تحولات الدور الإسرائيلي في المنطقة العربية بعد موجة التطبيع الأخيرة

حسناء تمام كمال

لم تعد بمعزل عن محيطها العربي ولا الإقليمي، فإسرائيل التي وصفت بالعزل عن محيطها الإقليمي لعقود ومنذ وجودها في المنطقة، لم تعد كذلك، فلا خلاف على دورها في تحريك السياسة الأوروبية والأمريكية في سياستهم إزاء المنطقة،  و بموجة من التطبيع استطاعت التغلب على هذه العزلة.

هذا التحول الإستراتيجي، نتج عنه تغير في طبيعة الدور الإسرائيلي في المنطقة؛ إذ أفسح لنفسه مساحةً أوسع للعب دورٍ في محيطها الإقليمي العربي، وإقحام نفسها في عديدٍ من المجالات، مستخدمةً فيه إستراتيجيات مختلفة، هذا بدوره أدى إلى تغير طرأ على طبيعة التفاعلات مع إسرائيل، والرؤى حول هذه المساحة.

 

أولًا: التطبيع بين الموجة الأولى والثانية

إذا افترضنا أن التطبيع تم على موجات، فالأولى: تلك التي أُجريت مع مصر والأردن عام 1976، وذلك في أعقاب الانتصار المصري على إسرائيل، والنجاح في استرداد كافة الأراضي المصرية، وهو ما تم كسبيلٍ لوقف حرب أُخرى تندلع بين الأطراف، وانضمت له الأردن، لم يكن لهذا الاتفاق انعكاسات لتعاون فعلي، فقد كان أقرب لاتفاق يهدف لتجميد الأوضاع على الأرض، ومحاولة الحفاظ على  حدود انتشار  الأطراف ميدانيًّا، فأصبحت  سيناء كاملة تحت السيادة المصرية، فيما بقي جزء من الجولان محتل، بجانب الأراضي التي أُقيم عليها ميناء إيلات.

على مدى العقود التالية للاتفاق، جرت بعض أوجه التعاون المحدودة في بعض المجالات، ومنها  على  وجه التحديد (الغاز)، وكان التطبيع على  المستوى الرسمي فقط؛ لذلك ظلت الموجه الأولى من التطبيع مختلفة بشكل كامل عن الموجة الثانية.

أما الموجة الثانية: والتي بدأت بتطبيع العلاقات مع الإمارات، تلتها السودان، ثم المغرب، كان أكثر كثافة في مستوى العلاقات، متعددًا في جوانب التعاون متسارعًا في وتيرته،  انتجت عن تعاون رسمي مكثف في مجالات عدة حيوية  وله سمات وأهداف جديدة مختلفة كلية عن ماجرى في الموجة الأولى، وفي هذه الورقة نسلط الضوء علي التحولات التي أنتجتها تلك الأخيرة، سواء في الدور أو السمات أو الانعكاسات ، وكذلك مستقبلها.

 

ثانيًا: تيارات عربية متعددة من موجة التطبيع الأخير  

لقد خلقت موجة التطبيع الأخيرة، مواقف عربية مختلفة من التطبيع، وتباينت ردود الأفعال العربية، بين تيار مؤيد صراحةً، وآخر بيني متحفظ، وثالث رافض، ولعل هذا التباين في ردود الأفعال واحد من السمات- السلبية- إذ أحدث انقسامًا حول ثابتٍ، في العلاقات العربية وإسرائيل، ومنها القضية الفلسطينية.

