوطنية هي المحققة للهُوية الحضارية.

v    هذا الاستنتاج أقره العلماء بشكل عبارات منفصلة تؤيد الرأي.

–  لقد أقر العالم أنتوني جيدنر بكتابه (التشكيل البنائي) عام 1984 –“ Constructional Collection”

أن العملية البنائية للدول تتأثر بشكل كبير بهُوية الفرد وبناء المجتمع ويؤثر بهُوية الفرد وكلاهما مؤثر ومتأثر بالآخر.

– كما يشير العالم “فريدريك كروتشويل”  أن مُكونات الهُوية الوطنية هي الباعث للحياة للمُجتمعات، وأن المجتمع بلا هُوية يكون بلا روح ولا شخصية، وأن الهُوية تؤسس معيار التصرف، وتحدد الأهداف أيضًا.

– ويقر أيضًا العالم أرنولد توينبي بكتابه “دراسة التاريخ “بنظرية التحدي والاستجابة “Theory Response and Challenge  “أن الهُوية هي القادرة باستيعاب الأزمات، وبناء الثقافات والمجتمعات .

– كما يرى إيمانويل أدلر Adler Emmanuel أن الهُوية تبنى من خلال عمليات التنشئة الاجتماعية والتعلم والمعرفة؛ ما يساهم برسم الواقع الاجتماعي للدولة والبيئة الدولية، لقد جاء أدلر بمفهوم الإقليم المعرفي “كجماعة متخيلة” فالإقليم المعرفي مرتبط بالوعي الإقليمي الذي يُبنى من خلال الهُوية لكل دولة، ومن خلال العملية السياسية التي بواسطتها تخضع الإقليم بهويتها؛ لذا يكون الإقليم وحالته السياسية من محددات الهُوية للدول والإقليم، كما قال: إن الهُوية هي المحددة للمصلحة القومية وتشكيل أهداف المجتمع . 

– حيث لخص الدكتور شحاتة صيام بكتابه “النظرية الاجتماعية” عام 2009 مفهوم نظرية الانعكاسية، من حيث تبادل التأثير بمحددات سلوك الفرد المتمثلة بالهُوية وبين المجتمع الذي يكون هُوية حضارية تعكس هُوية الفرد على المجتمع  وأيضًا تعكس هوية المجتمع على الفرد بلغة انعكاسية، كلٌّ منهما للآخر، وبالمثل هناك علاقة انعكاسية بين الهُوية الوطنية للدول وبين البيئة الدولية، فكل منهما يؤثر بالآخر، ولكن درجة التأثير تأتي لمن له القوى الأكبر.

– هنا تتداخل النظريات التحليلية بالتأثير والتأثر فيما بين النظرية الواقعية ومرادفاتها والنظرية البنيوية ومشتقاتها والنظرية الاجتماعية وتحديثاتها بمدى تأثيرها بالهُوية وبروافدها؛ لتؤكد مدى الارتباط الوثيق بالتحليل السياسي للدول لقياس المدى المؤثر الأقوى على متخذ القرار، وكيف يصنع هذا القرار وعلى أي الأُسس يجمع الاختيارات وكيف يختار بينهما؟.

–  كما يؤكد “توماس هوبز” – من رواد الواقعية الكلاسيكية – أن الدوافع البشرية المتكونة من روافد الهُوية الرئيسية من (لغة ودين وثقافة وتقاليد) هي المحددة لتصرفات وسلوك الدول بالبيئة الدولية الفوضوية.

–  وكتب أيضًا الفيلسوف توماس هوبز بكتابه “الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة”، ويدور الكتاب حول شرح بنية المجتمع وشرعية الحكومة، ويُعتبر واحدًا من أوائل الأمثلة المؤثرة بنظرية العقد الاجتماعي التي تعتمد على المادية؛ حيث إن علاقات الأفراد والدول متشابهة، وهي تقوم على أساس الصراع، والذي أقر فيه أن أساس الصراع بالمجتمع هو الفرد ومعتقداته ودوافعه هي بذاتيتهِا من روافد الهُوية.

–  لقد أثبت “سكوت بورتشيل” بكتابه “نظريات العلاقات الدولية” أن ثقافات الأفراد هي مُكونة لثقافة الدولة، والدول هي التي تُكون طبيعة البيئة الدولية الفوضوية، وهي المحددة بطبيعة التعامل بينهما.

