بعد مرور عامٍ على الإدارة الأمريكية: تحولات في الموقف الأمريكي تجاه الشرق الأوسط

رضوى رمضان الشريف

كان عام 2021، بلا شك أحد أكثر الأعوام اضطرابًا في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، فمنذ بداية العام الأول، كشفت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عُمْق الانقسام الحاد والجذري والعميق الَّذي يسود المجتمع الأمريكي.

وللدلالة على خطورة الانقسام واتساعه، تكفي الإشارة إلى ما كتبه عالم السياسة (فرانسيس فوكوياما) في مجلة “الإيكونوميست” في شهر أغسطس 2021: “إنَّ الخطر الكبير على الولايات المتحدة لا يكمن في انسحابها من أفغانستان أو العراق، بل يكمن في حالة الانقسام الحادة داخل المجتمع الأمريكي، فالأميركيون منقسمون على كلّ شيء، حتى على الأخطار التي تواجه الولايات المتحدة، وبسبب هذا الانقسام، ليس مرجّحًا أن تستعيد الولايات المتحدة مكانتها كقوة مهيمنة على العالم”.

ومن الإخفاقات الداخلية الأخرى للإدارة الأمريكية منذ عامها الأول حتى الآن، هو التعثُّر في السيطرة على جائحة كورونا، فبالرغم من تعهد  الرئيس الأمريكي (جو بايدن) عند استلامه منصبه باحتواء الجائحة والقضاء عليها، ولكنَّه فشل حتى اللحظة في استغلال الفوائد الهائلة للقاحات؛ إذ تشهد الولايات المتحدة الأمريكية ارتفاعًا في أعداد المصابين بفيروس كورونا، وتسجيل حالات وفاة تفوق تلك التي سُجّلت في عهد ترامب، الَّذي تعامل بخفّة كبيرة مع الجائحة التي أصابته بعوارض حادة تضافرت مع عوامل أخرى، أدت إلى خسارته الانتخابات.

وبجانب تلك الإخفاقات الداخلية، فشلت الإدارة الأمريكية أيضًا في وضع سياسة تحدُّ من التدهور الاقتصادي الذي تعاني منه؛ بسبب تداعيات كورونا، فتزايُد الدَّيْن العام الأمريكي كان واحدًا من أبرز إخفاقات بايدن داخليًّا.

وفيما يخص المحيط الخارجي، أعاد الرئيس الأمريكي (جو بايدن) في الأشهر الـ 12 الماضية عددًا من السياسات الخارجية، من عهد (باراك أوباما) وفترة توليه منصب نائب الرئيس من (2009 إلى 2017)، وتشمل هذه سياسة الانسحاب من الشرق الأقصى واتخاذ كل الإجراءات الممكنة؛ لتجنب التدخلات العسكرية المكلفة؛ فكان الانسحاب الأمريكي المتعثر من أفغانستان-وترك مصير شعبها في أيدي طالبان -ألقى بظلاله ليس فقط على المنطقة، ولكن أيضًا على العالم بأسره؛ ما قوض ثقة دول المنطقة والمجتمع الدولي في سياسة الولايات المتحدة.

ومع دخول الرئيس الأمريكي (جو بايدن) سنته الثانية في البيت الأبيض، تسعى تلك الورقة إلى تكوين رأي واقعي حول ما يمكن توقعه في السنوات الثلاث المقبلة، من خلال مراجعة نهج الولايات المتحدة تجاه القضايا الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط.

 

أولًا: ملامح الإدارة الأمريكية لعام 2021

كانت السمة المميزة والغالبة لملامح السياسة الخارجية الأمريكية خلال عام 2021، هو تراجع إدارة (بايدن) عن أغلب قرارات وسياسات الرئيس الأسبق (ترامب)، المتعلقة بالانسحاب من الكثير من المنظمات والاتفاقيات الدولي، وذلك في إطار سياسة إعادة أمريكا إلى المنظومة الدولية ومسؤوليتها في قيادة العمل الجماعي الدولي؛ حيث عادت إلى العديد من المنظمات والاتفاقيات، مثل (اليونسكو، واتفاقية باريس للمناخ) وغيرها؛ ليعيد أمريكا إلى دورها التقليدي في النظام الدولي كقوى مهيمنة ولديها التزامات عالمية، وتأكيد أن فترة (ترامب) كانت استثناء عن هذه القاعدة؛ حيث اتجه إلى سياسة العزلة، وتغليب منطق الصفقة في توفير الحماية والدور الأمريكي العالمي مقابل المال، وهو ما أحدث شروخات في العلاقات مع الحلفاء والخصوم أيضًا.