تيار يُبدي ترحيبًا بلا شروط بقيادة الإمارات: قادت الإمارات الموجة الثانية من التطبيع، ورسمت ملامحه الرئيسية، واشتمل التطبيع الذي بدأ في أغسطس 2020، على مبادئ تدعم وجود صفقات سياسية واقتصادية وتجارية، ووعود بوقف خطة الضم، ألحقت بعدد واسع من الاتفاقات، واتفاق للمساعدة في نقل النفط من الإمارات إلى أوروبا، عبر خط أنابيب يربط مدينة إيلات المطلة على البحر الأحمر، وميناء عسقلان على ساحل المتوسط، 4 اتفاقات مشتركة للتعاون في مجالات الطيران والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا، واتفاقية خاصة؛ لإعفاء زوار مواطني الدولتين من تأشيرة الدخول لكليهما، كما تم الإعلان عن صندوق تنمية مشترك مع الولايات المتحدة، بقيمة 3 مليارات دولار،  واتفاق التبادل الأكاديمي والتعليمي، والتناوب للعاملين في المجالات الطبية والطلاب وأعضاء هيئات التدريس، واتفاق  لتعزيز السياحة بين الجانبين، وإلغاء إلزام المسافرين المتنقلين بين الدولتين بالخضوع لبعض الإجراءات الخاصة بمكافحة فيروس كورونا، وشراء حصّة من حقل غاز تمار الذي اكتشفته شركة الطّاقة الإسرائيلية ديليك، والاتفاق على إنشاء خط غاز إيلات عسقلان، بالإضافة إلى تطبيع ثقافي شمل الفنون والسينما.

بهذا الشكل كان التطبيع الإماراتي، تطبيع رأسي وأفقي عميق، خلق نموذجًا جديدًا كليًّا في مضمونة وشكله للعلاقات العربية الإسرائيلية، تقوده الإمارات، وسارت على خطاه الدول التي لحقت الإمارات في موجة التطبيع الثانية، وهي البحرين والسودان والمغرب، فالبحرين التي وقعت اتفاقات في سبتمبر 2020، استزادت عن نسخة الإمارات بتوقيع اتفاق دفاعي، كما وقعا اتفاقًا “يساعد في تعزيز التعاون الاستخباراتي، وإقامة أساس للتدريبات، وتمرير تعاون بين قطاعي (الصناعيات الدفاعية للبلدين).

وعلى غرارهم السودان، التي أعلنت التطبيع في أكتوبر من العام ذاته، أرفقت بهذا التطبيع، وقعت مع إسرائيل اتفاقية لتعزيز التعاون الإستراتيجي، شملت المجالات الأمنية والاستخباراتية وحفظ الاستقرار، وذكر أنها تمهد الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة، والتحقت بهم من شمال أفريقيا المغرب في نوفمبر 2021، والتي وقعت اتفاقًا عسكريًّا وأمنيًّا، وبدأت تعاونًا عميقًا في القضايا الأمنية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية بحرية أكبر، وإجراء تدريبات مشتركة، بعد توقيع مذكرة التفاهم بينهما.

وبذلك قادت الإمارات هذا الاتجاه، وتدعو دول الخليج للانضمام لها، غير أن اتجاه الإمارات هذا، خلق تيارات عربية مضادة لها، رافضة للتوسع في هذا النهج.

 أُخرى متحفظة: بالاتجاه المتحفظ، يأتي آخر من الدول ذات الثقل، على رأسها مصر والأردن، وهما الدولتان اللتان كانتا في الموجة الأولى للتطبيع، وتأتي ردود أفعال هذه الدول بالتحفظ الصريح على ممارسات للتطبيع الكثيف، التي تتجاوز المستوى السياسي والدبلوماسي، والمفارقة أن  مصر ليس لديها مشكلات من حيث المبدأ مع عودة العلاقات مع إسرائيل، لكن على أن يكون ذلك بضوابط، تتناسب مع السياسة العربية والتوجه التقليدي العربي، ومن ناحية أخرى بالشكل الذي يكون هذا التطبيع مساهمًا في تسوية القضية، خصوصًا فيما يتعلق بمعالجة الأزمات الإنسانية التي تسبب فيها، بجانب ألا يخل هذا التطبيع بتوازنات القوى في المنطقة.

وتقف الأردن مع مصر بالاتجاه ذاته، فتحركات الأردن تأتي لتكون فاعلةً باتجاه الأزمة السورية، وانضم وزير الخارجية السعودي لنظيريه، بخلق تيار معتدل في التعامل مع الجانب الفلسطيني، وقد  بدا ذلك في الدعم المصري الأردني لمشروعات إعادة الإعمار في غزة.