–       كما أكدت الأيديولوجية الليبرالية، سواءً الكلاسيكية أو الجديدة بارتكازها على الفرد بحريته بالتعامل وتكوين المجتمعات بحرية إبداء الرأي والتصرف، وأن الدولة هي من تُعطي الاستقرار من أجل الفرد .

-كما يقر “جان لوك” الفيلسوف الإنجليزي بنظريتة “الحالة الطبيعية” من أن الفرد هو المحدد للحالة السياسية و طبيعتها، وله حرية الطابع الاقتصادي دون قيود، وأن الفرد هو المُكون الحقيقي للدولة؛ لذا فثقافة أغلبية الأفراد هي المحددة لطبيعة الدول، وهي أحد روافد الهُوية؛ لذا تقدم الليبرالية بأشكالها التي تدعم الهُوية، ولكن بمنظور مختلف؛ حيث تقدم أيديولوجية فكر بطريقة تعامل المجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا.

– إن بدايات التيار الليبرالي أو المثالي كأول توجه أيديولوجي بتحليل العلاقات الدولية، ربما يجد أحد أهم أصوله التاريخية بكتاب الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط Kant Immanue l؛ بكتابه “السلام الدائم” والذي تناول كانط  فكرة السلام العالمي بمختلف زواياها. لقد كانت النظرية المثالية الطوبية والتي تأسست على قناعة أساسية، بأن البشر ذوو طبيعة خيرة، وليست لديهم الرغبة بالدخول بصراعات من أي نوع، ثم إن السلبيات التي جلبتها الحرب ستدفع الناس لحل خلافاتهم عبر التفاوض والحوار؛ حيث إن الطبيعة البشرية مكونة من مفرادت الهُوية (الثقافة والمعتقدات والدين) المكونة لدوافعه.

–  الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط – أحد رواد النظرية الليبرالية الذي يعتمد فيها على الفرد ببناء مجتمع دولي مثالي مرتكزًا على هُوية الفرد بثقافته وإعطائه الحُرية الكاملة بالتصرف، وأن تلك الثقافة والمعتقدات هي الدافع بتكوين المجتمع المتعاون الذي يُرسي العدالة الاجتماعية، ويدعم حُرية الفرد بكافة مناحي الحياة، سواءً بالمجتمع الدولي أو ببناء الدولة وعلاقة الفرد بداخل المجتمع ذاته.

– كما يؤكد علماء ورواد النظرية الليبرالية ارتكازهم على الفرد أي على هُويته بصورته الطبيعية، وأن رغبات أغلبية الأفراد هي المكونة لنظام الدول، والدول هي التي تفرض نظام البيئة الدولية، أي أن الفرد هو أساس البيئة الدولية، وهو المكون الأساسي للهُوية الوطنية.

– وصفت الليبرالية الإنسان كمخلوق يتميز بالعقل، ولديه قدرات تؤهله للتغلب على أسوأ المظاهر السيئة التي تنطوي عليها بيئته الطبيعية والاجتماعية، من خلال إعمال حصيلته المعرفية دومًا، أما المشاكل الاجتماعية كالحرب، فمرجعها إما لعدم توافر المعلومات أوأخطاء بالسلوك والتصرف، وأن الإنسان بطبيعته باحث عن الكمال والإصلاح حسب النظرية الليبرالية، أو على أقل تقدير هو كائن إصلاحي أو راغب دومًا للإصلاح  أكثر من التشاؤم (من أقوال الليبراليين)، ويقول “كيكاثيس”: إن الليبرالية تتأسس بتقييم متفائل للإنسان وقدراته، أو كما يقول ديفيد سيدورسكي David Sidorsky” : حين ننظر إلى الليبرالية كعقيدة علمانية تتمحور رؤيتها حول ثلاثة مفاهيم رئيسية هي:   حرية (الإنسان والمجتمع والتاريخ)، وهي ببساطة تنظر للإنسان باعتباره كائنًا توّاقًا للمؤسسات الاجتماعية، وقائمة بممارسة عملية الاختيار العقلاني الرشيد، وهذا يدل بطياته بأن الاعتماد الكلي للنظرية الليبرالية تقوم بمفرادات الهُوية “الثقافة والمعتقدات” فهي المحركة للأفعال بعلاقاته بين الأفراد بالمجتمع وبين الفرد والدولة وعلى ركيزة أن الفرد أساس المجتمع.