ورغم أن (بايدن) سعى لترميم الشروخات مع الحلفاء التقليديين في أوروبا وحلف (الناتو)، عبر مشاركته في قمة الحلف ومجموعة السبع الصناعية، وكذلك في شرق آسيا مع اليابان وكوريا الجنوبية، إلا أن سياسته المتناقضة أدت في المقابل إلى تراجع ثقة الحلفاء في أمريكا كحليف إستراتيجي يمكن الاعتماد عليه، خاصةً بعد الانسحاب المتعثر من أفغانستان.

أدى قرار انسحاب (بايدن) من أفغانستان بطريقة متعثرة لتداعيات سلبية عديدة، سواء على أفغانستان؛ حيث تركها في مهب الريح والمستقبل المجهول، بعد سيطرة حركة طالبان، أو على المصالح الأمريكية فيها، وترك فراغًا إستراتيجيًّا، وسعت دول أخرى منافِسَةً لأمريكا، خاصة الصين وروسيا وإيران كذلك تركيا لملئه.

أصبحت هناك فجوة متسعة بين أمريكا وأوروبا وحلفائها في الشرق الأوسط، خاصةً فيما يتعلق بالمظلة الأمريكية، وكذلك عدم توافق رؤية الأوروبيين مع واشنطن، فيما يتعلق بإدارة العلاقات مع خصوم أمريكا الإستراتيجيين، مثل (روسيا والصين وإيران)؛ حيث لا تتفق أوروبا مع الرؤية الأمريكية، في اعتبار الصين وروسيا أعداء إستراتيجيين لهما، كما ترى أمريكا؛ حيث إن هناك مصالح إستراتيجية ضخمة بين أوروبا وكلا البلدين، كما أن أوروبا لا ترغب في التصعيد العسكري مع روسيا، خاصةً في الساحة الأوكرانية، لكنها تتفق مع أمريكا في ضرورة ممارسة الضغوط الاقتصادية؛ لترويض وتحجيم دور البلدين.

ثانيًا: تحولات في الموقف الأمريكي تجاه الشرق الأوسط

بدأت واشنطن في لعب دوْر نشط في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وحماية التدفق الحر للموارد النفطية في المنطقة، وتشكيل تحالفات مع دول الخليج، ومواجهة الشيوعية، وحماية إسرائيل.

إلا أنه بعد الثورة الإسلامية عام 1979، تحرك هذا النهج لاحتواء إيران، وفي عام 2003، غزت القوات الأمريكية العراق في عهد الرئيس آنذاك (جورج دبليو بوش)؛ ما أدى إلى توسيع نطاق الوجود العسكري لواشنطن في المنطقة، وعندما تولى (ترامب) منصبه في عام 2017، اتبع بقوة سياسات يعتقد أنها ستفيد الولايات المتحدة، وتعزز العلاقات بين خليج المكسيك وإسرائيل.

ولكن أراد (بايدن) أن يكسر عقودًا من السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في وعده بإعطاء الأولوية لحقوق الإنسان، بينما لا تزال الإدارة في وقت مبكر من ولايتها، يقول مراقبون في الشرق الأوسط: “إن الأمل في أن ينجح الرئيس في تنفيذ الوعود المتعلقة بالمنطقة يتضاءل تدريجيًّا.

الحرب اليمنية

بادئ ذي بدء، يوجد تحولات عديدة في الموقف الأمريكي بشأن الحرب في اليمن، فالحرب اليمنية كانت منذ اللحظة الأولى مرتبطة بالعلاقات (السعودية-الأمريكية)، فعندما قامت السعودية بقيادة التحالف العربي، في مارس 2015؛ استجابةً لطلب من الرئيس اليمني، عبدربه منصور هادي، بعد انقلاب الحوثيين، دعمت إدارة الرئيس السابق (أوباما) للتحالف العربي، وتقديم بلاده للدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي، وتأسيس خلية التخطيط المشتركة، إلا أنه بعد عملية (عاصفة الحزم)، التي أدت إلى عدة إدانات وانتقادات خارجية وداخلية، أعلنت إدارة (أوباما) أنها ستعلّق بيع مجموعة من الأسلحة للسعودية، وستقلل مستوى مشاركة المعلومات الاستخباراتية.

تغير الموقف الأمريكي في ظل إدارة (ترامب) السابقة؛ حيث تم إجراء مراجعة شاملة لسياسة إدارة (أوباما)، وقبل انتهاء هذه المراجعة، في شهر يوليو 2017، قرر (ترامب) السماح ببيع الأسلحة التي علّق بيعها (أوباما).