وثالثة رافضة: وتأتي التيار الثالث الرافض للتطبيع بقيادة الكويت و دولة قطر الذي أكد وزير خارجيتها “محمد عبد الرحمن آل ثاني” أن قطر لن تُطبِّع مع النظام الإسرائيلي، وكذلك الكويت التي أكدت دعم خيارات الشعب الفلسطيني، بإقامة دولة مستقلة على حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية، كذلك رفضها التام للتطبيع، وتقف في الصف ذاته كلٌّ من الجزائر  وتونس، فقد أكدت الأولى  على استبعاد أي شكل من أشكال التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في عهد الرئيس تبون، ومحورية القضية الفلسطينية ستكون من ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية، وكذلك تونس التي وصفت التطبيع  بأنه خيانة كبرى، وكذلك اليمن، فقد  أعلنت حكومتها رفضها أي تطبيع، وأكدت وقوفها إلى جانب فلسطين وقضيته.

 

 ثالثًا: دوافع وسمات التطبيع

ولعل هناك تساؤلًا عن طبيعة دوافع التطبيع، فمن ناحية إسرائيل، فدوافعها في الدولة الدينية، والتي تبدأ بالانغماس في محيطها الإقليمي، بجانب تحديات مرحلية مرتبطة، بالتحالف ضد إيران، بالإضافة إلى تراجع حليفها الأمريكي من المنطقة، وبالتالي، فإنها بحاجة لإحلال هذا التراجع بشريك إقليمي آخر، ومعظمها دوافع ارتبطت بإسرائيل منذ تواجدها.

أما من ناحية الدول العربية، فتبقى الدوافع مستجدة نسبيًّا – أي ليست أصلية- خصوصًا في ظل التحول في ثوابت التفاعل مع القضية الفلسطينية، وفي هذ الصدد، نحاول استقراء أهم الدوافع العربية.

 تطلعات الدور الإماراتي:

يكمن التطلع الرئيسي للتحرك الإماراتي بالتطبيع مع إسرائيل، هو رغبة في أن تلعب دورًا إقليميًّا رئيسيًّا في المنطقة العربية، وأن تكون الحليف الأكبر الذي يتصدر صناعة القرارات المصيرية بخصوص المنطقة العربية، رأت الإمارات أن نقلة تجاه الدور الإقليمي المنشود يأتي بالتحرك لاختراق الملفات ذات الحساسية والممتلئة بالصعوبات  في المنطقة العربية، وخصوصًا تلك الملفات المرتبطة بمصالح عالمية،  لخدمة هذه الأهداف، وتسخير  السياسات الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية، وبالفعل اخترقت قضايا، ظل العديد من الدول العربية ذات القوة متجنبًا لحسمها، ومن ثمَّ، فان الإمارات تنفرد وحدها بمسؤولية تحديد المسارات الدولية التي تتحرك فيها بدبلوماسية مرنة ومنفتحة على الجميع من دول جوار، أو من دول أخرى خارج هذا الإطار الجغرافي الضيق، وفق ما تمليه مصالحها الوطنية؛ لتخلق بذلك  عقيدتها الدبلوماسية الجديدة التي تتحرك بها بوتيرة متسارعة.

بدأ هذا الاختراق بالدخول في مسار التطبيع مع إسرائيل، ولم تعبأ حكومة بموقف الدول العربية، كما لم تضع تسوية القضية الفلسطينية في الاعتبار، وسخرت لها سياستها وقوتها ؛ لتنافس بذلك القوى الخليجية، والإقليمة العربية الأخرى، وبالفعل قدمت  نموذجها في التطبيع، وجذبت إليه دولًا أخرى؛ لتكون رائدة هذه الموجه، ونجحت في تقديم نفسها كحليف إستراتيجي لدول العالم الأخرى، بإبداء هذا القدر الكبير من التطويع لسياستها بما يخدم قيادتها، بصرف النظر عن الاتساق مع المحيط العربي الإقليمي وقياداته.

 الاتجاه ناحية التحالفات الثنائية والجماعية: بعد أن كان التواجد الأمريكي هو الأكبر على الإطلاق، بدأ يشهد تراجعًا، وفقًا لعدد من المحددات، سواءً الهيكلية أو المرحلية، التي تواجهها الولايات المتحدة، والتي أسفر عنها تراجع تواجدها انخراطها العسكري، بشكل عالمي، انعكس ذلك في الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وترك الساحة لطالبان، وتراجع تواجدها العسكري في الشرق الأوسط بشكل عام،  والاتجاه  نحو القضايا  الداخلية، من ناحية أخرى، فإن تصاعد التواجد الصيني في أفريقيا وفي أسيا، وتجاوز مداه السياسية، جعل هناك حالة تنامي بالاتجاه العالمي، ناحية الاستعاضة عن  الأقطاب بالتحركات والتحالفات الثنائية وبعض الجماعية، وهو ما دفع بسياسية عربية متحررة من فكرة التوافق الجماعي، قائمة على المصالح الفردية.

