إعداد : رضوى الشريف
بعد أسابيع قليلة من اختفائه الغامض، في العاصمة الليبية طرابلس، تفاجأ الليبيون بظهور ضابط المخابرات الليبي السابق “أبو عجيلة مسعود المريمي”، الثلاثاء 13 ديسمبر، ماثلاً أمام المحكمة الفيدرالية بالعاصمة الأمريكية واشنطن، بتهم تتعلق بقضية تفجير طائرة أمريكية فوق مدينة لوكربي في أسكتلندا عام 1988. مشهد أثار موجة من الصدمة في الأوساط الليبية، وتحولت الى غضب عارم على المستويين السياسي والشعبي.
أكد البيت الأبيض، على لسان مستشارة الأمن الوطني ليز راندال، أن احتجاز “أبو عجيلة” المتهم بصنع القنبلة التي استُخدمت لتفجير طائرة بأنام الأمريكية فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية في 1988 في هجوم أوقع 270 قتيلًا، تم “بشكل قانوني”.
وعلى الصعيد الليبي، قال رئيس حكومة الوحدة المنتهية “عبد الحميد الدبيبة ” في تصريحات تليفزيونية، الخميس 15 ديسمبر، إنهم سلموا واشنطن “أبو عجيلة” وأوضح أن اسم” أبو عجيلة” قد ورد في التحقيقات قبل عامين، قبل مجيء حكومته، وصدرت بحقه مذكرة قبض من الإنتربول، وبرر قرار حكومته بتسليم “أبو عجيلة” بضرورة التعاون من أجل استقرار ليبيا، ومحو اسم الإرهاب عن الشعب الليبي، كما شدد على أن التعاون جرى وفق القواعد القانونية مع المتهمين في قضايا خارج البلاد، بخاصة ذات الطابع الإرهابي.
وخرج “وليد اللافي” وزير الدولة في حكومة الدبيبة مدافعًا عن قرار التسليم، قائلًا: «نجحنا في صفقة المتهم في قضية لوكربي لأجل انتصار العدالة، وتسليم “أبو عجيلة” سيُعيد للدولة الليبية مبلغ 74 مليار دولار مجمدة في أمريكا».
اعتقد رئيس حكومة طرابلس أن خطابه سيمتص غضب الليبيين، لكن ما حدث أن كلماته زادت من درجة غليان الشارع الليبي الذي وحدته قضية تسليم “أبو عجيلة”، على رغم انقسامه السياسي.
فهل يضع الدبيبة الفصل الأخير في روايته بهذه الخطوة؟
يجدر الإشارة أن ملف قضية لوكربي تم إقفاله باتفاق رسمي بين واشنطن وطرابلس عام 2008، عقب دفع نظام معمر القذافي وقتها تعويضات ضخمة بعشرات المليارات من الدولارات للولايات المتحدة الأميركية.
غضب لليبي واسع
تمثل قضية تسليم “أبو عجيلة” في جانبها الاخلاقي، صدمة كبيرة للشعب الليبي الذي يؤمن بالعروبة، ويمثل تسليم مواطن ليبي علي يد اخوانه لدولة أجنبية، سقطة أخلاقية كبيرة، ويكشف حجم الخلافات والفوضى التي تعيشها البلاد منذ سنوات.
احتجت عائلة “أبو عجيلة” في بيان صوتي ألقاه أحد المنتمين لهم على وصف ” عبد الحميد الدبيبة”” أبو عجيلة” بالإرهابي، وخرج العديد من الليبيين في مظاهرات بعدة مدن في ليبيا الخميس الماضي يطالبون بإسقاط حكومة “عبد الحميد الدبيبة” المنتهية ولايتها، بعد تسليمها “أبو عجيلة” مسعود للولايات المتحدة بزعم ضلوعه في تفجير طائرة لوكربي. وطالب المتظاهرون النائب العام بالتحرك لمعرفة ملابسات تسليم “أبو عجيلة”، كما طالبوا بإنهاء عمل حكومة الدبيبة، معتبرين ما حدث انتهاكا لسيادة الدولة وتواطؤا مع جهات أجنبية ضد مواطن ليبي.
وأصدرت قبائل بيانات غاضبة منها:
المجلس الأعلى لقبائل غرب ليبيا
أدان ما اعتبره اختطاف أبو عجيلة، قائلا في بيان:
الشعب الليبي عامة وأبو عجيلة خاصة يتعرضان لطغيان دولي.
