إعداد: جميلة حسين محمد
باحثة فى شؤون الإرهاب والتطرف
انعكس اشتعال القضية الفلسيطينية –القضية المحورية فى الشرق الأوسط– وتفشى العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة على الساحة الألمانية حيث تأججت المواجهات الفكرية بين المؤيدين والمعارضين للأحداث فى غزة ولسياسات الحكومة الألمانية الداعمة لدولة الإحتلال متجاهلين جرائم الاحتلال العنيفة، بما ينذر من تصاعد العنف وعودة الإرهاب المحتمل فى البلاد للحد الذى صرح فيه البعض بأنه التهديد الأكثر انتشارًا وتنوعًا، خاصة مع رصد بعض جرائم الكراهية والهجمات المصنفة فى إطار معاداة السامية والإسلاموفوبيا داخل المجتمع الألمانى ومؤسساته التعليمية على حد سواء، الأمر الذى دفع السلطات الألمانية إلى تعزيز الإجراءات والتدابير الأمنية لمواجهة هذا الخطر.
معاداة صريحة للفلسطينيين
تنتهج السلطات الألمانية موقف واضح يعتبر إسرائيل ممثلة فعلية ووحيدة لليهود، رافضة وقف إطلاق النار ولو لأسباب انسانية معلنة بذلك أن الفلسطينيين ضحايا للإرهاب الذي اقترفته حماس، ومؤيدة لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها معلنة عن جاهزيتها لتقديم مختلف أنواع الدعم العسكرى لإسرائيل كما صرح مستشار الحكومة الألمانية (أولاف شولتز)، حيث قامت الحكومة الألمانية بعقد صفقة تصدير سلاح إلى إسرائيل بقيمة 303 مليون يورو أي ما قيمته عشرة أضعاف ما كانت عليه في عام 2022. وتدعو من ناحية أخرى المنظمات الإسلامية داخل البلاد إلى إدانة الهجوم الذى نفذته “حماس” فى 7 أكتوبر، والتظاهر دعماً لإسرائيل مع رفض التظاهرات الداعمة لفلسطين والمطالبة بوقف إطلاق النار وقمعها.
كما توحدت غالبية الأحزاب الألمانية تجاه معاداة الفلسطينية ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة، ويستدل على ذلك قيام حزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى بإطلاق مسيرة تضامن لكل ممارسات إسرائيل، وأصدر الحزب بيان صريح يتضامن مع الهجوم الإسرائيلى، مع تجريم هتافات دعم فلسطين حيث صرحت نائبة رئيس الحزب (كارين برين) قائلة “هتاف “فلسطين حرة” ليس هتافًا بريئًا، إنما صيحة حرب لعصابة إرهابية”. أما حزب البديل من أجل ألمانيا المعروف عنه تجنب انتقاد المجازر النازية اشتهر أيضاً بسياساته المعادية للفلسطينية، والمتماثلة مع فكر العدوان الإسرائيلى.
تسيس معاداة السامية
تشهد ألمانيا بعد تصعيد الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ارتفاع فى حوادث معاداة السامية والهجمات التم يتم شنها على المؤسسات اليهودية خاصة فى العاصمة برلين، فضلاً عن تصنيف البعض للمظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطينىى باعتبارها معاداة للسامية، مما دفع الحكومة الألمانية بتكثيف وتعزيز الإجراءات والتدابير المبذولة لمكافحة معاداة السامية طبقا لتصريحات أحد المسؤولين “ضمان أمن إسرائيل ومواجهة معاداة السامية وحماية اليهود في البلد هي مصالح عليا لألمانيا”، من خلال توجيه اتهامات واضحة للمسلمين من معاداة السامية فى ألمانيا، مع تهديدهم بمحاكمتهم أمام القضاء وسحب الإقامة والترحيل لفصائل اللاجئين والمهاجرين منهم، فضلاً عن اتهامات المجموعات اليسارية الداعمة لفلسطين بمعاداة السامية، ودعوة المجتمعات الإسلامية فى ألمانيا إلى إلقاء الضوء على إدانة الإرهاب. الأمر الذى يعطى مساحة لخدمة الخطابات العنصرية التى تعارض نظرة الإسلام للإنسانية، وتوظيف معاداة السامية لخدمة مصالح حكومية تسعى لفرض الاستقرار فى البلاد والحفاظ على علاقاتها ومصالحها الخارجية.
