إعداد أحمد محمد فهمي
بعد إعلان الحكومة الاتحادية فى بغداد عزمها تسليم مبنى قيادة العمليات المشتركة فى محافظة كركوك إلى الحزب الديمقراطى الكردستانى، والذى كان مقرًا للحزب الكردى قبل استعادة القوات الأمنية العراقية سيطرتها على المحافظة بعد الأحداث التى تلت الاستفتاء الذى أجرى فى إقليم كردستان بشأن الانفصال عن العراق، خرجت تظاهرات من المكونات التركمانية والعربية فى المدينة احتجاجًا على هذا القرار.
أدت تلك الاحتجاجات إلى قطع الطريق الرئيسى الذى يربط بين كركوك وأربيل فى كردستان العراق، مما تسبب فى خروج تظاهرات من المكون الكردى فى المدينة، مطالبين بإعادة فتح الطريق، وقد وقعت اشتباكات بين الجانبين سرعان ما تطورت إلى إطلاق نار، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 4 أشخاص وإصابة 15 آخرين بجروح.
ونتيجةً للتصعيد الخطير فى المحافظة، أعلن رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى حظر التجوال فى المدينة بهدف منع تصاعد العنف، ونشر قوات إضافية للحفاظ على الأمن فى المحافظة. فيما بعد، أكد قائد شرطة كركوك فى شمالى العراق رفع حظر التجوال عن المدينة وضواحيها وعودة الاستقرار إليها، وفتح الطريق بين المدينة المضطربة وأربيل فى إقليم كردستان العراق.
وبالتزامن مع هذه الأحداث، أصدرت المحكمة الاتحادية العليا أمرًا بإيقاف إجراءات تنفيذ إخلاء مقر قيادة العمليات المشتركة وتسليم المقر للحزب الديمقراطى الكردستانى.
وانطلاقاً مما سبق، يتناول هذا التحليل معرفة أبعاد هذه الأزمة وتداعياتها على الاستقرار السياسى والأمنى فى العراق.
أولًا: البعد التاريخى وجذور الأزمة
التغيير الديمغرافى فى كركوك
تتنوع تكوينات السكان فى مدينة كركوك بمزيج متنوع من العرقيات والأديان والمذاهب، حيث يسكن المدينة مجتمعات متعددة تشمل الأكراد والعرب والتركمان والآشوريين والكلدان والأرمن، كما ينقسم السكان العرب والتركمان والأكراد إلى مجموعات دينية متنوعة بين مذهبى السنة والشيعة. بالإضافة إلى ذلك، هناك وجود لأديان أخرى مثل الصابئة المندائيين والديانة الإيزيدية.
وفيما يتعلق بالإحصاءات، توثق إحصاءات الحكومة العراقية التى قدمتها للجنة عصبة الأمم عام 1924 التوزيع السكانى لمكونات كركوك كالتالى: نسبة سكان الكرد (42.5%)، ونسبة سكان التركمان (23.4%)، ونسبة سكان العرب (31.9%). وفيما يخص إحصاءات عام 1957، تشير إلى النسب السكانية إلى التالى: الكرد (48.2%)، العرب (28.2%)، والتركمان (21.4%).
ومع ذلك، تعرضت المحافظة لعمليات تغيير ديمغرافى وسياسة تعريب أثرت على التكوين القومى لسكان المحافظة، ويُعتقد أن بداية هذه العمليات كانت فى عام 1968، حيث تم ترحيل الكرد خارج كركوك واستقدام العرب إلى المحافظة، وشهدت هذه العمليات تسارعًا فى انتشارها منذ بداية السبعينيات من القرن الماضى بعد تثبيت نظام البعث فى العراق.
وفى عام 1977، شهدت النسب تغييرًا جديدًا لتصبح كالتالى: الكرد (38%)، العرب (45%)، التركمان (17%). وفى تعداد سنة 1997، تغيرت النسب السكانية لمكونات كركوك مرة أخرى لتصبح على النحو التالى: الكرد (21%)، العرب (72%)، والتركمان (7%).