– ولقد استمرت أفكار المدرسة الواقعية، تمارس سيطرتها ونفوذها بحقل العلاقات الدولية، لكن بنهاية السبعينيات من القرن العشرين، عرف المنظور الليبرالي تطورًا كبيرًا، خاصةً بعد إصدار كتاب “روبرت كيوهان” و”جوزيف ناي”  -بعنوان   International and world politics”” وتطور العلاقات الاقتصادية الدولية وتشابكها، أدى لتراجع العلاقات الإستراتيجية والعلاقات ما بين الدول لصالح علاقات عبر القومية، فالليبراليون يرون بأن سياسات العلاقات الاقتصادية الدولية واقتصاديات العلاقات السياسية الدولية، أي الموضوعات التي تبرز بنطاق التعاون أو التصارع بين الفاعلين الدوليين، بسعيهم نحو تحقيق أهداف الرخاء والثروة، تمثل محورًا أساسيًّا بمحتوى السياسات الدولية، والتي أقرت بأهمية الفاعلين الغير رسميين، خاصةً الشركات متعددة الجنسيات المتحكم فيها الأفراد والجمعيات والمنظمات الغير حكومية، المتكونة بطبائع الأفراد وهويتهم، وهنا ترجع النظرية الليبرالية بأهمية تكوينات الهوية وتكويناتها النابعة من رغباتها.

–  كما اعتمد “جوزيف ناي” بكتاباته عن القوة الناعمة المرتكزة على التعامل الفكري ومخاطبة الوجدان والثقافة، بأن لها تأثيرًا كبيرًا بالأفراد والدول، وبذلك يقر جوزيف ناي بأهمية مفردات الهوية بتأثيراتها الكبيرة بالفرد والدولة ومتخذ القرار.

–  كما أثبتت الأحداث العالمية أهمية فوائد الهُوية بتقديم قيمة الولاء والانتماء والتضحية، والتي أثبت فيها قصور النظرية البنيوية بالاعتماد الأوحد على الواقعية المادية المتمثلة بالقوة المُترجمة لأرقام، حيث أثبتت أحداث حرب أكتوبر بين مصر و إسرائيل، أن معيار القوة ليس هو الفاصل بتحديد الأقوى، واستطاع الجيش المصري الأقل بالإمكانيات العسكرية، بتقديم مَلحمة تجلت فيها روح الانتماء والولاء وانتصار الجيش المصري الأقل إمكانية عسكرية على الجيش الإسرائيلي الأكثر قوةً وإمكانياتٍ عسكريةً، كما قدم الجيش  الفيتنامي دليلًا قاطعًا بانتصار قوة الولاء و الانتماء على القوة العسكرية الأمريكية، وهزيمة القوات العسكرية الأمريكية بحروب دامت أكثر من عشرين عامًا منذ 1955 حتى إعلان انتصار الجيش الفيتنامي عام 1975.

–  إن “كارل ماركس” و “فريد ريك إنجلز” ينشدان بالأيديولوجية الاشتراكية دراسة الإنسان الفعلي، الإنسان الحي، الإنسان بالتاريخ، وأنهما يؤكدان بفعالية الإنسان (العملية، الثورية)، التي ستغير الإنسان نفسه من جراء تغيير الشروط الاجتماعية التي يحيا فيها.

– إن وجود البشر الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم الاجتماعي، تلك الأيديولوجية المعتمدة على تغير الثقافة لتغير الهوية لبناء مجتمع آخر معتمد على بناء هوية أُخرى بدوافع فكرية؛ لتكوين مجتمع آخر ترى فيه الأفضلية.

