حسناء تمام كمال
تزايدت التحديات التي تواجه ليبيا مؤخرًا، بعد أن كانت الإشكالية الرئيسية تتمثل في إجراء الانتخابات الرئاسية، طرأت إشكالية أُخرى أكثر تعقيدًا في مضمونها وانعكاساتها على الواقع الليبي؛ إذ أصبحنا أمام حكومتيْن ترى كلٌّ منهما أنها صاحبة الشرعية، الأُولى حكومة «فتحي باشاغا»، التي شكلت بقرار من البرلمان، وتمارس عملها في سرت، والثانية حكومة «عبد الحميد الدبيبة»، التي سحبت منها الثقة، ولازالت تمارس عملها من طرابلس.
وبعد موافقة البرلمان الليبي على أن تبدأ حكومة «باشاغا» عملها في سرت، يبقى التحدي القائم أمام الحكومتيْن، محاولة حسم مسألة الشرعية، وفي هذا الصدد، نسلِّط الضوْء على محددات حسْم هذه المسألة وتحركات الأطراف فيها.
أولًا: تحركات مختلفة لحسْم الشرعية
بدأت تحركات «باشاغا» مؤخرًا في اتجاهات متعددة، غايتها الحظوة، بدعم وتأييد لأداء حكومته، سواء سياسيًّا أو ميدانيًّا، وعلى المستوى الداخلي أو الخارجي، أُجريت هذه التحركات كما يلي:
تصديق البرلمان على بدْء الحكومة عملها في سرت: يواصل البرلمان دعمه لعمل حكومة «باشاغا»، التي أُصدر قرارٌ بتشكيلها مؤخرًا؛ لإكمال عملية الدعم بالموافقة في تصويتٍ على بدْء الحكومة العمل من مدينة سرت، بهذا القرار يحاول البرلمان تجاوز مسألة دخول طرابلس، والتحدي الذي تواجهه في بدْء عمل الحكومة، وهو في حدِّ ذاته دلالة على محاولات الحكومة والبرلمان حسْم مسالة التنافس والجدل، التي نشأت مؤخرًا بين حكومة «الدبيبة، وباشاغا»، واتخاذ الخطوات الملائمة؛ لتنفيذ رؤية البرلمان في إجراء الانتخابات.
إطلاق مبادرة سياسية: أطلق رئيس الحكومة الليبية، المكلفة من مجلس النواب، فتحي باشاغا، مبادرةً للحوار مع الفصائل السياسية المختلفة، وصفها، بأنها تهدف لتوسيع رقعة التواصل والمشاركة مع الجميع، وكذلك التوافق حول القِيَمِ المؤدية للانتخابات، أشار فيها إلى أن المبادرة تنطلق من إطار الحوار الشامل والمصالحة الوطنية، وتستهدف التيارات السياسية والاجتماعية والعسكرية كافة، مؤكدًا شروع الحكومة في عقْد اتصالاتها مع هذه التيارات خاصة؛ من أجل التأسيس لحياة مدنية راسخة.
لا شكَّ أن الداخل الليبي يحتاج للحوار، والمصالحة هي هدف حميد، يتطلبه الداخل الليبي، ومبادرة «باشاغا» تحمل رسالة، بأن هناك مساعي من «باشاغا»؛ لاتخاذ خطواتٍ، في عملية لَمِّ الشَّمْل السياسي، لكن هذه المبادرة أتت منقوصة؛ فبالرغم من دعوتها لكافة الفصائل السياسية، لم يُذكر «الدبيبة» صراحةً في الدعوة، كم لم يَرِدْ عن حكومة «باشاغا» أنها اتخذت خطوات فعلية ناحية هذا الحوار، مع أن تأخير اتخاذ خطوا ت فعلية في المبادرة، يجعل فرص تنفيذه تتقلص شيئًا فشيئًا.
التحكم في ملف النفط: يُعدُّ ملف النفط واحدًا من الملفات المتحكمة في وتيرة واتجاه الصراع في ليبيا، إضافةً لكونه عنصرًا مهمًا في حساب موازين القوى؛ لصالح الطرف المتحكم فيه، ومن يتحكم فيه، يتحكم بمفاتيح الحل.