تصاعد الخلافات العرقية بعد الاحتلال الأمريكى
بعد احتلال القوات الأمريكية للعراق فى 9 أبريل 2003، أصبح وضع مدينة كركوك معقدًا للغاية، حيث سعت جميع المكونات العرقية فيها (الكردية – العربية – التركمانية) إلى تأكيد حقوقها التاريخية والجغرافية تحت مجموعة متنوعة من المبررات، وقد شهدت هذه القضية تصاعدًا خطيرًا بعد أن أصبح المكون الكردى قوة سياسية مؤثرة فى العراق، واحتلت قضية ضم كركوك إلى إقليم كردستان العراق الصدارة فى القضايا التى طالبوا بها، وفى سبيل تحقيق ذلك استطاع الأكراد فى مرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكى للعراق جلب 600 ألف كردى إلى كركوك تحت شعار “التكريد”.
وبعد سيطرة حزبى الحزب الديمقراطى الكردستانى (البارتى) والاتحاد الوطنى الكردستانى (اليكيتى) على شمال العراق، نجح الأكراد أيضًا فى فرض سيطرتهم على محافظة كركوك إلى حد كبير، وذلك عبر استغلالهم حالة الفراغ السياسى والفوضى التى عمت البلاد بعد سقوط نظام الرئيس السابق صدام حسين فى عام 2003.
ونتيجة لذلك، أصبحت قضية كركوك نقطة توتر رئيسية بين الأكراد والحكومات العربية فى بغداد. وفى هذه المرحلة، شدد الأكراد على القضية الكردية فيما يتعلق بكركوك واحتكموا إلى فكرة ضمها إلى إقليم كردستان العراق، وتم التأكيد على أن كركوك هى مدينة كردية، وكان شعار حزب الحزب الديمقراطى الكردستانى لكركوك هو “كركوك قلب كردستان”، بينما كان شعار الاتحاد الوطنى الكردستانى “كركوك قدس كردستان”.
المادة 140 من الدستور العراقى
فى عام 2003، أصدر بو بريمر، الحاكم المدنى الأمريكى للعراق آنذاك، قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية والذى أُصدر عام 2004، وأظهرت المادة رقم 58 من هذا القانون تخصيصًا لتنظيم الأوضاع فى محافظة كركوك، وذلك نظرًا للخلافات القائمة بين الأكراد من جهة والعرب والتركمان من جهة أخرى. ومع ذلك، ونتيجة لعدم تحقيق توافق شامل بين جميع الأطراف فى كركوك، تم نقل هذه القضية إلى الدستور العراقى الذى جرى استفتاء عليه فى أكتوبر 2005.
وجاء دستور عام 2005، الذى تضمن المادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها فى العراق كحالة كركوك، وتم تعريف هذه المناطق بأنها تلك التى تعرضت للتغيير الديمغرافى وسياسة التعريب فى عهد نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، خلال فترة حكمه من عام 1968 حتى إسقاطه خلال الغزو الأمريكى فى أبريل 2003، وقد نصت المادة على آلية تتضمن ثلاث مراحل: أولها التطبيع، وهو يعنى معالجة التغييرات التى طرأت على التركيبة السكانية فى كركوك والمناطق المتنازع عليها فى عهد نظام صدام وبعده، والثانية هى الإحصاء السكانى فى تلك المناطق، والمرحلة الأخيرة تشمل الاستفتاء لتحديد ما يريده سكان تلك المناطق، وذلك قبل 31 ديسمبر 2007.
جاء الموقف الكردى مؤيدًا للمادة 140، معتبرين أنها الحل الوحيد لحل مشكلة كركوك، فى المقابل جاء الموقف العربى والتركمانى رافضًا لإقرارها بسبب قلقهم من سياسة الأكراد تجاه كركوك ومخاوفهم من احتمال ضمها إلى إقليم كردستان فى حالة تم تنظيم استفتاء فى المدنية، وهو ما قد يشير إلى احتمال تعرضهم لموجة تغيير ديمغرافى فى المحافظة فى حال طبقت هذه المادة، مع رغبتهم فى تحقيق وضع خاص لكركوك.
وفى ضوء هذه التطورات المعقدة، وبناءً على التعقيدات المتنوعة التى تخص المادة 140، لم تجد هذه المادة الدستورية طريقها إلى التنفيذ من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة. بالنتيجة، أصبحت تلك المادة محل جدل دائم بين مختلف الأطراف، سواء بالنسبة لقانونيتها أو لأسباب أخرى تتعلق بالسياسة والاستقرار.