–  كما قدم ” كارل ماركس” الأيديولوجية الاشتراكية، بأنها مجموعة أفكار تعمل بتغيير الفكر والثقافة لتغيير المُجتمعات، أي اعتمد على تغير هُوية المجتمعات بطريقة تناولها بإدارة الدول؛ حيث رسخ ماركس الهُوية الوطنية، كتب ماركس: “ليس الوعي العام للناس هو مايحدد وجودهم، ولكن الوجود (الاجتماعي – الاشتراكي) هو ما يحدد وعيهم، والذى يقر فيه أن تغير المجتمعات يأتي بالثقافة والأفكار والمعتقدات، وأن الفرد وحده ليس قادرًا بتحقيق الأفضل، وإنما بشكل جماعي، أي بتكوين الهُوية الوطنية القادرة بتحقيق التغيير شرط الإيمان بمعتقدات أغلبية المجتمع لتغير طبقاته الاجتماعية .

– من أقوال فلاديمير لينين – المثقفون هم أقدر الناس على التغيير؛ لقدرتهم على تبريرها، و من خان رفيقه فقد خان المجتمع – أي أن  الثقة المجتمعية بين الأفراد هي أساس القوة  وبالسياسة لا فرق بين خيانة بسبب الغباء أوخيانة بشكل متعمد ومحسوب، والمثقفون أقدر الناس بمعرفة الظلم، حيث صوت الرجل بمفرده لا يبلغ مسامع الشعب كله، هذه إشارة لاعتماد الأيديولوجية الاشتراكية على روافد الهُوية بتغيير الفكر المجتمعي ومدى الأهمية القصوى للهُوية الوطنية المحددة لكيان الدول. 

 كما يتضح أن رؤية “هانز مورجنثاو” رائد النظرية الواقعية لدور القوة بالسياسة الدولية التي لا  تُفصل عن دورها بتحريك سلوك الإنسان، كما أن الطبيعة البشرية – صلب نظريته بالسياسة الدولية – هي من وراء كل شيء آخر، أو على حد قوله: “بالطبيعة البشرية تجد القوانين الحاكمة للسياسة الدولية جذورها”، وكذلك “العالم هو نتاج للقوى الكامنة بالطبيعة البشرية”. والطبيعة البشرية لديه تتسم بالأنانية، والرغبة الجامحة بالقوة لحد الشهوة، كما أن جوانب الفجور المتأصلة بالنفس الإنسانية مهيمنة على كل أعمال الإنسان، أو بحد قول مورجنثاو: “إن الرغبة الخالدة بالقوة  تعكس أعمال الإنسان، وأن الطبيعة البشرية مصدرها روافد الهوية، وهي المكونة لتلك الطبيعة البشرية.

– كما أكد “هانز مورجنثاو” بكتابه السياسة بين الأمم، أن الدعامات الرئيسية بالتحليل الواقعي للسياسة الدولية؛ حيث تعتقد الواقعية أن الظواهر السياسية، شأنها شأن غيرها من الظواهر الاجتماعية، تحكمها قوانين موضوعية تجد جذورها بالطبيعة الإنسانية ذاتها، وأن الواقعية السياسية تقر بأهمية القيم الأخلاقية؛ إذ بينما قد يضحي الفرد بحياته بسبيل أسرتة و قبيلته ووطنه، تجد الدولة أعظم مبادئها الأخلاقية بضمان البقاء والاستمرارية، هذه التضحية والقيم الأخلاقية من فوائد الهُوية ونتائجها، وبدونها تعجز عن الوقوف أمام تحديات البيئة الدولية، فتزول تلك الدول التي بلا هُوية وطنية.

–   من المنظور الواقعي، مثلت الطبيعة البشرية عنصرًا مركزيًّا للعلاقات الدولية كما يشير “مايكل جوزيف سميث”  بتحليله عن الفكر الواقعي، فإن الواقعيين يفترضون تمكُّن نزعات الشر من النفس الإنسانية، وشيوع العداء الشامل بين بني البشر، وهذا التحليل يتفق عليه الواقعيون، حسب سميث، ومكون الطبيعة البشرية هي الثقافة والعادات والتقاليد وحالة الاستقرار من عدمه بالمحيط الإقليمي (الهُوية الوطنية).