وتغير الموقف الأمريكي مجددًا تحت إدارة (بايدن)؛ حيث أعلن في أول خطاب رئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، في فبراير 2021، عدة قرارات بشأن سياسة أمريكا إزاء حرب اليمن ومنها؛ إنهاء الدعم الأمريكي لكافة العمليات العسكرية الهجومية، وما يتعلق بها من صفقات تسليح، ودعم جهود الأمم المتحدة لحلّ النزاع، ويُذكَرُ أن (بايدن) قام أيضًا بشطب جماعة الحوثيين في اليمن من القائمة السوداء لـ”المنظمات الإرهابية”، في خطوة رحَّب وأشاد بها الحوثيون، بالرغم من تصعيدهم المستمر في القتال.

وتجدد تغير الموقف الأمريكي لإدارة (بايدن) مرةً أُخرى في نفس العام الأول لإدارته؛ حيث أكدت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، 4 أكتوبر 2021، أن وزارة الخارجية الأمريكية وافقت على أول صفقة أسلحة كبيرة للسعودية في عهد (بايدن)، من خلال بيع 280 صاروخًا (جو-جو) طراز (إيه.آي. إم-120سي)، بقيمة تصل إلى 650 مليون دولار، وقال (نيد برايس)، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية: إن الموافقة على صفقة الصواريخ للسعودية تأتي بعد أن «شهدنا زيادة في الهجمات عبر الحدود ضد السعودية»، معتبرًا أن هذه الصواريخ «لعبت دورًا أساسيًّا في اعتراض هجمات الطائرات بدون طيار التي لم تتوقف» ضد السعودية والقوات الأمريكية في المنطقة.

جاءت ردة فعل الحوثيين عنيفة حول الصفقة التي اعتبروها تناقضًا بين التزام (بايدن) بالسلام في اليمن، ودعم التحالف العربي ضدهم؛ حيث اعتبر القيادي في جماعة أنصار الله الحوثية، محمد علي الحوثي، الصفقة دليلًا على عدم جدية ومصداقية (بايدن) وإدارته في وقف الحرب باليمن.

كما كان لقراره بإخراج الحوثيين من قوائم الإرهاب العالمية عواقب وخيمة، وزاد من التهديد الذي تشكله الجماعة ليس فقط على اليمن والسعودية، ولكن أيضًا على الولايات المتحدة نفسها؛ ففي 10 نوفمبر 2021، اقتحمت الجماعة الإرهابية مجمع السفارة الأمريكية في صنعاء، واحتجزت أكثر من عشرين مقاولًا محليًّا، إضافةً إلى مصادرة كميات كبيرة من المعدات والمواد.

الملف النووي الإيراني

بالنسبة للملف الإيراني الذي يُعدُّ الأكثر حساسية لواشنطن، تسعى إدارة (بايدن) بالعودة إلى الاتفاق حول برنامج طهران النووي، مع الاحتفاظ بخيار العقوبات، حال فشل التفاوض؛ فقبل انتخابه، وعد (بايدن) الناخبين مرارًا وتكرارًا، بأنه سيعيد إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، فلقد أصبح ذلك الوعد جزءًا من سياسته الداخلية أيضًا، وهو ما يفسر سبب تخلِّي واشنطن عن نفوذها في المنطقة؛ من أجل إقناع الإيرانيين، وتحسين فرص الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي الصعبة لعام 2022.

سحب (ترامب) الولايات المتحدة من الاتفاقات متعددة الأطراف في عام 2018، وأطلق حملة “الضغط الأقصى” على العقوبات على إيران، وبدأت إيران في تصعيد برنامجها النووي، وعلى الرغم من أن إدارة (بايدن) بدأت مفاوضات غير مباشرة مع إيران؛ لاستعادة الصفقة، إلا أنه لم يحدث (بايدن) اختراقًا جذريًّا في قضية البرنامج النووي الإيراني، فرغم اتجاهه نحو العودة لاتفاق عام 2015، عبر الحوار والمفاوضات، إلا أن جولات مفاوضات (فيينا) العديدة بين إيران ومجموعة (5 + 1) لم تستطع حتى الآن إحداث تقدم كبير، في ظل تعقيدات كثيرة مرتبطة بالعقوبات، وكذلك بتراجع إيران عن التزاماتها في الاتفاق، وهو ما يؤكد أن دبلوماسية (بايدن) في الحوار، والتراجع عن سياسة أقصى الضغوط التي اتبعها (ترامب)، لم تنجح في تحقيق هدف منع إيران من السلاح النووي.