دور التهديدات الأمنية لتنظيم “داعش”
بعد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” سيطرته على مدينة الموصل فى يونيو عام 2014، وهى ثانى أكبر مدينة فى العراق، فرضت قوات البيشمركة الكردية سيطرتها العسكرية على عدة مناطق منها محافظة كركوك، وذلك بهدف حمايتها من أى هجوم من قبل تنظيم “داعش” الإرهابى، بعد الانهيار السريع لقوات الجيش العراقى أمام التقدم السريع لقوات التنظيم الإرهابى، وقد نجحت قوات البيشمركة بالفعل فى صد العديد من الهجمات المتتالية للتنظيم الإرهابى لاحتلال المحافظة.
وبعد شهور من سيطرة القوات الكردية على كركوك، أعلن رئيس إقليم كردستان العراق آنذاك، مسعود بارزانى، أن هدف قواته هو حماية كركوك من السقوط فى يد تنظيم “داعش”، لكنه شدد على أن كركوك هى مدينة كردستانية وهويتها كردستانية، وأن مصيرها سوف يتحدد بناء على الاتفاق الذى تم التواصل اليه من خلال (تطبيع – إحصاء -استفتاء) لأهل كركوك.
لكن فى المقابل، رأت بغداد أن الوجود العسكرى للأكراد فى كركوك هو تطبيق إجبارى للمادة 140 الخاصة بمستقبل كركوك بعد المحاولات الفاشلة المتكررة لتطبيق المادة، ووصل الأمر إلى اتهام رئيس الوزراء العراقى السابق نورى المالكى الأكراد بالتآمر مع “داعش” فى الموصل تمهيدًا لتقسيم العراق.
عودة كركوك إلى سيطرة بغداد
تحولت إستراتيجية حكومة كردستان من التأكيد على الديمقراطية وبناء الدولة العراقية إلى الادعاء بفشل الشراكة مع بغداد، وذلك من خلال تسليط الضوء على الجوانب السلبية للحكومة المركزية، وادعاء فشل بغداد فى احتضان المطالب الدستورية لكردستان، مما دفعها نحو اتخاذ قرار الاستفتاء من أجل الانفصال عن الدولة العراقية وتأسيس دولة كردستان المستقلة.
وبعد تنظيم الاستفتاء فى سبتمبر عام 2017، جاءت النتيجة لصالح الاستقلال بنسبة 92.7%، وعلى الرغم من نجاح الإقليم فى تنظيم الاستفتاء، إلا أنه فشل فى تحقيق النتائج المرجوة منه فى الحصول على الاعتراف الدولى باستقلال الإقليم، مما أجبر إدارة الإقليم لاحقًا إلى “تجميد” النتائج، بدلا من إلغائها.
فى المقابل وكرد فعل على تنظيم الاستفتاء، أعلنت الحكومة العراقية رفض هذا الإجراء، وأى نتيجة تستند إليه، واعتبرته انتهاكًا صريحًا للدستور الفيدرالى وسيادة دولة العراق، واتخذت عدة إجراءات لمعاقبة إقليم كردستان، منها إصدار رئيس الوزراء العراقى آنذاك حيدر العبادى، أوامره للجيش العراقى وقوات الحشد الشعبى بفرض سيطرتهم على مدينة كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها بالإضافة إلى الحقول النفطية الموجودة فيها والتى حملت اسم «فرض القانون»، بعد ثلاث سنوات من سيطرة قوات البيشمركة، واستطاعت القوات العراقية دخول كركوك حيث انسحبت معظم قوات البيشمركة بدون أى قتال يُذكر، وأغلقت مقرات الحزب الديمقراطى الكردستانى والتى كانت تبلغ 33 مقرًا.
ومنذ سيطرة القوات العراقية على كركوك فى عام 2017، لم يتمكن الأكراد من التوصل إلى حلول مع بغداد بشأن قضية كركوك، لكن تغيرت الديناميات بعد أزمة تشكيل الحكومة فى عام 2021، وتمكنت الأطراف فى إطار المفاوضات السياسية من التوصل إلى تسوية تسمح للحزب الديمقراطى الكردستانى بإعادة فتح مقاره فى كركوك. وفى المقابل، قرر الحزب الديمقراطى الكردستانى الانضمام إلى الائتلاف الحكومى، مما أدى إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد شياع السودانى.