 تسوية قضايا معلقة: إذا كان للإمارات تطلعات بالدور والقيادة، فكان للسودان والمغرب –  فكان للمغرب والسودان تطلعات أخرى؛ إذ تسعى كلاهما للدعم في ملف إستراتيجي عالق، فتسعى الأولى لأخذ خطوات واسعة، تمكنها من حسم ملف الصحراء لصالحهما، وبالفعل  كانت  نتيجة التطبيع اعتراف أمريكي  بمغربية الصحراء الغربية، أما من ناحية السودان، فتسعى إلى التخلص من عزلة  دولية فرضت عليها  منذ فترة  البشير، وبالتالي، إعطاؤها مساحة أوسع.

و يمكن القول: إن إسرائيل قدمت ما كانت تأمل فيه منذ سنوات، لكن التحور الرئيسي كان من الاستجابة التي أبدتها الدول العربية على هذه العروض، أن دوافع الأخيرة هي التي كانت أكثر تحريكًا لمسار التطبيع وشكله.

 هذه الدوافع أنتجت تطبيعًا بسمات جديدة، ميَّز  بها هذا التطبيع من ناحية، وساعد في رسم مستقل هذه العلاقات من ناحية أُخرى، ونشير فيما يلي لأبرز هذه السمات:

سريع: إذا جرت الاتفاقات بشكل سريع نسبيًّا، فقد تتابعت الدول على الدخول في موجة التطبيع، هذا من ناحية، كما أن ملحق الاتفاقات المتممة للتطبيع، تأتي بشكل سريع بعد الاتفاقات، ويأتي التنفيذ لهذه البروتوكولات بشكل لاحق، تأتي هذه السرعة بشكل لا يُؤْبَهُ فيه لأي ردود أفعال حول الأزمة.

طويل الأمد: وهذه السمة ميَّزت بروتوكولات التعاون الملحقة بالاتفاق، فلا يقلُّ مدة هذه الاتفاقات عن خمس سنوات، وتصل إلى عدة عقود، وخصوصًا في الملفات المرتبطة بالطاقة، وبالأمن والدفاع؛ ما يجعل هذه الاتفاقات راسمةً للمستقبل البعيد، بعددٍ من الملفات.

كثافة في البعد السياسي: وهي الركيزة التي تؤدي إلى تمتع هذه العلاقات بالرسمية والشرعية السياسية، تمثَّلت هذه الكثافة، في زيارات سياسية، متبادلة بين المسؤولين بدرجاتهم المختلفة، ومواقف سياسية مشتركة من بعض القضايا.

كثافة في البعد الاقتصادي: بالرغم من أن التطبيع السياسي أعطى العلاقات صفة الرسمية، إلا أن التطبيع الاقتصادي أكسبها الكثافة والتشبيك، وأغلب اتفاقات الشراكة التي ألحقت بالاتفاقات السياسية، شملت اتفاقات في مجالات (الطاقة، والتعاون التجاري، والسياحة)، وغيرها من المجالات التي إن لم تكن تصب في مصلحة التجارة بشكل مباشر، تفعل بشكل غير مباشر، كالاتفاقيات الأمنية والعسكرية.

تعاون دفاعي عسكري: هذا التعاون دفاعي عسكري، في شكله وهدفه الأول، يمكن رؤية هذا بوضوح في الاتفاق الذي عقدته المغرب، والتي أسمته بالبروتوكول العسكري الأمني، وكذلك فرص التدريب التي وفَّرتها للجيش السوداني.

