تصعيد لا متناهٍ: إلى أين تسير العلاقات الأفغانية الباكستانية؟

إعداد: جميلة حسين 

فى خضم الصراع بين الحكومة الأفغانية التى تحكمها حركة طالبان والحكومة الباكستانية والأزمات المتعثرة بينهما، شهدت الحدود بين البلدين فى الأيام الأخيرة هجمات متبادلة، حيث نفذت حركة طالبان الأفغانية هجمات على مقرات عسكرية على الحدود مع باكستان، لترد “إسلام آباد” بإطلاق غارات جوية على ولايات أفغانية حدودية، وعليه أشعلت تلك الهجمات توترًا جديدًا فى العلاقات الأفغانية الباكستانية وقد تصاحبها تداعيات وخيمة لن تسيطر عليها الدولتين.

تصعيد متبادل

فى مطلع يوم الثامن عشر من الشهر الحالى شنت المقاتلات الباكستانية غارات جوية فى ولايتى ” خوست” و”بكتيكا” الواقعتين على الحدود مع أفغانستان وأسفرت تلك الغارات عن سقوط 8 أشخاص، وهو ما اعتبرته حركة طالبان فى كابول وفقًا لتعليقها على لسان المتحدث باسم الحكومة الأفغانية (ذبيح الله مجاهد) عن الهجوم “أنه انتهاكًا لسيادة البلاد، ينبغى لباكستان أن تلوم أفغانستان على مشاكلها وفشلها فى السيطرة على حوادث العنف”، كما هدد بشكل مباشر السلطات الباكستانية بتداعيات هجماتها المسلحة غير المحسوبة، لذلك ردت قوات الأمن الأفغانية على قوات الجيش الباكستانية بالأسلحة الثقيلة، فى حين علقت وزارة الخارجية فى “إسلام آباد” فى بيان لها بأن الهدف الأساسى من تلك الغارات هو عملية لمكافحة الإرهابيين المنتمين إلى جماعة (حافظ جول بهادور) التابعة لحركة طالبان باكستان والمسؤولة عن العديد من الهجمات الإرهابية فى البلاد والمتسببة فى مقتل العديد من المدنيين وأفراد قوات الأمن.

وتجدر الإشارة إلى أنه قبل الهجوم الباكستانى بيومين نفذت حركة طالبان الأفغانية هجومًا مسلحًا على مقرات عسكرية باكستانية على الحدود بين البلدين تحديدًا فى شمال منطقة “وزيرستان” أسفر عن سقوط 7 عسكريين بينهم ضابطان، وقد تعهد الرئيس الباكستانى الجديد (آصف على زرداري) بالانتقام لمقتل هؤلاء وصرح أثناء مراسم التشييع قائلًا: ” قررت باكستان أنه كائن من كان العابر لحدودنا أو الداخل لمنازلنا أو بلدنا لارتكاب أعمال الإرهاب، سنردّ عليهم بقوة، بصرف النظر عن هويته أو من أى بلد كان”.

أبرز الخلافات المصيرية

خط ديوراند الحدودى:

تمثل أزمة الاعتراف بالخط الحدودى بين باكستان وأفغانستان “خط ديوراند” صراعًا قديمًا متجددًا، ويصل طوله نحو 2600 كيلومتر وتم تحديد تلك الحدود الفاصلة بشكل تعسفى من قبل البريطانيين عام 1893، وينظر إليه على أنه خط فاصل بين الأراضى الأفغانية وتلك التى كانت تخضع للاحتلال البريطانى ثم ورثتها باكستان، لكن حكومات “كابول” المتعاقبة ترفض الاعتراف بهذا الخط، الأمر الذى يعكس عددًا من الاشتباكات والهجمات المتبادلة بين قوات الأمن على الجانبين، ما دفع “إسلام آباد” إلى غلق اثنين من معابرها الحدودية مع أفغانستان بشكل مؤقت فى وقت سابق، كما تمثل استمرارية بناء باكستان السياج الحدودى وتبرره بأنه ضمن اتفاقية خط ديوراند، خطوة للسيطرة على حركة البضائع والأشخاص الذين يدخلون بطريقة غير شرعية إلى المناطق التى تخضع لسيطرة السلطات الباكستانية، فضلًا عن فرض هذه الحدود كأمر واقع، وتتصاعد الاشتباكات كلما تقوم باكستان ببناء أسوار ونقاط تفتيش حدودية، وتؤكد حكومة طالبان الأفغانية حقها فى حرية تنقل الشعوب عبر حدود ما قبل الحقبة الاستعمارية، ومن ثم تعرقل الحكومة الجديدة مشروع القوات الباكستانية وتلافض الاعتراف بهذا الخط كحدود دولية رسمية بين البلدين.