ثانيًا: تطورات الأزمة الحالية
خلفية وبداية الأزمة
بعد الانتخابات التشريعية التى جرت فى أكتوبر 2021 والتى شهدت فوز التيار الصدرى بالأغلبية، تعثر السياسيون العراقيون لعدة أشهر فى تشكيل حكومة جديدة. ونتيجة لهذا العجز، أدخلت البلاد إلى حالة من الانسداد السياسى تسببت فى تفاقم الأزمات، وصل هذا الأمر إلى استقالة جميع النواب التابعين للكتلة الصدرية الفائزة بالأغلبية البرلمانية، وعددهم 73 نائبًا.
وقد ساعدت تلك الاستقالة الجماعية على إعادة تشكيل التحالفات بين الكتل السياسية الأخرى فنتج عنها تشكيل ائتلاف تحالف “إدارة الدولة” بعد حوالى سنة من الانتخابات، ويتألف هذا التحالف من الإطار التنسيقى الشيعى، والحزب الديمقراطى والاتحاد الوطنى الكرديين، وتحالفى السيادة وعزم السنيين، وحركة بابليون المسيحية، بالتالى أصبح الائتلاف أكثرية نيابية، وتم تشكيل الحكومة فى 27 أكتوبر 2022 برئاسة محمد شياع السودانى.
وانضمت الأحزاب الكردية إلى هذا التحالف بعد التوصل إلى تفاهمات بشأن القضايا الخلافية بين أربيل وبغداد، مثل مسائل النفط والغاز، وكذلك أيضًا الاتفاق حول إعادة تسليم مقار الحزب الديمقراطى الكردستانى برئاسة مسعود بارزانى فى مدينة كركوك، بدءًا من تسليم المبنى بعد أن كانت تشغله القوات الأمنية.
نتيجةً لذلك، أصدر رئيس الوزراء محمد شياع السودانى قرارًا فى 24 أغسطس لبدء عملية تسليم المقار، مما أثار احتجاجات شعبية واسعة قادها المكونان العربى والتركمانى اعتراضًا على هذه الخطوة. وفى 25 أغسطس، وخلال هذه الاحتجاجات تم قطع الطريق الذى يربط كركوك بإقليم كردستان العراق، وأثار هذا الإجراء احتجاجات أخرى من قبل أنصار الحزب الديمقراطى الكردستانى فى 2 سبتمبر 2023. ونتيجةً لهذه التطورات، قرر السودانى تأجيل إخلاء المقار وتسليمه إلى الحزب الديمقراطى الكردستانى.
أسباب رفض العرب والتركمان
بعد سيطرة القوات العراقية على مبنى قيادة العمليات المشتركة فى كركوك فى أكتوبر 2017، يعتبر المكونان العربى والتركمانى هذا المبنى رمزًا للاستقرار والأمن فى المحافظة بعد مضى ثلاث سنوات من سيطرة الحزب الديمقراطى الكردستانى عليه، ويرون أن إعادة المبنى إلى سيطرة الحزب هى خطوة تمهيدية لعودة كركوك تحت سيطرة المكون الكردى، الذى يسعى بقوة لفصل كركوك وضمه إلى إقليم كردستان من خلال تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقى، ولذلك يعتبرون عودة الحزب إلى المدينة مجددًا تهديدًا أمنيًا.
بالإضافة إلى ذلك، يتهمون الحزب الكردى بارتكاب جرائم قتل واختطاف واختفاء قسرى وتهديد وترحيل قسرى وتمييز بين المكونات، بجانب انتهاك حقوق ومكتسبات المكونات العربية والتركمانية أثناء فترة سيطرته على كركوك، وذلك لصالح المكون الكردى.