 

رابعًا: الانعكاسات

انعكاسٌ على قضايا مختلفة: أكَّد هذا التطبيع لملمح المواقف الثنائية، أو بعض الجماعية، في مقابل تراجع المواقف الجماعية، منها الموقف من عودة سوريا للجامعة العربية، فعلى غرار التباين الذ ي خلقه التطبيع، وجعل هناك تيارات عربية متعددة من التطبيع، بدا أن هذه التيارات لها مواقف أكثر تقاربًا في ملفات مختلفة، ومنها على سبيل المثال؛ الموقف العربي من عودة سوريا للجامعة العربية؛ إذ تباينت ردود الأفعال العربية، بين تعليقات صريحة، وأُخرى ضمنية من الموقف حول عودة العلاقات الدبلوماسية بالمحيط العربي، وتمثيلها بالجامعة العربية، فالإمارات والجزائر تدعوان للعودة بلا شروط، وتقف بالاتجاه ذاته (الإمارات)، فطالبت بإلغاء تعليق العضوية.

وهناك أُخرى متحفظة، على رأسها (مصر والسعودية والأردن)، وتأتي ردود أفعال هذه الدول بالتحفظ الصريح على دعوات إعادة التمثيل الرسمي الدبلوماسي، وتقف الأردن مع مصر بالاتجاه ذاته، الذي يؤكد وزير الخارجية الأردني، لا توجد أي خطط باتجاه زيارة سوريا قريبًا، وانضم وزير الخارجية السعودي لنظيريه المصري والأردني، وثالثة رافضة، وتأتي الأُخرى من التعامل مع الملف السوري، دولة قطر الذي أكد وزير خارجيتها “محمد عبد الرحمن آل ثاني”، أن قطر لن تُطبِّع مع النظام السوري؛ لتؤكد عدم الإجماع العربي، بشأن عودة سوريا للجامعة العربية، وهناك دول عربية أُخرى لديها وجهة النظر ذاتها.

تهدئة التنافس العسكري بين إسرائيل والخليج: بجانب الفارق في القدرات العسكرية والخبرات القتالية، فدول الخليج وإسرائيل لم يعد يهدد كلٌّ منهما الآخر، وبالأخذ في الحسبان العقيدة القتالية الإسرائيلية القائمة على تأمين العُمْق، والسيطرة على المحيط الجغرافي، وإقامة مناطق عازلة، وكونها لا تؤمن بالقفز على الموانع الجغرافية، فنجد أن حالةً من تهدئة المنافسة، وهذا تحول كبير إستراتيجيًّا ونوعيًّا في طبيعة التوزان والقدرات الأمنية لمنطقة الخليج العربي بالتحديد.

حالة من الانفتاح غير المشروط  ومبادئ جديدة للتعاون: بجانب أن النهج الإماراتي في التطبيع يرسي لشكل جديد من العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، فإنه كذلك يرسي لإستراتيجية جديدة في الدور العربي في قضايا مختلفة، أي أنه يحفز قيام مواقف منفردة في ملفات أُخرى مماثلة، والانفتاح على أدوار عربية، أكثر تحررًا من صالح الجمع العربي، وعلى رأسِ هذه الملفات،  الموقف من التعاون مع الجانب الإيراني.

خامسًا: مستقبل الدور “هل سيُؤْتِي التطبيعُ أُكُلَهُ؟”

عوّل على هذا التطبيع، ورغم التحديات الكبيرة التي أعترت عملية التطبيع والتحفظات العربية، خصوصًا على المستوى العربي، إلا أن هذه الدول كانت تضع عدة دوافع أمامها، تسعى وراء تحققيها، وفي هذا الصدد، نحاول تقييم مدى إمكانية تحقيق الأهداف المأمولة، والمعوِّقات التي تعوق تحويل تلك التطلعات إلى واقع.

  تطلعات الدور الإماراتي: بالنظر إلى تطلعات الجانب الإماراتي في قيادة دور إقليمي، قادر على تصدر العديد من الملفات العالقة، وهذا تطلع ربما يتحقق للإمارات، بدأت أولى علامات تحقيقه، في قطار التطبيع المماثل للتطبيع الإماراتي الذي لحق بها، لكن من ناحية أخرى، يبقى الدافع العسكري الذي حرَّك الإمارات، وهو التأمين من الخطر الحوثي بعيد المنال، ويبقى تحقيق  التعاون العسكري غير مضمون النتائج، بل سيعود بنتائج عكسية، فقد خلق ما يشبه جرأةً لدى التنظيمات المسلحة في الخليج على استهداف بعض المواقع، والمصالح الإماراتية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛  نكايةً في  إسرائيل، وهو ما رأيناه بالفعل  في استهداف الحوثي للعُمْق الإماراتي، في يناير مطلع العام الجاري، في تطور لنوعية الأهداف والدول المستهدفة.

