إعداد: جميلة حسين
عزمت قوات الأمن الروسية من تكثيف تحركاتها بعد الهجوم الإرهابى الدموى الذى استهدف موسكو قبل أسبوعين وخلف سقوط أكثر من 140 شخصاً والعديد من الإصابات وتبناه تنظيم داعش فرع خرسان، فى وقت تشهد فيه روسيا قدر من التحولات فى سياساتها الداخلية والخارجية يأتى على رأسها التغير فى العملية العسكرية مع أوكرانيا وتحولها إلى “حالة حرب” بعدما كانت عبارة عن “عملية عسكرية خاصة”. وعليه تسعى موسكو عبر مسؤوليها وأجهزتها المعنية الابتعاد عن أسلمة الهجوم وتشديد إجراءاتها الأمنية من خلال مكافحتها للإرهاب ومجابهة الخطر المتجدد للجماعات الإرهابية وفى مقدمتها داعش خرسان القادرة على التكيف والاستمرارية عبر تبنى إستراتيجية متطورة تتسم بالنوعية وذلك من أجل البقاء وتحقيق التوسع العالمى.
فرض حالة من التأهب القصوى فى روسيا
منذ الهجوم تواصل الأجهزة الأمنية الروسية إجراءاتها العملياتية وتحقيقاتها وفرض حالة الطوارئ والقبض على 11 شخصاً من ضمنهم 4 من المشتبه بهم فى الهجوم، وفى يوم 31 مارس الماضى قامت القوات الخاصة التابعة لجهاز الأمن الفيدرالى الروسى محاصرة مجموعة إرهابية فى أحياء سكنية في مدينتي “محج قلعة” و”كاسبيسك” بجمهورية (داغستان)، وأكدت لجنة مكافحة الإرهاب الروسية فى داغستان أن هؤلاء الأفراد أقروا بصلتهم هجوم “كروكوس سيتى هول” السابق من خلال تقديم الأسلحة والأموال إلى المنفذين لتلك العملية الإرهابية. هذا إلى جانب إعلان رفع مستوى التأمين لمواجهة الإرهاب إلى أعلى درجة كإجراء وقائى.
استمرارية التشكيك فى ضلوع تنظيم داعش بالهجوم
لا زالت تشكك السلطات الروسية فى قيام تنظيم داعش خرسان بالهجوم على المركز التجارى بأحد ضواحى موسكو، بالرغم من الإعلانات المتكررة للتنظيم التى يطرحها حول العملية ومكاسبها يأتى رفض الكرملين التعليق على تبنى تنظيم داعش للهجوم حتى يتم تنتهى اللجنة المكلفة بالتحقيقات الجنائية الكبرى في البلاد من عملها، وفى مقابل ذلك تستمر التأكيدات الأمريكية حول مسؤولية التنظيم عن الهجوم وفى هذا السياق كتبت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية (ماريا زاخاروفا) مقالا لصحيفة “كومسومولسكايا برافدا الروسية” تشككت فيه من طرح الولايات المتحدة الأمريكية حول المسؤؤل عن الهجوم قائلة: “سؤال للبيت الأبيض: هل أنت متأكد من أنه تنظيم الدولة الإسلامية؟ هل يمكنك التفكير في الأمر مرة أخرى؟”.
وبالرغم من أن تنظيم داعش خرسان لديه تاريخ لا بأس به من العمليات الإرهابية فى روسيا منذ 2016 وحتى عام 2019 واستطاعت السلطات الأمنية الروسية بإحباط هجوم مسلح على أحد المعابد اليهودية جنوب غرب العاصمة الروسية، ولكن يبدو أن السلطة الروسية تحاول إلقاء تبعية الهجوم على الجانب الأوكرانى للدفع بالهجوم عبر مسلحون اسلاميون، وتسعى موسكو لإثبات تلك الفرضية دون غيرها واستغلالها لمواصلة حربها على أوكرانيا وتأجيج المجهود العسكرى ضدها نظراً لأنها العدو الرئيسى لها فى الوقت الراهن.
أوراق مشتركة للتقارب مع طالبان الأفغانية
تتلاقى المصالح الروسية الأفغانية فى نقطة مشتركة متمثلة فى مكافحة الإرهاب الذى يعكسه “تنظيم داعش خرسان”، وتصطدم مصالحه داخل معقله الرئيسى أفغانستان مع المصالح الروسية والإيرانية والصينية لإقامة علاقات مع السلطة الجديدة لحركة طالبان الأفغانية، تعتبر ولاية خرسان المنافس الرئيسى لطالبان وبينهما علاقة عدائية تتسم بالتوتر الحاد منذ نشأة التنظيم، وذلك على عكس العلاقة الوثيقة بين الحركة وتنظيم القاعدة ، ويرى تنظيم “داعش” أن طالبان حركة ضالة بعيدة عن تعاليم الإسلام، كذلك جماعة إسلامية مزيفة، وأن أيديولوجياتها “ديوبندية” مضللة. ويسعى داعش من خلال ضرب المصالح الدولية والإقليمية إلى إحراج حركة طالبان والتأكيد على عدم قدرتها على توفير الأمن للقوى الخارجية والبعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية وغير الحكومية ففى سبتمبر عام 2022 شن هجوم على السفارة الروسية فى كابول أسفر إلى سقوط 6 أشخاص إشارة إلى تهديد مصالح موسكو فى كابول.
