تأجيج لعبة النفوذ في أفريقيا.. ماذا تحمل زيارة “بلينكن” لدول غرب القارة؟

إعداد: شيماء ماهر

باحثة متخصصة في الشؤون الأفريقية

في إطار التكالُب الدولي المتزايد على أفريقيا من جانب مختلف القوى الأوروبية، جاءت محطة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، لتستقر عند أربعة دول فى غرب القارة، بعد الجوْلة التي قام بها وزير الخارجية الصيني، في 13 يناير الجاري، وتأتي هذه التحرُّكات في إطار التنافُس الغربي على غرب القارة، خاصَّةً بعد الفراغ الذي خلَّفته فرنسا، وعلى ما يبدو أن ثمَّةَ تحرُّكات عدة من جانب أطراف دولية كُبْرى، تسعى بكافَّة الطُّرُق لترسيخ قدميْها في القارة السمراء، كُلُّ طرفٍ يحاول إثبات حضوره، ومناوأة الطرف الآخر، وهذه التحرُّكات يحتمل أن يتم تكثيفها خلال الفترة المقبلة، في ظلِّ الأوضاع المضطربة التي يعاني منها العالم أجمع.

زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى غرب أفريقيا:

أعلنت الإدارة الأمريكية عن توجُّه وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في الفترة من 21 إلى 26 يناير الجاري، لجوْلةٍ لدول غرب أفريقيا، تشمل الرأس الأخضر وكوت ديفوار ونيجيريا وأنغولا، وتعتبر الجوْلة الأُولى لوزير الخارجية الأمريكي إلى أفريقيا جنوب الصحراء، في ظلِّ تدهور الأمن في المنطقة، والغموض حول القاعدة الأمريكية الرئيسية في النيجر، وتأتي الزيارة في إطار جهود الولايات المتحدة الأمريكية؛ لمواجهة التأثير المتزايد لروسيا والصين في المنطقة، وتُعدُّ استمرارًا لمساعي واشنطن لتعزيز حضورها في غرب القارة الأفريقية، خاصَّةً في ظل التنافُس الدولي على تلك المنطقة.

ما وراء الزيارة؟

جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عقب مرور بضعة أيام من زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، لدول عدة، من بينها كوت ديفوار التي زارها “بلينكن” أيضًا؛ الأمر الذي يعكس تنافُس القوتيْن على غرب القارة السمراء، في ظل وقتٍ تعاني فيه منطقة غرب أفريقيا من تداعيات الانقلابات التي وقعت في النيجر والجابون في العام الماضي، والمحاولات الانقلابية التي تمَّ إحباطها، وتزايد التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل، وتفاقُم الوضع الأمني في المنطقة، وتزايُد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، فضلًا عن تصاعُد التوتُّرات والأزمات في السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

وتتزامن الجوْلة عقب إعلان الولايات المتحدة الأمريكية عن نِيّتها، في بناء قواعد عسكرية للطائرات بدون طيار في غرب أفريقيا؛ الأمر الذي يُبرهن على أهمية منطقة غرب أفريقيا للإدارة الأمريكية، وسط سلسلةٍ من الأزمات العالمية، ولعل زيارة “بلينكن” إلى كوت ديفوار تُبيِّنُ جِديّة الإدارة الأمريكية في إنشاء هذه القاعدة على أرضها.

ومن اللافت، أن جميع محطات جوْلة “بلينكن” هي دول مُطلّة على المحيط الأطلنطي، وتتمتع بموقعٍ استراتيجيٍّ؛ الأمر الذي يشير إلى ربْط الجوْلة بما يجري من أحداثٍ متصاعدةٍ في البحر الأحمر، على يد جماعة الحوثي، فلم يتم اختيار هذه الدول من قبيل الصدفة، فعلى سبيل المثال، تقع جزر الرأس الأخضر في منطقةٍ استراتيجيةٍ مهمةٍ؛ لحماية ومراقبة الخطوط الدولية، بالإضافة إلى أن كوت ديفوار تملك واحدًا من أكبر موانئ غرب أفريقيا؛ الأمر الذي يُمثِّلُ حافزًا أمام الولايات المتحدة الأمريكية؛ لبناء قاعدةٍ عسكريةٍ في غرب أفريقيا.

كما أن نيجيريا تقع على المحيط الأطلنطي، وهي شواطئ في عُمْق خليج غينيا الحيوي، وبه احتياطات هائلة من الغاز والنفط، وتعتبر واحدةً من أكثر مناطق المِلَاحة نشاطًا، وتمتد شواطئ أنجولا على المحيط لأكثر من 1600 كيلو مترًا، لتُشكِّلَ جميع هذه الدول محطات مهمة، في الطريق التي بدأت تسلكها سفن الشحن الهاربة من هجمات الحوثيين، نحو طريق رأس الرجاء الصالح، التي تمر قُبَالَةَ سواحل غرب القارة الأفريقية؛ حيث سيقضي “بلينكن” أسبوعًا كاملًا مُحمَّلًا بملفاتٍ مُعقَّدة.