 تشرذم في الأدوار: مرتبط باقتطاع كل دوله من سياقها العربي، فخيار منح الدول علاقتها بقدْرٍ من الحرية، والترويج لسياسة خدمة المصالح الفردية، يبقى في باطنه مستقبلٌ مليءٌ بتخوفات من أن تنتهي هذه الحرية باقتطاع الدول من سياقها العربي، وبالتالي، الاجتزاء من قوتها.

تصعيد إيراني إسرائيلي بالوكالة: لن تخلو الساحة من الحرب بالوكالة، فالتهدئة الخليجية، وتقليل التنافس الخليجي، يجعل الأطراف تبحث عن ساحة أخرى، وبالأحرى التوجه لعدو آخر، ومن هنا تظهر كثافة وتصاعد أعمال والمباراة الإيرانية الإسرائيلية، وهذا نراه بوضوح في كثافة الهجمات الإسرائيلية، سواء في العدد أو القوة على المنشأة التابعة لإيران في سوريا، من ناحية أخرى، قد نجد من العراق ساحةً لتعزيز هذه التنافس؛ إذ إن التصعيد بالوكالة بين إسرائيل وإيران قد يجد مكانه في سوريا والعراق.

الاندماج الثقافي الكرهي: لعقودٍ خلق العرب وفي عقلهم الجمعي، قناعة بأن إسرائيل هي العدو الأكبر، وقلب هذه الحقيقة، قد يؤدي إلى نتائج عكسية.

 

 الخاتمة :

إن مسألة التطبيع الأخير الذي وقعته عدد من الدول العربية  مع إسرائيل أدى إلى طرح العديد من  التساؤلات، حول الدور الذي تلعبه إسرائيل في المنطقة العربية ،فأصبحنا نرى تواجد مختلف للجانب الإسرائيلي في المنطقة العربية عن هذا المعهود منذ عقود وهذا يدفع إلى القراءة المتأنية في طبيعة هذا الدور  ومستقبله، ومحددات  التفاعل معه.

وفي هذه الدراسة وجدنا أن دوافع الدور والمصالح الخاصة بدول عربية كانت الأكثر تأثيرًا في أتجاه وقوة التطبيع، أما الجانب الإسرائيلى فقدم ما كان يعرض منذ سنوات، واستخدمت في تطبيقه  عدد من الاستراتيجيات التي تحاول من خلالها إرساء دعائم جديدة  للدوري الإٍسرائيلي في المنطقة ، وأن اسرائيل قبل التطبيع كانت قادرة على تحريك عدد من المواقف الدولية الإقليمية في عدد من القضايا الهامة، لذا متوقع أن تزداد حدود هذا الدور  بعد  أن أصبحت لديها علاقات وتعاون رسميين، بعد التطبيع.

وبعد أن سلطنا الدور علي دوافع التطبيع و  كيف اتخذ خطوات التطبيع في مختلف الملفات، تأكد أن أن  الدور الاسرائيلي بعد التطبيع أصبح متغير رئيس  في معادلة توازنات  القوى في الشرق الأوسط ، وقدرته علي أن يشكل محور قوي جديد ، لكن بالحديث عن كفاءة  هذا الدور المؤكد أنه ليس من الصالح ولا المفيد اعطاء اسرائيل هذا الثقل الاستراتيجي، وأولوياتها  التي تصدرها تكون على حساب أولويات الدول العربية،  وأن إسرائيل لا يمكن ان تكون شريك استراتيجي  يعتمد عليه في الفترة الحالية ، بجانب أن ليس هي الطرف الذي يمكن أن يعتمد عليه لإحداث توازن حقيقي يضمن مصالح الأطراف بقدر متساو ويأخذها على قدر من الأهمية.

ومع  ذلك فيمكن القول بأن هذا العلاقات  مازال بالإمكان إعادة ضبطها  من قبل  الدول المطبعة من طالما كان التطبيع في مراحله الأولي وهذا يجب ان يكون الهدف الجديد لدول المنطقة ، وما يجب أن تصاغ وفقا لها سياساتها الخارجية في هذا الملف .

كلمات مفتاحية