وقد أعادت الأحداث الأخيرة فى موسكو الزخم مرة أخرى للحوار والتعاون الوثيق مع حكومة طالبان لمحاربة الخطر المحتمل من جانب تنظيم داعش خرسان ومواجهتها، وفى هذا الإطار صرح (دميتري بيسكوف) المتحدث باسم الكرملين قائلاً ” هذا بلد مجاور لنا ونتواصل معه بطريقة أو أخرى، نحن بحاجة إلى حل القضايا الملحة، وهذا يتطلب أيضا حوارا، لذلك في هذا الصدد نتواصل معهم مثل أي شخص آخر عمليا، إنهم السلطة الفعلية في أفغانستان “. الأمر الذى فتح الباب أمام الحديث عن إمكانية قيام الحكومة الروسية برفع حركة طالبان من “قائمة المنظمات الإرهابية” ربما هذا القرار يدفع إلى إقامة علاقات مباشرة بين الطرفين وينعكس بشكل ايجابى بينهم باعتبار ورسيا فاعلة فى المجتمع الدولى، لاسيما بالنسبة لطالبان التى تعانى منذ توليها مقاليد الحكم بسبب هجمات داعش وزيادة حدة النزاع بين الطرفين، وتمدد داعش خارج حدود أفغانستان إلى باكستان وإيران وروسيا، وعليه ربما يكون هناك مصلحة مشتركة من المنفعة المتبادلة التى يحققها التعاون الأفغانى الروسى لمواجهة عدو مشترك، وهو ما يحقق فى نهاية الأمر تداعيات قد تكون إيجابية للطرفين فالبنسبة للطرف الأفغانى الدفع نحو اعتراف المجتمع الدولى بشرعية حكومتها، والحصول على مساعدات تعزز من قدراتها العسكرية فضلاً عن تطوير التنسيق الأمنى والاستخباراتى الذى يساعدها على مكافحة خطر الإرهاب ومواجهة تنظيم “داعش”، وبالنسبة لروسيا إرسال رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية أن حكومة طالبان حليفاً لتحقيق المصالح الروسية فى منطقة آسيا الوسطى.
تنظيم داعش خرسان على الواجهة
تشهد أفغانستان حالة من عدم الاستقرار مع تعاظم أعمال العنف التى يشنها تنظيم داعش ولاية خرسان بداخلها يومًا تلو الآخر باعتباره الفرع الأخطر والأعنف، وتزايدت بعد تولى طالبان مقاليد الحكم حيث تنامى خطر “داعش” من خلال توسيع نفوذه ليصل إلى معظم الولايات الأفغانية، وشن هجماته ضد أقليات شيعية كـ”الهزارة والسيخ” فى أفغانستان، وكذلك الهجوم الذى شنه على مطار “كابول”، وعدد آخر من الهجمات والتفجيرات والكمائن الإرهابية التى شكلت تهديدًا خطيرًا للدولة الأفغانية، وأصبحت فيه كابول للصراع بين تلك الأطراف، ومن أكثر الدول نشاطًا للهجمات الإرهابية، وعليه بات التنظيم أكثر الجماعات الإرهابية عدوانية ودموية، من خلال اتباع استراتيجية تجمع بين استهداف “العدو القريب” المتركز فى أنظمة الحكم المحلية والمذاهب الإسلامية غير السنية كالشيعة والصوفية وغيرها من المذاهب، وبين “العدو البعيد” حيث القوى الغربية وغير الإسلامية المرتكزة ولديها مصالح داخل الأراضى الأفغانية.
وعلى صعيد أخر يوجه تنظيم داعش ولاية خرسان عدد من الانتقادات لتدخلات روسيا فى أفغانستان وسوريا والشيشان، وربما الأول حيث حركة طالبان الخصم الأول بالنسبة لداعش واتصالاتها مع موسكو، وقد يحاول تنظيم داعش من خلال هذا الهجوم الدموى على موسكو إرسال عدة رسال يكمن فى مرونة التنظيم على تنفيذ أهداف خارجية لاسيما داخل عاصمة دولة كبرى لها مكانتها ودورها فى المجتمع الدولى كالدولة الروسية ناهيك عن نظامها الأمنى والاستخباراتى، واستغلال الحرب الدائرة مع الجانب الأواكرانى.
ومن ناحية أخرى الدعاية والقدرة على إثبات السيطرة حيث يسعى التنظيم إلى إرسال رسائل غير مباشرة مفادها قدرته على بث الخطر ومواصلة الهجمات، حتى وإن ضعف تأثيره فى بعض المناطق والولايات كالهيئة التنظيمية لتنظيم “داعش” الأم فى سوريا والعراق فهذا لا يعنى ضعف تأثيره كتنظيم عالمى عابر للحدود، ولكنه باقى ووقادر على البقاء والتمدد فى مناطق أخرى فى العالم.
مما سبق؛ تبدو الإجراءات الروسية عقب الهجوم الذى أصاب البلاد تدفع فى اتجاه تصفية حسابات سياسية لاسيما فى ظل الإدانة الروسية للجانب الأوكرانى بدعمه للهجوم الإرهابى وزيادة الغضب الداخلى ضد جارتها، ومن ناحية أخرى لا يستبعد أن يكون هناك حوار جاد وتقارب بين الحكومة الروسية وحكومة طالبان للالتفاف حول نقطة مشتركة تبدو فى ظاهرها مكافحة تنظيم داعش. أما بالنسبة لتنظيم داعش خرسان الذى يحاول إحياء (الجهاد العالمى) فى ظل الأزمات الداخلية التى تعرقل باقى فروع التنظيم الأخرى، من أجل كسب التأييد للانتشار الواسع وزيادة قوته ونفوذه العالمى.