–        ثم تأتي النظرية البنائية كأداة لتحليل العلاقات الدولية  بكتاب “نيكولاس أونف” عام 1989، ومن بعده ألكسندر ويندت، وأظهر أهمية مشكلات الهوية بالعلاقات الدولية المعاصرة؛ حيث إن قوام هذا المدخل بإيجاز، هو أن العوامل الاجتماعية تؤثر بالتفاعل البشري، والبناء الاجتماعي يساعد بتشكيل مصالح وهويات الفاعلين من أفراد ودول، كما أن (الفاعلين والبناء) يعمل كل منهما بتأثير متبادل بينهما؛ حيث إن مقدارات المجتمع والدول  هي أمُور تم بناؤها اجتماعيًّا، وبالتالي، فبالمقدور تعديلها عند الضرورة؛ لذا تهتم  البنائية  بالتأثير على  الأفكار، فهي تنتج المصالح وهُوية الدولة باعتبارهما طبيعيّان لعمليات تاريخية محددة، ويهتم البنائييون بتحليل طبيعة الخطاب السائد بالمجتمع، باعتباره عاكسًا ومُشكِّلًا للمعتقدات والمصالح، ومُحددًا القواعد المقبولة للسلوك. فمثالهم، يفسرون التغيرات الجذرية التي أحدثها جورباتشوف بالسياسة الخارجية السوفييتية، باعتناقه الأفكار الجديدة، التي غيرت فكر قيادة الدولة، وأثرت بتوجهاتها بسياستها الداخلية وعلاقاتها الدولية، ومن خلال هذا الفكر الجديد، تكونت الهُوية الروسية ما بعد الحرب الباردة، من هذا المنطلق، يوجه الفكر البنائي، أننا صرنا بصدد عصر يتحدى المعايير القديمة؛ حيث الحدود والسيادة  بين الدول، والتي أوجدت دولًا آخذةً بالتلاشي، وقضايا الهُوية أضحت من أكثر القضايا ببؤرة الاهتمام بظل عالم ما بعد الحرب الباردة، هي كيفية نشأة الهُويات، التي تحدد بها الجماعات البشرية هُوياتها ومصالحها والأفكار وتطورها، وكيف أنها تشكل وسيلة الدولة لفهم المواقف الدولية والتعامل معها؟.

–   بمعنى هل هي بقوميات الدول أم برابطة الاتحاد الأوربي؟ وهل  يربط الألمان واليابانيون أنفسهم باعتبار ماضيهم التوسعي، وبالتالي يتطلعون لدور أكبر بالساحة الدولية؟ وهل ينظر الأمريكيون لأنفسهم باعتبارهم الشرطي و الحاكم العالمي؟ من الذى يقود أفعال الدول و توجهاتها الخارجية وهل هوياتهم هي من تحدد مصالحهم و تقر أفعالهم؟.

–        جوهر نظرية “ألكسندر ويندت” للسياسة الدولية يتمثل بمسعاه الفكري لتطوير نظرية النظام الدولي، بأنها “بناء اجتماعي” ونظرية “ثقافية” بالأصل للسياسة الدولية، تفسرها “البيئة الدولية” المختلفة، التي شيدتها الدول نفسها، وهي نظرية اجتماعية من ظواهر ثقافية لبناء الهوية؛ لتكوين هيكلية النظام الدولي، وهُويات الدول ومصالحها تشكل جزءًا مهمًا من هذه الهياكل الاجتماعية والهُويات والمصالح؛ حيث إن مفهوم “الهُوية” يلعب دورًا حاسمًا بالتفاعُلات بين الأشخاص والعالم، ويعرفها “ويندت” بأنها “خاصية للجهات الفاعلة الرئيسية التي تخلق تصرفات تحفيزية وسلوكية”، والتي تتجذر بـ”فهم الذات” ومن ثم “الهُوية المشتركة أو النظامية”؛ إذ يؤكد أن الهُوية ليست ظاهرة حدودية، بل هي مكونة لعدد من الهُويات، منها هُوية الفرد التي يشكلها “التنظيم الذاتي الذي يميز الذات عن الآخر”، وبما أن بناء هذه الهُوية بالجهات الفاعلة الشخصية ينطوي على الشعوربـ”أنا”أو الذات الشخصية، من خلال عمل الوعي والذاكرة، فإن بناءها بالجهات الفاعلة مثل الدول يتطلب شعور”نحن” أو”الجماعة الذاتية” من خلال تشكيل من السرد المشترك “لأنفسنا”، ووجود “ذاتي وراثي”، وهي من تكوِّن الهُوية الاجتماعية المكونة للخصائص المشتركة والصفات السلوكية ومن داخلها القيم والمعتقدات والخصائص المشتركة فكريًّا، وهي من تضع قانونها الخاص الحاكم بها ولتصرفاتها، تلك الهُوية الاجتماعية تتواصل وتتفاعل مع مثيلاتها، وتكون هُوية الدولة، وتلك الهُوية التي تحدد السلوك والتصرف بالأفعال، والتي تقر قانونها ودستورها الحاكم بعلاقاتها الداخلية ونظام الحكم وطبيعة العلاقات بين الدول الأُخرى خارج حدود سيادتها، تلك الهُوية التي تعتمد على الثقافة والتوقعات المشتركة، ومن ثم فهي موجودة “فقط فيما يتعلق بالآخرين”، وبالتالي لا يمكن أن تسند وحَدها من تلقاء نفسهِا، ولكن يتحقق من خلال احتلال مواقع بـ”هيكل اجتماعي” ومراقبة “القواعد السلوكية” تجاه الآخرين؛ حيث إن تشكيل الهُوية الجماعية تتكون بدمج الذات وغيرها بـ”هُوية واحدة”؛ حيث تحدد الجهات الفاعلة رفاهية الآخرين كجزء من الذات.