تصاعد معدل الجريمة
وقد سجلت السلطات الألمانية فى برلين عدد من الجرائم المتعلقة بالصراع فى الشرق الأوسط، يرجع معظمها إلى التغطية الإعلامية المتحيزة للتطورات الأخيرة، و الدور السلبي الذي يلعبه السياسيون اليمينيون المتطرفون في نشر الدعاية، تنوعت تلك الجرائم ما بين الإضرار بالممتلكات العامة مثل تلطيخ جدران المنازل بشعارات مؤيدة للفلسطينيين أو مناهضة لإسرائيل، والتحريض على الكراهية ضد المسلمين واليهود بالتزامن مع امكانية شن هجمات إرهابية محتملة على خلفية التصعيد. وقبل الأحداث فى غزة أعلنت وزيرة الداخلية الألمانية (نانسي فيزر) زيادة نسبة جرائم العنف في ألمانيا خلال النصف الأول من عام 2023 مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضى بنسبة 17%. وبعد السابع من أكتوبر سجلت شرطة العاصمة الألمانية برلين وحدها، ما لا يقل عن 1199 جريمة من بينها 386 واقعة إضرار بالممتلكات، و 345 جريمة عنف، و 201 واقعة مقاومة ضد السلطات، و50 إصابة، و93 واقعة إثارة فتن أثناء المظاهرات، كما سجلت21 حالة إكراه وتهديد، بالإضافة إلى عدد غير محدد من جرائم أخرى. وعلى مستوى ألمانيا سجل المكتب الاتحادي للشرطة الجنائية أكثر من 2600 جريمة تتعلق بشكل رئيسي بالاعتداءات والإضرار بالممتلكات كالمساجد والتحريض على الكراهية. ولم تخلو المؤسسات التعليمية فى ألمانيا من مظاهر القلق والعنف والاشتباكات بين التلاميذ والمدرسين المصاحبة للتصعيد المستمر للصراع خاصة فى برلين حيث يقطن عدد كبير من الجالية الفلسطينية، مما أدى إلى حظر الرموز الفلسطينية داخل المدارس إذا استخدمت لتأييد أعمال حماس.
كما تلقت عدة مساجد ومنظمة إسلامية في برلين ومناطق أخرى سلسلة من الرسائل التى تحمل خطاب كراهية خلال الأيام القليلة الماضية. مما دفع بإجراء تحقيق فى الأمر هذا الشهر الجارى وفقاً لتصريح المتحدث باسم شرطة العاصمة الألمانية برلين.
وترتبط جرائم العنف والتهديدات الإرهابية بأفراد أكثر من الجماعات المتطرفة فى إطار ما يعرف بعمليات الذئاب المنفردة، التى يصعب رصدها وتعقبها مما يمثل نوع من الخطر واحتمالية تصاعد تلك التهديدات بوقوع مزيد من الهجمات التى يقف عليها متشددون إسلاميون و جماعات يمينية متطرفة، والتى يعتبرها البعض أعلى معدل للتهديدات التى تحيط المدنيين فى تاريخ ألمانيا.
واقع مغايير
فى إطار فرض قيود على مساندة الفلسطينين لم تستسلم مجموعات المقاومة الخارجية التى تشكلت من الشباب الفلسطينى والجنسيات المناهضة الأخرى ونظمت تظاهرات واحتجاجات أسبوعية فى مختلف المدن الألمانية خرج فيها الآلاف رافعة شعارات تندد بصمت المجتمع الدولى، وتدين التمويل والدعم الأميركي والألماني للقصف الإسرائيلي، وتستنكر قتل الأطفال الأبرياء وقصف المستشفيات والمدارس ودور العبادة، ساعية لوقف إطلاق النار الفورى في غزة، وشرح الحقيقة الفلسطينيية المحرفة فى الوسط الألمانى لفرض واقع اجتماعى وسياسى ألمانى جديد.
وبطبيعة الحال لم تخلو تلك المظاهرات من القمع والتقييد لتحجيمها، فضلاً عن عمليات التفتيش الواسعة التى استهدفت العديد من والمواقع والمتضامنين مع حركة حماس ومنددين للعدوان الإسرائيلى، بذريعة الحد من الاضطرابات والحفاظ على الأمن العام، وتداعيات تلك التجمعات من التحريض على الكراهية والتصريحات المعادية للسامية والتحريض على العنف.