 

الخلاصة والسيناريوهات

مع إتمام عامه الأول داخل البيت الأبيض، لا تزال السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي(جو بايدن) محل نقاش، خاصةً بعد ما شهدته تلك السياسة من تضرر في عهد سلفه دونالد ترامب، فالأخطاء الأمريكية لا تزال قائمة، بل تزيد في ظل حالة من عدم الاستقرار في المنظوم العالمية، واستمرار حالة التجاذب الكبيرة بين القوى الدولية، وهو ما سيمتد في الفترة المقبلة، ولن يقتصر على الولايات المتحدة والصين، بل سيشمل دولًا أخرى، مثل (روسيا واليابان دوليًّا، وتركيا وإيران إقليميًّا)؛ حيث تسعى الولايات المتحدة مجددًا لتقسيم العالم إلى معسكرين: “مَن معنا” و”مَن ضدنا”، وتحديد هوية العدو الحقيقي، ممثلًا في الصين، وبدرجات أو أخرى روسيا.

سياسة أمريكا تجاه الصين يشوبها نقاط توتر، أبرزها (تايوان، وهونج كونج، وملف حقوق الإنسان)، إلى جانب الحرب التجارية القائمة بين البلدين، وفيما يتعلق بتعامل إدارة (بايدن) مع روسيا، فقد تأرجح ذلك بين التقارب والتفاهم على مستوى بعض القضايا، مثل سوريا، وبين النِّدية والاختلاف في قضايا أخرى، وعلى رأسها (الأزمة الأوكرانية والملف النووي الإيراني).

لم تتبلور سياسة إدارة (بايدن) تجاه الشرق الأوسط، رغم توقيع اتفاق الانسحاب العسكري من العراق، والتركيز على البرنامج النووي الإيراني، والدعوة لحل الدولتين بين الفلسطينيين والإسرائيليين، دون ترجمتها على أرض الواقع، لكن من الصعب استبدال الصين، أو ملفات أخرى بالشرق الأوسط.

ولذلك يمكن القول: إن السياسة الأمريكية في عام (بايدن) الأول، اتسمت بالضبابية والتناقضات؛ نتيجةً لغياب الرؤية والعقيدة الواضحة في إدارة السياسة الخارجية، سواء مع الخصوم أو الحلفاء، أو في ترتيب الأولويات؛ حيث أصبح يجري رسم خريطة جديدة وتحالفات جديدة، على وشك أن تنشأ في الشرق الأوسط.

وربما ليس من الحكمة رسم “عقيدة بايدن” بعد عام واحد فقط، إلا أنه من المتوقع، أن يتم إعادة (ترتيب الأولويات) من جديد في الأجندة الأمريكية، خاصةً فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فـ(بايدن) أصبح مدركًا بأن الصراع الأمريكي الصيني، والصراع الأمريكي الروسي، ستتداخل فيهما كثير من الأطراف التي لا يمكن تفاديها، والتي ما تزال تتكشف مواقفها – رغم تحالفاتها الكبرى والمفصلية مع الولايات المتحدة وروسيا والصين- وسيكون لها دور ضابط لنمط التحرك السياسي والإستراتيجي في الفترة المقبلة.

وفي حال فشل مفاوضات (فيينا) للعودة للعمل بالاتفاق النووي، والتي ستكون طهران بموجبه على عتبة امتلاك السلاح النووي؛ ما يجعل (بايدن) بصدد خيارات مؤلمة، واللجوء للعمل العسكري ضدها؛ ما قد يعيد الولايات المتحدة إلى المواجهة والصراع في الشرق الأوسط.

ستكون الإدارة الأمريكية في الفترة المقبلة في معادلة صعبة، وتكمن الصعوبة في كيفية التعامل مع الصين، خاصةً وأن أي تركيز ستقدم عليه واشنطن في التعامل مع روسيا وإيران، سيصب في مصلحة الصين؛ لأن ذلك يعني انصراف أمريكا عنها، خاصةً وأن أمريكا قد خرجت لتوها من أفغانستان والعراق.

فالصين أصبحت ترسخ نفوذها بقوة في أفريقيا والشرق الأوسط، في ظل غياب الدور الأمريكي، ولكن من المتوقع، أن تقوم الإدارة الأمريكية بإعادة النظر وتصحيح علاقتها مع دول الشرق الأوسط، وطمأنة دول المنطقة بالالتزام الأمريكي، فمن المتوقع، بأن تنتهج الولايات المتحدة نهج الصين قليلًا في المنطقة، بدلًا من انتهاج النهج العسكري، والذي أثبت فشله.

 

كلمات مفتاحية