وتعكس مخاوف العرب والتركمان بشأن عودة مدينة كركوك إلى سيطرة الأكراد العديد من الجوانب والتحديات السياسية والأمنية والاقتصادية المعقدة المرتبطة بالوضع فى هذه المنطقة. وتشمل هذه المخاوف قلقًا متزايدًا من تصاعد التوترات بين مكونات المدينة، مما يزيد من احتمالية حدوث صدامات واضطرابات فى المنطقة، كما يثير تسليم مقر قيادة العمليات المشتركة فى كركوك إلى الحزب الديمقراطى الكردستانى مخاوف إضافية بين العرب والتركمان، حيث يُخشى أن يُستغل هذا الحدث من قبل الأكراد لتحقيق أهداف سياسية تخدم مصلحتهم الخاصة وتزيد من تمكينهم فى المنطقة، خاصة فى ظل الاستعدادات لتنظيم انتخابات المحافظات أواخر العام الجارى.
الموقف الكردى
جاء الموقف السياسى الرسمى الكردى رافضًا لتطورات الأزمة، حيث رأى أن عرقلة عودة مقار الحزب الديمقراطى الكردستانى إلى داخل كركوك تؤدى إلى تعطيل العملية السياسية وتعرقل تنفيذ الاتفاقيات التى تم التوصل إليها بين حكومتى الإقليم والاتحادية من جهة، وبين الحزب وائتلاف إدارة الدولة من جهة أخرى. كما رأت السلطات الكردية أن هناك جماعات تنتمى إلى قوى سياسية، وبعضها عسكرى، تعترض على وجود الحزب مرة أخرى فى المحافظة من الناحية السياسية، مشيرة إلى وجود تمييز يستهدف وحدة كركوك، مؤكدة أن الحل الجذرى لتلك الأزمة يتطلب تفعيل المادة 140 من الدستور العراقى.
فى حين جاء الموقف العسكرى مهددًا للتحركات الأمنية داخل المحافظة، وكذلك داعمًا معنويًا للمكون الكردى داخل المدينة، فقامت قوات البيشمركة الكردية بالانتشار فى منطقة آلتون كوبرى شمال غربى محافظة كركوك بهدف ما أسمته “الحفاظ على الأوضاع الأمنية والاستعداد لأى حدث طارئ” فى المنطقة.
ثالثًا: التداعيات المحتملة لأزمة كركوك
تفكيك التحالف الحاكم
كان إقليم كردستان قد أبرم مجموعة من الاتفاقيات السياسية مع الحكومة الاتحادية عندما وافق على الانضمام إلى تحالف إدارة الدولة لتشكيل الحكومة. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ العديد من هذه الاتفاقيات، بما فى ذلك ملف قانون النفط والغاز، والذى كان من المتوقع إرساله إلى البرلمان خلال الأشهر الستة الأولى من عهد حكومة السودانى. وبعد الأزمة الأخيرة فى كركوك، أصبح هذا التحالف معرضًا لخطر التفكك، نظرًا للخلافات المستمرة بين بغداد وأربيل، بما فى ذلك الخلافات المتعلقة بقرارات المحكمة الاتحادية العليا بوقف تحويل الأموال إلى الإقليم.
عودة قضية كركوك للواجهة من جديد
بعد فترة من التهدئة فى قضية محافظة كركوك، خاصة بعد استعادتها من قبل حكومة بغداد، شهدت التطورات الأخيرة عودة هذه القضية إلى الواجهة، وتعكس تلك التطورات تمسك قادة الأكراد بالعودة إلى تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقى، خاصة فى حالة عدم تسليم المقر والتسليم بقرار المحكمة الاتحادية العليا بإيقاف تسليم مقر العمليات المشتركة للحزب.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن العرب والتركمان فى كركوك غير مستعدين للتخلى عن مكتسباتهما التى اكتسباها بعد دخول القوات الاتحادية إلى المحافظة، وهذا الوضع جعلهم يشعرون بالانتصار بالمقارنة مع “الحزب الديمقراطى الكردستانى”، الذى لم يتمكن حتى الآن من استعادة مقره حتى بعد اتفاقه مع الحكومة الاتحادية على ذلك، وتلك المؤشرات قد يكون لها تداعياتها فى المستقبل على أزمة كركوك وتداولها خاصة من المكون الكردى.
لذا، تظل هذه القضية تحتاج إلى حوار مستدام وحلاً سلميًا يساعد فى تحقيق توازن أكبر بين المكونات العرقية المختلفة وتجنب تصاعد التوترات والصدامات، وبالتالى تحقيق استقرار أفضل فى كركوك والمناطق المجاورة.