نحمل الحكومة المسؤولية القانونية والإدارية والإنسانية.
إذا لم يتم إطلاق سراح أبو عجيلة عاجلا سيكون لنا حق الرد بالطرق التي نراها مشروعة.
اتحاد قبائل فزان
أصدر بيانا جاء فيه:
إمهال حكومة الدبيبة 72 ساعة للإفراج عن كافة السجناء السياسيين؛ خوفا عليهم من مصير أبو عجيلة.
في حال عدم الإفراج سيلجأون للقوة للإفراج عنهم.
نددوا بواقعة تسليم أبو عجيلة، واصفين إياها بالخيانة وانتهاك للسيادة.
حكومة شرق ليبيا
طالبت الحكومة الليبية المكلفة من مجلس النواب برئاسة “فتحي باشاغا”، بـ”الإفراج الفوري عن أبو عجيلة وإعادته إلى أرض الوطن، محملة الأطراف المسؤولة عن احتجازه المسؤولية القانونية المترتبة على هذا الفعل الخارج عن القانون. فيما طالب مجلس النواب الليبي، بتحريك دعوى جنائية ضد كل من تورط في اختطاف المواطن الليبي وتسليمه إلى جهات أجنبية.
كما أعلنت وزارة الخارجية في الحكومة المكلفة من البرلمان، عزمها تكليف مكتب محاماة دولي للدفاع عن أبو عجيلة. وبحسب ما أوردت في بيان، فإن المكتب سيعمل على استبيان الطريقة التي تمت بموجبها عملية التسليم، ومدى توافقها مع القوانين المحلية والدولية.
“جريمة وخيانة وفقا لأحكام القانون الليبي”، هكذا وصفت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، تسليم أبو عجيلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مؤكدة في بيان لها، إن ليبيا دفعت تعويضات لأهالي الضحايا لإغلاق الملف، ونصت بنود الاتفاقية المبرمة مع الولايات المتحدة على عدم فتحها مجددا، وفي حال عدم الالتزام بهذه الاتفاقات يُعد خرقا للقانون الدولي.
دوافع تسليم “أبو عجيلة” الخفية
تدور تساؤلات بالجملة في الأوساط الليبية حول عملية التسليم، فوفقاً لأي إجراءات تم التسليم ومتى طلب المدعي العام الأميركي تسليم هذا الرجل؟ وهل ظهرت أدلة جديدة بعد تسوية ملف قضية لوكربي في عام 2008؟
وأخيراً ما الغاية من تسليم هذا الرجل بعد مضي هذه السنين الطوال على حدوث الواقعة؟.
دعم سياسي
يبدو أن تسليم حكومة الدبيبة لأبو عجيله للولايات المتحدة ما هو إلا صفقة لإرضاء الولايات المتحدة الأمريكية والتودد إليها وكسب دعمها، فعملية التسليم مع الولايات المتحدة تمت لدعم بقاء حكومة الدبيبة على رأس السلطة، لتستمر كما استمرت نهاية العام الماضي ولم يتم إجراء انتخابات واستمرار تعطيل مصلحة الوطن العليا.
يذكر أيضا أن إقدام الدبيبة على تسليم أبو عجيلة لواشنطن تزامن بإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة بتأجيل البت في قرار بشأن طلب الحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، بمقعد في الأمم المتحدة. فمن المرجح بأن تلك كانت بمثابة صفقة بين واشنطن وطرابلس: (تسليم أبو عجيلة مقابل تعليق طلب حكومة باشاغا بمقعد في الأمم المتحدة)، وهذا ما يضفي شرعية على حكومة الدبيبة التي لاتزال تمثل ليبيا في الأمم المتحدة.
دعم مادي
بالرغم من أن ادعاء وزير الدولة في حكومة الدبيبة “وليد اللافي” بالإفراج على 74 مليار دولار من الأموال المجمدة لصالح ليبيا، يأتي في واقع الأمر لصالح حكومة الدبيبة التي استنفذت كل الاحتياطات وموارد النفط تقريبًا وتحتاج إلى الغوث، فلو كانت تلك الأموال لصالح ليبيا لكان من الأفضل أن تبقى مجمدة إلى حين تكوين سلطة شرعية وحل الانقسام السياسي التي تعيشها البلاد.!
