إعداد: جميلة حسين
تفرض حالة الاضطراب السياسى والأمنى وكذلك تراجع العمل المشترك والتعاون القارى الإقليمى الفعلى لاسيما بين دول غرب إفريقيا بعد توتر علاقاتها مع جيرانها عددًا من التحديات التى تواجه البلاد على المستوى الداخلى والخارجى، وتهدد استقرار أنظمة الحكم وتتيح أفاقًا نحو الأزمات المعقدة، وعليه عزم رؤساء أركان القوات المسلحة لأعضاء “تحالف دول الساحل” الذى يجمع كلا من مالى والنيجر وبوركينا فاسو فى اجتماع نهاية الأسبوع الماضى عُقد فى عاصمة النيجر “نيامى” للإعلان عن قوة عسكرية مشتركة هدفها الرئيسى محاربة الإرهاب النشط على الحدود بين الدول الثلاث، من جانب تنظيمى القاعدة وداعش الأكثر تهديدًا ودموية فى المنطقة والتغلب على التحديات الأمنية التى تواجههم، والتأكيد على عملها فى أسرع وقت وذلك دون تقديم المزيد حول حجم القوة أو صلاحياتها.
ماهية تحالف دول الساحل؟
أعلنت المجالس العسكرية فى كل من دولة بوركينا فاسو ومالى والنيجر فى منتصف شهر سبتمبر عن تحالف دول الساحل أو يعرف بميثاق”ليبتاكو-غورما”، تلك المنطقة الواقعة على حدود مالى وبوركينا فاسو والنيجر والتى تشهد أعمال عنف إرهابية منذ سنوات، وهى تلك الدول التى يحكمها عسكريون منذ أن شهدت انقلابات فى عام 2020 وتواجه أعمال إرهابية عنيفة.
ويعكس هذا التعاون الثلاثى مزيجًا من الجهود العسكرية والاقتصادية، بمعنى آخر يسعى إلى الدفاع الجماعى والمساعدة المتبادلة كما أشار (أسيمى جويتا) رئيس المجلس العسكرى فى مالى، ويهدف فى بداية الأمر إلى الشراكة فى التدريب وتطوير قدرات القوات العسكرية لمكافحة التمرد والإرهاب، نظرًا للتهديدات المستمرة من قبل الجماعات المسلحة لدول الساحل والتى استغلت الاضطرابات الأمنية لإظهار نفوذها والتوسع فى منطقة الساحل وغرب إفريقيا، وكذلك تقوية موقف السلطات الانقلابية الثلاثة فى مواجهة فرنسا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، ويشير الاتفاق إلى “أن أى اعتداء على سيادة وسلامة أراضى طرف أو أكثر من الأطراف المتعاقدة سيعتبر عدوانًا على الأطراف الأخرى”. ومن أبرز العوامل التى دفعت إلى إتمام هذا الاتفاق يتمثل فى التقارب الجغرافى للدول الثلاث مما يسهل عملية فتح الحدود ومرور المساعدات الاقتصادية والقوات العسكرية.
وبعد إعلان الدول الثلاث فى نهاية شهر يناير الماضى انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، وصرحت فى بيان مشترك بأن المنظمة الإقليمية باتت مبتعدة عن آبائها المؤسسين وعن الوحدة الإفريقية، ولعل هذا العزوف والطرح السالف ذكره بين هذا الثلاثى يعكس مرحلة من التنسيق الأمنى والعسكرى ويفتح الباب أمام تطوير مفهوم عملياتى وتشكيل قوة عسكرية مشتركة بإمكانها الحد من قدرة التنظيمات الإرهابية والجماعات المرتبطة بها فى المنطقة والناجم عنها مستويات غير مسبوقة من العنف والتطرف.
تحركات متكررة لمحاربة الإرهاب
من الجدير بالذكر أن تلك ليست المرة الأولى التى يتم الحديث فيها عن تشكيل قوة عسكرية مشتركة للقضاء على الإرهاب، فقد سبق أن أعلنت الدول الثلاث بالإضافة إلى تشاد وموريتانيا فى فبراير عام 2017 اتفاقًا لتشكيل قوة موحدة لمكافحة الإرهاب ومواجهة الجماعات الجهادية فى المنطقة، وحينها صرح الرئيس التشادى (إدريس ديبى) قائلًا “إن الدول الأعضاء فى المجموعة تقع على خط المواجهة ضد الخطر الإرهابى”، وكانت الدول الأعضاء تسعى للحصول على تمويل من الاتحاد الأوروبى لدعم العمليات القتالية ضد العناصر الإرهابى، ولكن تلك القوة ظلت عاجزة عن الإتيان بمرادها وتنفيذ عمليات عسكرية على أرض الواقع بسبب ضعف التمويل والتدريب والتجهيز للعناصر العسكرية.