أزمة الدعم الأفغانى غير المحدود لطالبان باكستان:

بعد الانسحاب الأمريكى من أفغانستان ووصول طالبان إلى السلطة فى أغسطس 2021 رحبت الحكومة الباكستانية بها، واعتبرته انتصارًا لإستراتيجيتها ونظرت إليها باكستان كحليف خاصة كونها مقربة من المؤسسة العسكرية والأمنية الباكستانية من ناحية، ومن ناحية أخرى آملت السلطات الباكستانية بمساعدة طالبان فى إنهاء تمرد حركة طالبان الباكستانية المناهضة للحكومة فى “إسلام آباد” لوقف هجماتها فى الأراضى الباكستانية، ولكن سرعان ما خلفت توقعات “إسلام آباد” حيث شجع تولى حركة طالبان الأفغانية لزمام الأمور على تكثيف طالبان باكستان التى تجمعها مع الأولى علاقات عميقة، وتمثل بيئة حاضنة لأعضاء حركة تحريك طالبان، وذلك من أجل تمردها ضد “إسلام آباد”، لاسيما مع إطلاق حكومة طالبان سراح الكثير من مقاتلى طالبان باكستان من سجن “كابول” هؤلاء ساعدتهم السلطة الأفغانية للقتال مرة أخرى فى باكستان ووفرت ملاذًا أمنًا لهم.

فتلقت الحركة الباكستانية الكثير من الدعم فى أفغانستان وأشارت بعض الدراسات إلى انضمام بعض مقاتلين طالبان الأفغان إلى حركة طالبان باكستان، واتهمت الحكومة الباكستانية الحركتين باستغلال الحدود المشتركة بين باكستان وأفغانستان لتقديم دعم مستمر وتهريب السلاح والعناصر الإرهابية، ودومًا ما تطالب “كابول” بالتعاون مع بلاده لمكافحة الإرهاب واتخاذ إجراءات فعلية ضد الملاذات الآمنة “لطالبان باكستان” ومراكز تدريبها فى أفغانستان، فمنذ تولى طالبان للسلطة زادت الهجمات بنسبة 56% عبر الحدود.

الترحيل القسرى للأفغان غير الشرعيين:

يرجع وجود اللاجئين الأفغان فى باكستان إلى حقبة الاحتلال السوفيتى لكابول، وزاد عددهم منذ عودة طالبان وتوليها للسلطة فى كابول مرة أخرى ليبلغ عددهم فى البلاد حوالى 3.7 مليون شخص، ولكن واجه عدد منهم الصعوبة فى المعيشة، ويعيش أغلبهم فى مخيمات بالقرب من الحدود (الباكستانية – الأفغانية)، ولكن منذ العام الماضى اتبعت الحكومة الباكستانية إستراتيجية لإعادة هؤلاء اللاجئين إلى بلادهم مرة أخرى، وتقول باكستان إن من شأن عمليات الترحيل هذه ضمان سلامتها وأمنها بعد ارتفاع عدد الهجمات التى تؤكد “إسلام آباد” أن منفذيها يأتون من الأراضى الأفغانية، وأعلنت أن عمليات الترحيل الجماعى للمهاجرين غير الشرعيين ستبدأ فى 1 نوفمبر، وبالفعل بدأت “المرحلة الأولى” وتم طرد ما لا يقل عن 300 ألف أفغانى، ويواجه الآخرين نفس المصير مع استمرار عمليات الترحيل، وأكثرهم يظل على الحدود فى ظل تدهور وضعهم المعيشى ومخاوفهم من الاعتقال على يد حكومة طالبان، وتحول هؤلاء اللاجئون الذى هربوا من الحرب والإرهاب إلى طرف فى صراع سياسى بين الحكومة الباكستانية وحركة طالبان الأفغانية.

وقد أعلن الأسبوع الماضى، وزير الداخلية الباكستانى (سيد محسن رضا نقوى) بدء “المرحلة الثانية” من ترحيل المهاجرين الأفغان غير الشرعيين ممن ليست لديهم أى وثائق قانونية خلال أقل من شهر وعودتهم إلى ديارهم مرة أخرى كمحاولة من تكثيف الضغط على الحكومة الأفغانية، وعليه تتعرض الحكومة الباكستانية من عدد من الانتقادات من جانب المهاجرين الأفغان الذين يجدوا فى معاملة الحكومة الباكستانية معاملة غير لائقة وغير ملائمة وعنصرية تجاهم، فضلًا عن الانتقادات الأممية حيث علقت منظمة (هيومن رايتس ووتش) قائلة “إن الحكومة الباكستانية تستخدم التهديدات والانتهاكات والاعتقال لإجبار طالبى اللجوء الأفغان الذين يفتقرون لوضع قانونى على العودة إلى أفغانستان أو مواجهة الترحيل”، إلى جانب الإشارة إلى تداعيات الترحيل ومخاطره وما يشكله من أزمة إنسانية ضخمة، ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة فإن نحو 525 ألف مهاجر أفغانى عادوا من باكستان إلى أفغانستان من خلال معبرى “تورخام”، و”سبين بولداك” الواقعان على الحدود بين البلدين.