ويُشار إلى أن الولايات المتحدة لم تُفرج عن الأموال المجمدة لليبيا بعد، وليس هناك ما يدل على أنها ستقوم بذلك، فهي ستستخدمها دومًا كحجة للضغط لتنال مبتغاها من ليبيا.
“أبو عجيلة” ليس الأخير؟
يوجد مخاوف من إمكانية التوسع في باب التسليمات التي قد تطول عدد كبير من المواطنين الليبيين، فتهاون حكومة الدبيبة في تسليم أبو عجيلة سيفتح شهية المطالبة بجلب رجال أمن أو مساجين سياسيين قد يكونون على قائمة الأشخاص المطلوبين لدول عدة مثل أميركا وغيرها.
ففي سياق تلك المخاوف، أعلنت قبيلة المقارحة (إحدى أكبر القبائل وأكثرها نفوذاً في الجنوب الليبي، وينحدر منها رئيس جهاز المخابرات السابق عبد الله السنوسي) تخوفها من تسليم حكومة الدبيبة لعبد الله السنوسي ومن تبقى في السجون من رموز النظام السابق إلى أميركا على غرار أبو عجيلة.
وقال مصدر من المجلس الأعلى لقبيلة المقارحة لوسائل إعلام محلية إن “السنوسي يمتلك معلومات تدين عائلة الدبيبة في ملفات تخابر مع الخارج وجرائم مالية ولا نستبعد رغبتهم في التخلص منه لهذا السبب”.
وحذر المصدر الدبيبة وحكومته بـ “رد لا قبل له به إن أقدم على مجرد التفكير في هذه الخطوة (تسليم رئيس جهاز مخابرات النظام السابق عبد الله السنوسي)”.
يذكر أن قبيلة المقارحة قد أغلقت النفط وأوقفت ضخ مياه النهر الصناعي نحو العاصمة طرابلس أواخر العام الماضي، للضغط على السلطات الليبية للإفراج عن السنوسي إثر تدهور حاله الصحية في أحد سجون طرابلس.
الخاتمة
محاكمة أبو عجيلة في أمريكا، هي اعادة فتح لملف قضية “لوكربي”، الحادث الذي أعلن الليبيون مرارا وتكرارا براءتهم منه، ودفعوا ثمنا باهظا حين فرضت الدول الغربية حصارا اقتصاديا وسياسيا خانقا على ليبيا تضمن حظر الطيران من وإليها ومنع استيراد قطع غيار الطائرات، مما أدى إلى عزلتها عن أغلب دول العالم. وقد أدى الحصار إلى ارتفاع نسبة البطالة في البلاد، وأوقع خسائر اقتصادية قدرتها وزارة الخارجية الليبية بـ 24 مليار دولار خلال 1992-1998
لا شك أن ليبيا، دفعت منذ سنوات ثمنا باهظا لجريمة لم تثبت عليها أمام قضاء محايد، لكنها كانت مجبرة لإنهاء العقوبات المسلطة عليها، واليوم تعود الولايات المتحدة لفتح ملف القضية، في محاولة جديدة لابتزاز ليبيا وفرض صفقات مشبوهة في بلد يعاني منذ سنوات من فوضى عارمة وغياب سلطة موحدة كانت نتاجا طبيعيا للتدخل الدولي في العام 2011.
ويتخطى مدى المخاوف المرتبطة بتلك القضية عن تأثيرها على الداخل الليبي فقط؛ فهناك مخاوف أمنية من سقوط معلومات حساسة عن الأمن القومي العربي في يد جهات أجنبية، خاصة أن جميع الدول تمتلك أجهزة استخبارات، وعادة ما يتحرك عناصر الأمن خارج دولهم، لكن لم يسبق أن سلمت أية دولة ضباط جهاز استخباراتها لدولة أخرى حتى وإن كانوا قد ارتكبوا أخطاء أو جرائم أثناء عملهم، فإنهم يعاقبون وفق اللوائح القانونية لبلدانهم، لذلك فتسليم الضباط ورجال الأمن لدولة أخرى هو انتهاك واضح للسيادة الوطنية وعبث بالصندوق الأسود للأمن القومي الليبي، ووصمة عار ستتكبد تداعياتها ليبيا وجيرانها اقتصادياً وسياسياً وأمنياً على المدى البعيد.