والجدير بالذكر، أن هذه الجولة تأتي في سياق تصاعُد التنافُس “الرُّوسي – الغربي” من جهة، و”الصيني – الغربي” من جهةٍ أُخرى، في غرب القارة؛ ما ألقى بصداه على المنطقة؛ حيث باتت محطّ أنظار القوى الدولية، التي تسعى إلى استقطابها في معارك التنافُس الدولي كحليف، يمكن أن يُسْهِمَ انحيازه لطرفٍ في ترجيح كفته، أو كساحةٍ يُسْهِم التحرُّك في إطارها في تحجيم نفوذ الخصم الاستراتيجي؛ بدلًا من اعتبارها قوةً لتشكيل المستقبل العالمي.

دوافع الوجود الأمريكي في غرب القارة

تعزيز الدور الأمريكي في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء:

تُمثِّلُ القارة الأفريقية مُرْتَكَزًا رئيسًا للتوجُّهات الأمريكية، فقد شكَّلت قمة القادة “الأمريكية – الأفريقية”، في ديسمبر 2022م، نقطة تحوُّلٍ في الإدراك الأمريكي لأهمية القارة، واستعادة الشراكات التنموية مع دول القارة، وقد جاءت الرأس الأخضر كمحطةٍ أُولى في جوْلة وزير الخارجية الأمريكي؛ نظرًا لأن “أرخبيل” تقع في عُمْق المحيط الأطلنطي، وتستحوذ على حجمٍ معتبرٍ من الاستثمارات الأمريكية، خاصَّةً خلال السنوات الأخيرة، وكانت كوت ديفوار ثاني محطة في جولة وزير الخارجية الأمريكي؛ للإشارة إلى جِديّة الخطة الأمريكية، بشأن بناء قاعدة عسكرية للمسيرات في غرب القارة، وتعتبر نيجيريا المحطة الأهمّ في جوْلة “بلينكن”؛ لأنها الاقتصاد الأقوى في غرب أفريقيا، وأكبر منتجٍ للنفط في القارة، وصاحبة احتياطات معتبرة من الغاز الطبيعي.

كما أن نيجيريا تخوض منذ 15 عامًا مواجهةً عنيفةً ضد جماعة بوكو حرام الإرهابية، وتواجه تحدياتٍ أمنيةً كبيرةً؛ بسبب تمدُّد الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي؛ ما دفعها إلى عقْد صفقات أسلحةٍ كبيرةٍ مع الولايات المتحدة، وتُمثِّلُ أنجولا المحطة الأخيرة في الجوْلة؛ إذ تعتمد في اقتصادها على النفط، وتحاول تنويع اقتصادها من خلال جذْب مستثمرين، وتُشكِّلُ أحد أهمِّ مشاريع البُنَى التحتية للولايات المتحدة الأمريكية في القارة، من خلال “ممر لوبيتو”، الذي يربط  زامبيا والكونغو الديمقراطية بميناء أنجولا المُطلّ على المحيط الأطلنطي.

تراجُع النفوذ الفرنسي لصالح قُوى دولية أُخرى:

يتزامن الانخراط الأمريكي مع تراجُع النفوذ الفرنسي في غرب القارة السمراء، خاصَّةً بعد انسحابها من النيجر، ومن دول أُخرى في منطقة الساحل، وبدْء دول أُخرى في منطقة الساحل بتوطيد علاقاتها مع روسيا، مثل بوركينا فاسو وغينيا كونكاري والنيجر، من خلال آليات الدعم العسكري الذي تقدمه روسيا لهم، واهتمامها المتزايد بتكثيف علاقاتها مع الدول السابق ذكرها؛ من أجل تحسين صورتها، في ظلِّ تداعيات الحرب الأوكرانية على السلع الأساسية في أفريقيا، ودوْرها في تأمين احتياجات هذه الدول من الغذاء، وغيرها من مجالات الشراكة.

وفي السياق ذاته، ارتفع حجم الدعم الشعبي لروسيا في غرب أفريقيا، خاصَّةً مع وجود احتجاجات في مالي وبوركينافاسو والنيجر، والتي تدعو إلى مزيدٍ من الانخراط الرُّوسي في سياساتهم عقب الانقلاب العسكري الذي حدث في هذه الدول، فعلى سبيل المثال، تضمَّنت المظاهرات المصاحبة لانقلاب النيجر، في 26 يوليو 2023م، رفْعَ أعلامٍ روسيةٍ في العاصمة نيامي، والمطالبة بمزيدٍ من المساعدة العسكرية الروسية.

تنامي الانخراط الصيني في غرب القارة:

هناك قلقٌ أمريكيٌّ من التحرُّك الصيني في القارة الأفريقية، خاصَّةً في ظلِّ سعيها للسيطرة على المعادن النفيسة، وتعزيز حجم التبادل التجاري بينها وبين دول غرب القارة؛ ما جعلها أكبر شريكٍ تجاريٍّ، ومخططها لبناء قاعدةٍ عسكريةٍ في غينيا بيساو؛ الأمر الذي يعكس خطورة الخطوات الصينية على المصالح الأمريكية في غرب القارة؛ لذلك تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز تواجُدها في القارة؛ لوضع حدٍّ للهيمنة الصينية.