في وقتٍ سابقٍ، أعلن رئيس الحكومة المكلّف من البرلمان الليبي، فتحي باشاغا، إعادة فتح الحقول والموانئ النفطية، بعد أكثر من 3 أسابيع على إغلاقها؛ بسبب احتجاجات قبلية، تطالب برحيل رئيس الحكومة الحالي، عبد الحميد الدبيبة، والتوزيع العادل لإيرادات النفط، وجاء الإعلان عن استئناف إنتاج النفط، من دون فرض شروط؛ حيث أكَّد «تكتل الهلال النفطي»، موافقته على رفع الحصار المفروض على الحقول النفطية، وأن هذا القرار جاء استجابةً لتعليمات رئيس البرلمان، عقيلة صالح، وأنه سيتم بعد ذلك تثبيت آلية توزيع عوائد النفط بشكل عادل، على كافة الأقاليم الليبية.
وبعد ذلك القرار بأيام معدودة، أعلن رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، عن تجميد إيرادات النفط بمصرف ليبيا الخارجي؛ حفاظًا على مصلحة الليبيين، وضمان الاستفادة من ارتفاع سعر النفط في الوقت الحالي، على أن يستمر الوضع بآلية تضمن استفادة كل الليبيين من هذا الدخل؛ لتحقيق العدالة والمساواة للجميع.
والقرارات المتتابعة التي يتخذها «باشاغا» بخصوص ملف النفط، لها عدة دلالات، أولها: أن حكومته هي المتحكمة في هذا الملف، وهذا التحكم بمثابة رصيدٍ يضاف إليها، من ناحيةٍ أُخرى، فإنه يستخدمه كملفٍ لإرضاء واستقطاب القبائل المختلفة ناحية تأييد الحكومة الجديدة، فيطوع الملف على النحو الذي يسترضي به القبائل الليبية، خصوصًا أن لبعض هذه القبائل خلافات مع «الدبيبة»، بشأن ملف النفط، أسفرت تلك الخلافات، عن إغلاق حقول النفط المشار إليها .
كسب ثقة الشركاء الإقليميين :في ظلِّ التحركات الدبلوماسية التي يقوم بها رئيس البرلمان الليبي، والتي كان آخرها، زيارته لمصر؛ لإجراء الجولة الثانية من المباحثات، بين مجلسيْ «النواب، والدولة» الليبيين؛ من أجل إيجاد توافقٍ حول القاعدة الدستورية؛ لإجراء الانتخابات، والتي وصف الأطراف مخرجاتها بالناجحة، يحاول رئيس البرلمان من خلال هذه التحركات، الحصول على دعمٍ لحكومة «فتحي باشاغا»، سواء كانوا من الشركاء الإقليميين أو الدوليين والأطراف الداخلية المختلفة، وتأتي هذه التحركات؛ ردًّا على التحركات المضادة، التي يقوم بها «الدبيبة»، والذي يحاول فيها، الحصول على دعْم الشركاء الإقليميين أيضًا، وكانت الزيارتان التي أجراهما لكلٍّ من «الجزائر، وتونس»، هي آخر تحركات «الدبيبة» في هذا الصدد.
من ناحيةٍ أُخرى، فإن تحركات كسْب الثِّقة، لها انعكاسٌ على الشركاء الإقليميين؛ إذ يُحوِّل الأطراف المتناحرة إلى ساحة استقبال لوسائل التصعيد، يفسر ذلك القول، محاولة استهداف السفارة المصرية، وغلْقها من بعض الفصائل المعارضة للبرلمان الليبي؛ جراء تولِّي مصر إجراء الحوار بشأن الدستور.