–  فإن المصالح تعين الهُوية، من حيث إن المفهوم الأساسي للهُوية هو المصلحة، وهي الجامعة للهُويات المختلفة متداخلة داخل الدولة وجامعة للهُوية الشخصية والهُويات الاجتماعية المختلفة؛ لتكون هُوية الدولة؛  لتنتج المصلحة الوطنية التي تعبر عن احتياجات الهُوية الحضارية النابعة من الثقافة والفكر والمعتقدات ومحققة  طموحات تلك الُهُوية الاجتماعية الممثلة لهوية الدولة؛ لتصبح المصلحة الاجتماعية هي المصلحة الوطنية، وأن ما تحققة المصلحة الوطنية هو نفس المصلحة الاجتماعية.

–   كما أوضح ويندت أن “المصالح الوطنية” من حيث المصالح الموضوعية، مثل الوفاء “بمتطلبات  أمن مجمعات الدولة والمجتمع”، ويجادل بأن المصالح الذاتية للدول أو الأفضليات محددة جزئيًّا بأساس  “احتياجات أمنية معينة” أو مصالح موضوعية، وأن “الفشل المستمر بتحقيق مصالح ذاتية مع أهداف موضوعية، سيؤدي لزوال الدول .

–   لذا يتضح أن الهُوية هي المحدد الرئيسي للمصلحة القومية وإستراتيجية الأولويات؛ لذا فالهُوية المثالية تجمع بداخلها الهُويات الاجتماعية بداخل المجتمع الواحد، ومن يجمع هذه الهُويات بتباينها هو المصلحة، وإن توحيد المصالح والهُويات الاجتماعية يعطي قوة بتحقيق تلك المصالح، وبترتيب تحقيقها تتكون الهُوية الحضارية، عندما تتواءم وتتماثل الهُويات الاجتماعية بداخل الدولة الواحدة، تلك الهُوية المحققة لقوة الدولة والمنجِزة للتنمية والساعية للاستقرار والقادرة بالتصدي للتحديات الداخلية والخارجية، المنبعثة من البيئة الدولية.

–  “كلما كانت المصلحة متطابقة أو متماثلة بين المصلحة الاجتماعية والمصلحة الوطنية، كلما زادت قوة الدولة التي تكون قادرة بتحقيق تلك المصالح الوطنية؛ لتحقيق رغبات أفرادها” وتكوّن بذلك الهُوية الحضارية

v   لذا نستلخص من تلك الأفكار ونظريات التحليل السياسي وعلماء الاجتماع والسياسة 

 أن الهُوية الشخصية تتكون من (اللغة والدين والعادات والتقاليد والثقافة)،  هي المُكونة للهُوية الاجتماعية؛ حيث تتكَون الدول من عدة هُويات اجتماعية، مضافًا إليها جغرافية المكان و طبيعة الاستقرار الإقليمي؛ لتُكون هُوية وطنية؛ لذا تتكون الهُوية الوطنية الممثلة للدولة من روافد الهُوية الشخصية والموقع والاستقرار السياسي والإقليمى.