ترويج الدعم الأمريكي للديمقراطية:

اختتم “بلينكن” جوْلته الأفريقية في أنجولا، والتي تُمثِّلُ أحد الديمقراطيات المستقرة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وقد سبقها بزيارة نيجيريا التي تلعب دوْرًا مهمًا برئاسة “بولا تينوبو” في مكافحة التنظيمات الإرهابية؛ لترسيخ دعائم الأمن والاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، ومن ثمَّ تعكس دعْم الإدارة الأمريكية؛ لنشْر القِيَمِ الديموقراطية، فضلًا عن أهميتها فيما يتعلق ببحْث الرُّؤْية الأمريكية المقترحة تجاه دول غرب القارة.

مكافحة الإرهاب في غرب أفريقيا:

تُمثِّلُ مواجهة الإرهاب من البنود الأساسية في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، خاصَّةً أن منطقة غرب أفريقيا أصبحت موْطنًا للعديد من التنظيمات الإرهابية، والمتمثلة في تنظيم داعش والقاعدة والجماعات الموالية لهم، وينتشرون في شمال مالي ووسطها وعلى الحدود مع بوركينافاسو والنيجر وخليج غينيا ونيجيريا وتشاد، وتُعدُّ الحرب على الإرهاب في مقدمة الأولويات الأمريكية، واتضح ذلك خلال لقائه بالرئيس النيجري، بولا تينوبو.

أبرز مُخْرَجَات جوْلة وزير الخارجية الأمريكي

ناقش “بلينكن” قضايا اقتصادية متعلقة بزيادة حجم التعاون الاقتصادي، وعقْد شراكات طويلة الأمد في عِدَّة مجالات، مثل الاقتصاد والطاقة، والزراعة، وبحْث سُبُل التعاون وتعزيز الشراكات الأمنية المبنية على القِيَمِ المشتركة، مثل احترام حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية، واحترام سيادة القانون، بالإضافة إلى كيفية استثمار الولايات المتحدة في البنية التحتية في غرب القارة؛ لتعزيز التجارة البينية، وخلْق فرص العمل في الداخل، وفي القارة بأكملها، ومساعدة منطقة الساحل على المنافسة في السُّوق العالمية، وتعزيز الشراكة الاقتصادية التي ترتكز على المستقبل، فضلًا عن الاستثمار في القارة؛ للسيطرة على داء الإيدز وأمراض أُخرى.

وتعهَّد أثناء زيارته لكوت ديفوار بتقديم واشنطن 400 مليون دولار؛ لدعم ومكافحة التطرُّف؛ إذ تعتبر كوت ديفوار دولةً قائدةً في غرب أفريقيا، وحليفًا أساسيًّا للولايات المتحدة الأمريكية مع دولٍ أفريقيةٍ أُخرى في مكافحة الإرهاب.

وأثناء زيارته إلى نيجيريا، تعهَّد بتقديم تمويلٍ إضافيٍّ، بقيمة 45 مليون دولار؛ من أجل المساعدة في حلِّ النِّزَاعات، وتوطيد الاستقرار في منطقة الساحل، وتوجَّه “بلينكن” خلال زيارته إلى النيجر؛ لدعم الرئيس محمد بازوم، بعد أربعة أشهرٍ من إطاحتة، واختتم جوْلته الأفريقية في أنغولا، الخميس 25 يناير، وأعلن انضمام أنجولا إلى برنامج أرتميس للفضاء؛ لتصبح ثالث دولة أفريقية تنضم للبرنامج بعد نيجيريا ورواندا.

أكَّد “بلينكن” خلال الجوْلة على التزام الولايات المتحدة الأمريكية تجاه شركائها الساحليين في غرب أفريقيا، من خلال الاعتماد على استراتيجية منْع الصراعات، وتعزيز الاستقرار وشراكة الولايات المتحدة مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا؛ لمعالجة التحديات الإقليمية، وجهود الولايات المتحدة لدعم القيادة الأفريقية في خفْض التوتُّرات، وتبنِّي حلولٍ دبلوماسيةٍ للصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.

إجمالًا:

تتجه الولايات المتحدة لتوسيع انخراطها في غرب أفريقيا، ويتوقع أن تشهد الفترة المقبلة مزيدًا من التحرُّكات الأمريكية، في إطار الاستراتيجية الجديدة، التي تتبناها واشنطن تجاه القارة؛ لمواجهة النفوذ الصيني والرُّوسي المتنامي فيها، وثمَّةَ مؤشرات أوَّلية إيجابية على إمكانية إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في مستقبل العلاقات “الأمريكية – الأفريقية” خلال الفترة المقبلة، والتعاوُن في العديد من الملفات والقضايا المتشابكة ذات الاهتمام المشترك؛ بهدف ضمان وتعزيز المصالح الاستراتيجية للطرفين، إلا أنه يجب عدم إغفال تغيُّر طبيعة البيئة الدولية خلال الفترة الراهنة، خاصَّةً فيما يتعلق بتنامي النفوذ الدولي في غرب القارة، لا سيما النفوذ الصيني والروسي.

كلمات مفتاحية