ثانيًا: لماذا تُعدُّ محاولة «باشاغا» دخول طرابلس تصرُّفًا اندفاعيًّا ؟
في مستجدٍ أخير، دخل «فتحي باشاغا»، إلى العاصمة طرابلس، بشكل مفاجئ، في محاولةٍ للضغط على رئيس حكومة الوحدة المُقال من البرلمان «عبد الحميد الدبيبة، لكن الزيارة لم تستغرق سوى ساعاتٍ قليلةٍ، بعد ما اضطر «باشاغا» إلى الانسحاب، بمساعدة كتيبة النواصي، التي كانت مؤيّدة لـ«الدبيبة»؛ لتجنُّب تصاعُد الاشتباكات العسكرية، وهدف رئيس الحكومة الموازية من وراء خطوته هذه، هو الضغط على خصمه؛ من أجل التسليم، في إطار خطوةٍ لفرض حكومته كأمرٍ واقعٍ.
هناك دوافع عدة يمكن فهمها كمحفز لدخول «باشاغا» طرابلس، لكن لا تبدو هذه الدوافع مبررات مقنعة – على الأقل في هذا التوقيت- فمن المبكر دخول طرابلس، خصوصًا في ظلِّ عدم حسْم الخلافات مع «الدبيبة»، إضافةً إلى عدم اتخاذ أيِّ خطواتٍ، بشأن المبادرة التي طرحها؛ ما قد يؤدي إلى استخدام هذا التحرُّك؛ للتشكيك في مصداقيتها.
ثالثًا: محدِّدات حسْم الشرعية
المسار التوافقي: لا تتم عملية الحسْم الحقيقي للشرعية، من كلا الطرفين، والمقصود هنا حسْمها على أرض الواقع دون وجود توافقٍ حقيقيٍ بين الحكومتيْن؛ لذا فلا بد أن يتلاقى فيها على توافقاتٍ، تشكل نقطةً في المنتصف بين التباينات «السياسية، والأيديولوجية» كافة.
القوى الإقليمية: من جهةٍ أُخرى، بالرغم من أن الوضع في ليبيا يبقى بشكل أساسي محكوم بمحددات التوافق بين الأطراف المختلفة داخليًّا، لكن تبقى القوى الإقليمية طرفًا مهمًا في المعادلة، وخصوصًا دول الجوار الليبي؛ إذ يبقي موقف التأييد لأيٍّ من الأطراف الليبية نقاط قوة تضاف لموقفها، بجانب دوْر الدول التي لها تواجد ميداني في ليبيا، في تحييد دوْرها، يبقى له تأثير كبير، في تحريك مسار الصراع ناحية التصعيد أو التهدئة.
حتمية الحل السياسي للأزمة: بالرغم من أن هناك عدة حلول مطروحة كسُبُلٍ لإنهاء وحسْم مسألة الشرعية، منها، الحل العسكري، الذي يقترح أن يكون حسْم الأمر بالمواجهة المباشرة بين الفصائل، وأن يكون دخول طرابلس – وفْقًا لهذا الخيار- مرتهنًا بقدرات الأطراف العسكرية، لكن هذا الخيار – لا شكَّ – لن يكون مجديًا؛ لأن سيعطي مساحةً للصراع المسلح المفتوح، والذي قد تدخل الفصائل المسلحة فيه، كما أن الخيار المسلح لا يستطيع القضاء على الولاءات التحتية، وبالتالي، سيكون ذلك بمثابة مساحة لبراكين أُخرى خامدة، معرضة للنشاط في أي وقت، ومن ثمَّ المعالجة الجذرية لهذا الخلاف تطرح الخيار السياسي كخيارٍ لا بديل عنه.
تغليب المصلحة الوطنية على حساب المصالح الفردية: سواء فيما يتعلق بأحقية تولِّي مناصب السياسية أو توزيعها، بجانب ضرورة حلِّ مشاكل داخلية، منها، «توزيع الثروات، وإيجاد السُّبُل الفعَّالة؛ للتعامل مع الفصائل المسلحة».
وفي الأخير: فإن استمرار تعقيد الأزمة المرتبطة بشرعية الحكومة في ليبيا، تساهم بشكلٍ رئيسي في حالة التشتيت السياسي للموقف؛ حيث تحيد عن تنفيذ خارطة الطريق لحلِّ الصراع؛ الأمر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات فاعلة لحلها؛ لتجنُّب انخراط الداخل الليبي في صراعات فرعية، والانخراط في اتجاهات صراعية عدة، والابتعاد عن مسار عملية التحوُّل الديمقراطي.