دلالات تشكيل قوة عسكرية مشتركة
عوائق المشهد السياسى والأمنى:
تشدد التنظيمات هجماتها ضد العسكريين والثكنات العسكرية والمدنيين وتسيطر على مناطق متنوعة مستغلة بذلك طفرة انعدام الأمن المحلى وتفاقم الوضع الأمنى، لاسيما على الحدود الذى مكن بعض التنظيمات من اختراقها والتغلغل فى جميع أنحاء البلاد ووكر لعملياتها الرئيسية وتهريب الأسلحة والذخيرة التى تمكنهم من تنفيذ عملياتهم، ومن ناحية أخرى عدم الاستقرار السياسى والاضطرابات السياسية وضعف الأجهزة السياسية والمحلية لإحكام قبضتها على البلاد وتراجع الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر وانتشار عدوى الانقلابات المسيطرة على غالبية دول غرب إفريقيا، جعل النظم العسكرية الجديدة تستهلك جزءًا كبيرًا من قدراتها الأمنية من أجل فرض وتثبيت حكمها وذلك على حساب توجيه تلك القدرات للحرب على الإرهاب، ولذلك كثفت الجماعات عملياتها الفترات السنوات الأخيرة ووصل العنف إلى أعلى مستوياته وسقط العديد من القتلى والمصابين فى منطقة الساحل عام 2023 مقارنة بالعام السابق له، إلى حد صرح فيه (فلاديمير فورونكوف) وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب قائلًا “الوضع فى غرب إفريقيا ومنطقة الساحل تدهور وبات أكثر تعقيدًا”.
النشاط الإرهابى المتصاعد:
تعكس القوة المشتركة للدول الثلاث محاولة معالجة العنف المتزايد فى المنطقة التى تشهد ارتفاعًا فى معدلات النشاط الإرهابى العنيف لاسيما فى منطقة “ليبتاكو-غورما” الواقعة على الحدود المثلثة بين مالى والنيجر وبوركينا فاسو، والمعروفة بـ “مثلث الموت الحدودى” كأهم مسرح للهجمات الإرهابية فى السنوات الأخيرة، والتى يقوم بها تنظيمى داعش ولاية الصحراء الكبرى وتنظيم نصرة الإسلام والمسلمين التابع لتنظيم القاعدة، ووفقًا لمؤشر الإرهاب العالمى لعام 2023، فإن منطقة جنوب الصحراء الكبرى فى إقريقيا تسجل أكبر عدد من الوفيات الناجمة عن الإرهاب على مستوى العالم بزيادة قدرها 21% مقارنة بعام 2022، وتقع أغلب التأثيرات فى منطقة الساحل الإفريقى حيث تقع خمس من الدول العشر الأكثر تأثرًا بالإرهاب فى هذه المنطقة خلال عام 2023.
بوركينا فاسو تتصدر المرتبة الأولى فى قائمة الدول العشر الأكثر تأثرًا بالإرهاب خلال 2023، ورغم انخفاض معدل الهجمات التى شهدتها العام الماضى بنسبة 16%، إلا أن أعداد الوفيات الناجمة عن تلك الهجمات وصل إلى 1907 ارتفاعًا من 1135 عام 2022، بزيادة قدرها 68%.
وقد تركز ما يقرب من نصف الهجمات الإرهابية التى وقعت خلال 2023 فى شمال غرب البلاد على طول الحدود مع النيجر ومالى، كان أبرزها الهجوم الأكثر دموية الذى نفذه تنظيم داعش فى فبراير من العام ذاته، مما أسفر عن مقتل 71 جنديًا.