عواقب التصعيد

توتر العلاقات الدبلوماسية بين كابول وإسلام آباد:

بعد الهجوم الباكستانى على الولايات الأفغانية الحدودية استدعت وزارة الخارجية الأفغانية السفير الباكستانى فى كابول (عبيد الرحمن نظامانى) وتم تسليمه خطاب احتجاج على الضربات الجوية التى قتلت مدنيين أبرياء وفقًا لطالبان، وقد طالبت الوزارة شعب باكستان والحكومة المدنية الجديدة بعدم السماح للتصرفات الأحادية بأن تؤثر سلبًا على العلاقة بين الدولتين، مضيفة أنها لا تتهاون تجاه الهجمات على أراضيها، وعليه تلاشى التحسن فى العلاقات الذى رجحه البعض بعد انتخابات الجمعية الوطنية الباكستانية الأخيرة وتولى (شريف شهباز) رئاسة الوزراء بعد انتخابات عصيبة، ليحل محله احتمالات توتر العلاقات الدبلوماسية، إضافة إلى تطور مستوى العداء بينها.

احتمالات قطع إسلام آباد طرق التجارة مع كابول:

تستغل باكستان أن أفغانستان واحدة من الدول الحبيسة بلا منفذ بحرى، وأن الموانئ الباكستانية هى الأقرب لها، وتعتبر باكستان الشريك الأساسى لكابول، وتستقبل الأخيرة إلى جانب الهند حوالى 75% من الصادرات الأفغانية، وعليه تهدد “اسلام آباد” بإغلاق الممر التجارى الذى يربط أفغانستان بالهند ومنع الوصول إليه فى حالة تصاعد التهديد ومهاجمة باكستان، وفشل أفغانستان فى منع تحييد العمليات الإرهابية العابرة للحدود التى تنطلق من أراضيها، واتخاذ إجراءات فعلية ضد الملاذات الآمنة لحركة “طالبان باكستان”، كما صرح وزير الدفاع الباكستانى (خواجة آصف) قائلًا: “باكستان لا تريد دخول كابول فى صراع مسلح مع أفغانستان المجاورة، ولكن إذا استمرت كابول فى التعامل مع إسلام آباد “كعدو” فمن المحتمل أن يتم إغلاق ممرها التجارى مع أفغانستان والهند”.

التصعيد المسلح بين البلدين:

يبدو أن استخدام القوة والدخول فى صراع مسلح بين “إسلام آباد وكابول” هو السيناريو الأسوأ، والملاذ الأخير فى حالة تفاقم الأزمة على المناطق الحدودية بين البلدين وتفاقمت الهجمات، ولم تقم طالبان بالسيطرة على الهجمات الإرهابية وكبح جماح حركة طالبان الباكستانية، وتعديل سياستها الهجومية تجاه إسلام آباد، ولم تستجب أى من القيادات السياسية والعسكرية الباكستانية أو الأفغانية للتفاوض من أجل حل الأزمات العالقة بينهم، لاسيما القيادة الباكستانية الجديدة (شريف شهباز) رئيس الوزراء الجديد الذى عبر قائلًا: “إن باكستان لن تتسامح مع الإرهاب عبر الحدود” واتخذ الوضع على محمل الجد، وتعهد بالانتقام للهجمات المتتالية التى استهدفت بلاده.

مما سبق؛ بينما تأمل “إسلام آباد” بالتحسن فى العلاقات مع جارتها الأفغانية بعد تولى طالبان لمقاليد الحكم لوجود علاقات قديمة بين البلدين فى العديد من المستويات الدينية والعرقية والثقافية والجغرافية والتاريخية، ولكن  سرعان ما اختفت تلك الآمال الإيجابية وحل محلها الصراعات المعقدة، ولم تعترف باكستان بحكومة طالبان، وفى المقابل تتعامل حكومة طالبان بندية مع باكستان، وترفض الاعتراف بالخط الحدودى الفاصل بين البلدين ويبقى ملف طالبان باكستان بجانب عدد من الملفات حجر عثرة أمام التفاوض بينهما، وحتى وإن عاد الهدوء بشكل نسبى على الحدود فما هو إلا هدوء شكلى، ويظل تأزم العلاقات وتقويض الثقة هو الحاكم، مما ينذر باستمرارية اشتعال الاشتباكات مستقبلًا.

كلمات مفتاحية