مؤتمر للإسلام فارغ من محتواه
وبالتزامن مع الأحداث الراهنة دعت وزارة الداخلية الألمانية إلى مؤتمر للإسلام تحت عنوان “مكافحة معاداة السامية ومعاداة المسلمين في فترات الانقسام الاجتماعي” والذى استمر ليومين من 21 إلى 22 نوفمبر، إلا أنه لم يأتى ثماره فغالبية الحضور لا يرتبطون بمؤسسات تمثل المسلمين، كما أن المجلس الأعلى للمسلمين المنسق دوماً مع السلطات الألمانية والممثل الأبرز لأصوات المسلمين لم تتم دعوته إلى المؤتمر نظراً لتعرضه مؤخرا لحملة إعلامية كبيرة بعد عملية حماس لمجرد دعوته إلى وقف أعمال العنف من كل الأطراف، بمعنى أخر يمكن القول أن هذا المؤتمر كان بمثابة ستار لتبرئة السلطات الألمانية من الميول المتطرفة المعادية للإسلام، وممارسة نوع من الضغوط على المنظمات الإسلامية فى ألمانيا لإدانة عملية طوفان الأقصى.
ارتدادات السياسية الألمانية
استفادت عدة أطراف من الدعم الألمانى لسلطات العدوان الإسرائيلى للدفع بأجندة إسلاموية داخل الدولة الألمانية، والتى تحفز قطاع الجالية المسلمة فى ألمانيا نحو أفكار متطرفة والحث على تنفيذ هجمات إرهابية وإن كانت محدودة تهدد الأمن والاستقرار الداخلى من ناحية، وتهدد مصالح وسياسات الحكومة الألمانية فى الخارج من ناحية أخرى.
وقد كشف استطلاع للرأى فى ألمانيا تم إجراؤه فى يوم 12 نوفمبر أن 59% من الألمان يتخوفون من حدوث هجمات إرهابية فى البلاد ويعتبرونه أمر محتملا نوعًا ما كعواقب محتملة أثر تصعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما وصف 17% فقط من الألمان معاداة السامية المتزايدة في ألمانيا على أنها مصدر القلق الرئيسي بالنسبة لهم.
تحركات ألمانية واسعة
سعت الحكومة الألمانية إلى اعتماد عدة إجراءات وتدابير أكثر صرامة للحد من تداعيات الصراع حيث قامت أولا بحظر حركة حماس الفلسطينية وشبكة صامدون الذين حاولوا جمع الأموال لمساعدة الحركة في الخارج والتأثير على الخطابين الاجتماعي والسياسي في ألمانيا فقد جرت عدة عمليات تفتيش واسعة فى أربع مناطق ألمانية تستهدف أعضاء ومتعاطفين مع حركتي “حماس” و”صامدون” الفلسطينيتين وصلوا إلى حوالى 450 عضو، وقامت بمصادرة أي أصول تخصهم، كما تم حظر تواجدهم على الإنترنت وأنشطة وسائل التواصل الاجتماعى بتحجيم مواقعهم.
وفى سياق أخر عززت الأجهزة الأمنية الألمانية من حماية المبانى والمؤسسات اليهودية كالمعابد والمدارس والمعالم الأثرية اليهودية في العاصمة برلين. وتجاوز الأمر حظر الاحتجاجات فى عدد من المدن كمدينة هامبورج ورفض إعطاء التصريحات لبعضها، وقيدت الأعلام الفلسطينية التي يمكن التلويح بها، فضلاً عن القمع والاعتقال الذى واجه عدد من الناشطين والمتظاهرين الفلسطينيين والعرب والألمان والمناضلين الأمميين، الأمر الذى يتنافى مع مبدأ حرية التعبير الذى تدعو إليه ألمانيا والدول الأوروبية، ويُظهر ازدواجية المعايير التى سمحت بتأييد أوكرانيا في حربها مع روسيا بمظاهرات ومسيرات وجميع أشكال التأييد، في مقابل منع ذلك على دعم وتأييد فلسطين وما تتعرض له من إبادة جماعية وتطهير عرقي على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي.
مما سبق؛ يتضح توظيف السياسة الألمانية لمعادة القضية الفلسطينية بأكملها وكيفية انعكاسه على المشهد الداخلى الألمانى الذى بدأ يشهد نوع من الخطر والتوتر وتزايد جرائم الكراهية واحتمالات تمدد الإرهاب مع شعور الكثير من المواطنين بالغضب تجاه وحشية الهجوم الإسرائيلى، واستنكار سياسات الحكومات الأوروبية الممهنجة والخارجة عن عباءة الإنسانية، ليظهر تأثير هذا فى الشارع الألمانى خاصة من جانب الجاليات العربية والإسلامية الذين رفضوا الاستسلام للهجمات المعادية لهم والمناقضة للمبادئ الإنسانية التى تعتبرها ألمانيا ركيزة أساسية فى سلوكها السياسى الداخلى والدولى.