بينما مالى احتلت المركز الثالث فى تلك القائمة وعلى الرغم من انخفاض أعداد الوفيات هناك خلال 2023 بعد سبع سنوات متتالية من الزيادات بنسبة 20%، وكذلك نسبة الهجمات إلا أن الهجمات على الحدود مع بوركينا فاسو والنيجر هى المنطقة الأكثر تأثرًا بالإرهاب، حيث وقعت 60% من الهجمات فى تلك المنطقة. فى حين تصاعدت معدلات النشاط الإرهابى فى النيجر التى احتلت المركز العاشر بواقع 61 هجومًا، مقارنة بـ 54 خلال 2022، كما تضاعفت أعداد الوفيات حيث بلغت 468 مقابل 193 حالة وفاة خلال 2022، وللعلم سجلت منطقة “تيلابيرى” الواقعة على الحدود مع مالى وبوركينا فاسو أكبر عدد من الهجمات والوفيات.
الدور الروسى البديل فى غرب إفريقيا:
مع التراجع التدريجى للقوى الغربية والفرنسية فى المنطقة بداية من مالى وبوركينا فاسو، وأخيرًا مع سحب القوات الفرنسية من النيجر توجهت تلك الدول إلى توطيد العلاقات مع روسيا لتعزيز الأخيرة من مكاسبها فى حرب النفوذ مع الغرب، وعليه عقدت الدول الثلاث مع روسيا شراكات عسكرية وأمنية واقتصادية أصبحت بموجبها حليف جديد يعتبر مصدرًا رئيسيًا للحبوب والسلع والأسمدة والتكنولوجيا والأسلحة، وذلك فى مقابل الوصول إلى الموارد الطبيعية واتفاقيات مهمة للقيام بأعمال تجارية بمعنى أخر عملية تبادلية لتسوية الصراعات الإقليمية والكف عن منع تزايد الإرهاب فى المنطقة.
ومن ثم يكشف التحالف الجديد تبديل الدور فى مواجهة التهديدات الإقليمية والمحلية، ليس فقط بالاعتماد على توريد الأسلحة بل بالاعتماد أيضًا على عناصر مدربة ومجهزة من مجموعات فاجنر والفيلق الروسى الجديد التى تتولى مهمة المشورة العسكرية والإمدادات وتدريب الجيوش المحلية وتجهيزها وتنظيم القوة المشتركة، إلى جانب توظيف عناصر الدعم العسكرى الروسى والمعلومات الاستخباراتية الروسية.
مخاوف محتملة
يبدو أن قدرة الدول الثلاث فى مواجهة خطر الإرهاب فى إطار بناء قوة أمنية مشتركة تحدها الكثير من المخاطر والتحديات والتى تثير الكثير من التساؤلات حول قدرتها على الفاعلية والجدية فى الإتيان بأهدافها المرجوة، لاسيما مع التطوير المستمر لأساليب وتكتيكات التنظيمات المتطرفة المعقدة التى تمنح الجماعات الإرهابية فرصتها فى التغلغل وتوسيع رقعتها خاصة فى الدول ذات الأنظمة العسكرية الجديدة مستغلة انشغال القوى الجديدة بإرساء أوضاعها فى المشهد الداخلى، والتى تطلب تنسيقًا جماعيًا فعالًا ومعالجة جذرية لأسباب المخاطر وعدم الاستقرار فى المنطقة. وتأتى أبرز تلك التحديات فى أن تلك الأنظمة فى حد ذاتها أنظمة هشة تعانى من التوترات العرقية والقومية التى تساعد على تصاعد العنف وتحفز عمل التنظيمات الإرهابية. وعلى صعيد آخر، يتطلب جهدًا تنمويًا مشتركًا بجانب الجهد الأمنى والاستخباراتى من أجل تحسين المستوى المعيشى وتقليل نسبة الفقر والهشاشة الاقتصادية كأحد أبرز محفزات تطور الظاهرة الإرهابية فى إفريقيا.
مما سبق؛ مع عزوف بعض دول غرب إفريقيا عن المنظمات الإقليمية والاتجاه لتكوين تحالفات مشتركة من أجل مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة ومستويات العنف المسلح غير المسبوقة، إلا أن القرار الأخير بتكوين قوة عسكرية مشتركة ما زال مجرد قرار قيد التنفيذ فى ظل عدم تحديد حجم تلك القوة العسكرية، ولا آليات تشكيلها ولا مصدر تمويلها، كما أنها محفوفة بعديد من المخاطر وتحتاج إلى مقاربات وإستراتيجيات شاملة وتنسيق خارجى مع الحفاظ على العلاقات مع دول فعالة وقوية بديلة مثل روسيا من أجل الحصول على المعدات العسكرية لمعالجة المشاكل الأمنية المتزايدة، والسماح بتنويع صادرات الأسلحة نحو إفريقيا.