مزيد من التعقيدات السياسية والاجتماعية بين مكونات كركوك
الأحداث الأخيرة أثبتت تصاعد الخلافات وانعدام التوافق بين مختلف المكونات العرقية فى محافظة كركوك، وتفاقم هذا الانقسام خاصة مع موقف المواقف العربية والتركمانية فى منع الأحزاب الكردية من العودة إلى المحافظة، بعد اتهامهم بالمعاملة السيئة لهم أثناء توليهم إدارة المدينة بين أعوام 2014 إلى 2017. من ناحية أخرى، يرى الأكراد أن هناك تمييزًا متعمدًا ضدهم واستبعادًا لهم منذ انتزاع المحافظة منهم عام 2017.
بالتبعية، تجد الحكومة المركزية نفسها فى مأزق فى كركوك، حيث تعيق التحديات السياسية والاجتماعية تنفيذ الاتفاقات السياسية بين القوى السياسية المشاركة فى الحكومة، وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يفضى التوتر الأخير إلى زيادة نفوذ الفصائل المسلحة فى المحافظة.
وبشكل عام، إذا لم يتم التعامل مع قضية كركوك بشكل سلمى وعادل، فإن هناك خطرًا كبيرًا على تصاعد التوترات بين الأكراد والعرب والتركمان، مما يمكن أن يؤدى إلى تصاعد الصراعات العنيفة وتفاقم التمييز العرقي، وهذا سيكون له تأثير سلبى على استقرار العراق بأكمله وربما يتسبب فى تصاعد التوترات فى المنطقة بشكل عام، نظرًا لتشابك العوامل العرقية والدينية مع التوترات السياسية.
احتمالات عودة “داعش”
استطاع تنظيم “داعش” الإرهابى فى عام أوائل عام 2014، استغلال الاحتجاجات العراقية عام 2013 فى المناطق ذات الأغلبية السنية، مع رفض حكومة “نورى المالكى” التفاوض مع المتظاهرين، مع انتشار حالة الفوضى والاستياء فى المناطق الواقعة غربى العراق، إلى استيلائه على تلك المناطق بالكامل فى خلال أيام قليلة، وإعلانه لاحقًا قيام دولته فى العراق والشام.
وفى ظل الخلافات الحالية وفى حالة عدم نجاح الحكومة الاتحادية فى التصدى لهذه الخلافات وتقريب وجهات النظر بين كافة المكونات فى كركوك، يظل احتمال استغلال تنظيم “داعش” للأزمة واستئناف هجماته الإرهابية قائمًة، خاصة وأن مصادر أمنية عراقية قد أشارت إلى أن هجوم تنظيم “داعش” الأخير الذى شنه فى قضاء “الدبس” بمحافظة كركوك والذى تم تنفيذه بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة على نقطة تابعة للواء 32 بالفرقة 8 فى الجيش العراقى، قد جاء من قبل عناصر موالية للتنظيم فى المدينة وتعمل وفق إستراتيجية “الذئاب المنفردة”، وأن مصدر بقاء هذه المجموعات هو أنه بعد انتهاء العمليات العسكرية على داعش فى 2017، تسربت عناصر من التنظيم إلى كركوك، وخاصة فى أماكن وعرة فى أودية الشاى والزيتون وأمن الخناجر وحوض حمرين، كملاذات لها، وتخرج منها وتنشط على فترات، بعمليات نوعية واستباقية.
تأثيرات سلبية على انتخابات المحافظات وملف إعادة الاعمار
هناك طموح داخلى فى إنجاز ملف انتخابات المحافظات، والتى من المقرر عقدها فى شهر ديسمبر المقبل، مع إنجاز المساعى العراقية فى ملف إعادة الإعمار، لكن فى حالة استمرار الأزمة فى كركوك وتصاعد التوترات العرقية والسياسية، فإن ذلك يمكن أن يؤثر على إمكانية إجراء انتخابات سلمية وعادلة فى المحافظات الأخرى، مما يؤدى إلى تشويش فى عمليات الاقتراع وقد يؤثر على نتائجها، خاصة وأن الأزمة لها بعد متعلق بحسابات انتخابية.