إن الأيديولوجية الليبرالية والاشتراكية تقوم على أساس مرادفات الهُوية، إما بإنمائها الطبيعي بالأيديولوجية الليبرالية أو بتغيير مفاهيم مرادفات الهُوية الأيديولوجية الاشتراكية .

إن ركائز نظريات التحليل السياسي من الواقعية الكلاسيكية والدفاعية والهجومية تعتمد على مفاهيم الهُوية وسلوكياتها، كما أن البنائية الاجتماعية ترتكز على مفهوم الهُوية بشكلها الخاص والاجتماعي .

إن قوة الدول من قوة هُويتها الوطنية؛ حيث تُمثل عناصر الهُوية مركز قوة للدولة من (لغة وثقافة وعادات ودين وموقع و استقرار والتجانس بين أفرادها، وبين الفرد ونظام الحكم).

 إن كانت الهُوية تتكون من خلال تراكم تاريخي وعدد من الثقافات والحضارات، فالمهم بالهُوية هو نتائِجها و فوائدها، وخاصة بتكوين المصالح المشتركة؛ لتقدم الانتماء والولاء والتناغم الفكري؛ لتُكون الهُوية الوطنية؛ لتستطيع  بـ(الموقع الجغرافي والاستقرار والإنماء)، تحقيق الهُوية الحضارية.

فللأهمية القصوى للهُوية الوطنية وروافدها، لابد أن تحظى باهتمام الدولة من حكام ومحكومين؛ حيث استُغلت من قبل الدول المعادية؛ لسلب الإرادة والتأثير بسيادة الدول، ونهب الثروات وتحقيق مصالحهم واستعباد شعوبهم .

أثرت التكنولوجيا والعولمة بسيادة الدول من التحكم بثقافة مجتمعاتهم وبعاداتهم، وتراجعت قوة الدول كفاعل أساسي بالبيئة الدولية، وصار للكيانات العابرة للقارات تأثيرات أقوى على الشعوب لصالح تلك الكيانات.

 تستخدم مرادفات الهُوية الوطنية بالحروب الحديثة بالإرهاب السيبراني الثقافي والمجتمعي لتغيير الهُويات ومحوها؛ لشرزمة الوحدة الفكرية للشعوب، وقتل الهُوية الوطنية، ومن ثمَّ الهُوية الحضارية.

تستخدم الدول ذات الفكر التوسعي جميع مرادفات الهُوية الوطنية؛ لخلق مناطق غير مستقرة، سواءً بالحروب أو بالإرهاب أو بالحروب العرقية أو بحروب الشائعات؛ لقتل الهُوية الوطنية .

على الدولة (حكومةً ومؤسساتٍ وأفرادًا) المنوط بهم مسؤولية التنشئة الاجتماعية، تكوين خطة قومية مستدامة؛ لخلق هُوية وطنية للدولة لتحقيق مصالح الفرد؛ من أجل تحقيق المصلحة الوطنية للدولة، وتكون أيضًا هي الحامية والمدافعة عن الهُوية الوطنية من مخاطر العولمة والحروب السيبرانية وجميع الحروب الأُخرى؛ لتكوين هُوية حضارية إنمائية محققة طموحات كل أفراد المجتمع الشخصية التي تحقق المصلحة الوطنية للدولة.

إن النظام السياسي القادر على تحقيق و ترسيخ الهُوية الوطنية بعقول ووجدان مواطنيها لهو أكبر دليل بشرعيته و قوته، والقادر بالوقوف أمام التحديات الدولية وتغيير مكانته بداخل النسق الدولي للأفضل؛ لتحقيق مجال إضافي لمحيط أمنه القومي.

لذا على الدولة الواعية العمل لبناء هُوية وطنية قادرة بالتصدي للتحديات الدولية، فكلما كان النسق الدولي يُقاد من خلال دولة واحدة، كلما زادت التحديات الدولية؛ لذا وجب على الدول الواعية بناء جيش قوي واقتصاد أقوى، وبناء هُوية وطنية تكون درعًا وقلعة حصينة تحمي الجيش والاقتصاد؛ لبناء هُوية حضارية قادرة بتحقيق التنمية والاستقرار والرخاء لكل أفراد المجتمع كافة .

 

 

 

كلمات مفتاحية