كما قد أدت الأحداث فى كركوك إلى تشتت الجهود والموارد الحكومية فى محاولة لحل الأزمة، مما يمكن أن يؤثر فى قدرة الحكومة المركزية على توجيه الموارد وتنفيذ خطط الإعمار، وإقناع الجهات والدول الإقليمية، بعدما أصبح ملف إعادة الإعمار فى صدارة اهتمام المسؤولين العراقيين.
فى الختام:
تأتى الأوضاع السياسية والطائفية فى العراق لتلعب دورًا بارزًا فى تصاعد التوترات واستفحالها، وذلك من خلال استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية، ويظهر ذلك بوضوح فى كون قضية كركوك تفتقر إلى الأبعاد الوطنية، إذ تتداخل فيها تدخلات إقليمية ودولية. وفى هذا السياق، يصبح بحث الحلول المستدامة للقضية أمرًا معقدًا.
إن عدم وجود إرادة حقيقية لحل هذه الأزمة يعنى استمرار النزاع وتصاعده فى مواجهة أى خلافات سياسية جديدة. لذلك، يتعين على الحكومة العراقية تبنى نهج إدارة مؤسساتية وفعالة للتعامل مع المجتمعات المتنوعة ومعالجة قضايا معقدة مثل كركوك. وعلاوة على ذلك، ينبغى على الفاعلين السياسيين فى العراق توجيه جهودهم نحو تعزيز التوحيد الوطنى وتنفيذ المواد الدستورية المتعلقة بمثل هذه القضايا.
المصادر:
فاطمة عبد العزيز أحمد، “إقليم كردستان العراق وأزمة استفتاء 2017: الدوافع والتداعيات وسبل الاحتواء”، جامعة أسيوط – كلية التجارة، مجلة كلية التجارية للبحوث العلمية، العدد 75، يونيو 2022.
افتخار زكي عليوي، “التنوع الأثني والتعايش السلمي في العراق: كركوك نموذجًا”، جامعة بغداد – كلية الآداب، مجلة الآداب، العدد 109، سبتمبر 2014.
عبد الرازق علي حمادي، “قضية كركوك في الأبعاد الاستراتيجية”، جامعة قناة السويس – كلية التجارة بالإسماعيلية، المجلة العلمية للدراسات التجارية والبيئية، المجلد السابع/ملحق، 2016.
“معركة المعلومات”.. نقطة تحول أكدها هجوم داعش في كركوك، سكاي نيوز عربية، 12/6/2023، متاح على: https://2u.pw/3DrCAIX.
على الطائي، “عراق مصغر وفتيل قابل للاشتعال مع أي خلاف.. من وراء التصعيد الأخير في كركوك؟”، موقع عربي 21، 3/9/2023، متاح على: https://2u.pw/vmAGMt7.
ما الذي ينتظر كركوك بعد أزمة مقر «الديمقراطي الكردستاني»؟، صحيفة الشرق الأوسط، 4/9/2023، متاح على: https://2u.pw/KbrghHq.
وليد الخزرجي، “ماذا وراء قرار السوداني بإعادة نشاط حزب البارزاني إلى كركوك؟”، عربي 21، 1/9/2023، متاح على: https://2u.pw/uG3K7pw.
أحداث كركوك.. خلفيات “حزبية وسياسية” وراء المواجهات وتمسك شعبي بـ”أهمية التعايش”، قناة الحرة، 3/9/2023، متاح على: https://2u.pw/bAhg8VI.
العراق: شبح «حرب أهلية» في كركوك… واستعادة صور لجثث في قنوات الصرف الصحي، القدس العربي، 28/8/2023، متاح على: https://2u.pw/cKptX7z.
نتائج الإحصائيات السكانية والانتخابات تثبت أن الكورد أغلبية في كركوك، شبكة رووداو الكردية، 29/9/2021، متاح على: https://2u.pw/d0p320p.
تعرف على مضمون المادة 140 من الدستور العراقي، موقع الجزيرة، 6/10/2017، متاح على: https://2u.pw/C5j6eyA.
بارزاني: لولا البيشمركة لسقطت كركوك بيد داعش، العربية نت، 15/12/2014، متاح على: https://2u.pw/Ek1Y9Eh.
تفاصيل أزمة “المقرات” في كركوك، سكاي نيوز عربية، 3/9/2023، متاح على: https://2u.pw/06vcRUm.