إعداد: جميلة حسين
تتعرض منطقة الساحل الأفريقى ذات الأهمية التاريخية والاستراتيجية لسلسة غير متناهية من الاضطرابات الأمنية والسياسية والاقتصادية التى تهدد أمنها واستقرارها الأمر الذى صب بدوره إلى انتشار عدد التداعيات الخطرة التى يتمثل أبرزها فى تمدد الجماعات الإرهابية والمتطرفة وتصاعد أنشطتها وعملياتها الدموية مستغلة حالة التعقيد التى انتابت منطقة الساحل والقارة الأفريقية بشكل عام حتى أصبحت الأخيرة نموذج للإرهاب العابر للحدود وسط إخفاق الأنظمة الحاكمة فى احتواء الأزمات المتتالية واحتواء التهديدات الأمنية الجسيمة. تشهد منطقة الساحل خاصة غرب أفريقيا عدد من التحولات والتغييرات المختلفة التى أثرت المشهد الأمنى واستدعت قدر من المقاربات فى مواجهة تلك التهديدات على المستوى الإقليمى والدولى.
دلالات متنوعة
توالى انتزاع التواجد الفرنسى من أفريقيا:
بدأت فرنسا فقد سيطرتها على مستعمراتها القديمة فى أفريقيا وسط حالة الانقلابات المتتالية التى اجتاحت الأخيرة فى ظل غضب شعوب دول القارة من الإرث الاستعمارى التى حملته فرنسا على عاتقها وتصاعد فكرة الوحدة الأفريقية، فضلاً عن تزايد حالة عدم الأمن والاستقرار بفضل توسع الجماعات الإرهابية ذريعة تدخل القوى الغربية فى شؤون القارة، فوفقاً للتقديرات العالمية عن مؤشر الإرهاب فمنطقة الساحل مسؤولة عن 43% من الوفيات الناتجة عن الأنشطة الإرهابية حول العالم. وواقع الأمر أن عملية “برخان” المشروع الفرنسى لمكافحة الإرهاب فى منطقة غرب أفريقيا أخفق فى القضاء على الإرهاب وأدى إلى نتائج عكسية وسط تنامى السخط الشعبى ضد تواجد القوات الفرنسية. وبعدما تمكنت الدول التى شهدت انقلابات عسكرية كمالى وبوركينا فاسو من امكانية دحر التواجد الفرنسى على أراضيها، شهدت النيجر نفس مسار الدول المجاروة، فعقب الانقلاب أعلنت هيئة أركان الجيوش الفرنسية أن الشراكة القتالية مع النيجر ضد الإرهاب لم تعد قائمة، وإعلان المجلس العسكري في النيجر إلغاء جميع الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع فرنسا ، وتوالى عدم الترحيب بالوجود الفرنسى حينما صرح الرئيس الفرنسى أن القوات الفرنسية ستنسحب من النيجر بحلول نهاية العام الجاري فى ظل ترحيب قادة الانقلاب بهذا الإعلان الفرنسى. وما يؤكد هذه النزعة المشهد الداخلى الفرنسى متمثل فى حزب الجمهوريين فى مجلس الشيوخ الفرنسى الذى وجه انتقادات للرئيس الفرنسى وأكدوا أن عملية برخان باءت بالفشل فى القارة الإفريقية مما يؤدى بدوره إلى ضرروة مراجعة السياسة الخارجية الفرنسية فى المرحلة المقبلة
تعقد المشهد الإقليميى:
يشهد ألية التعاون الاقليمى بين الدول الأفريقية المتمثل فى المنظمات الاقليمية والفرعية كالاتحاد الإفريقيى ومجموعة دول غرب أفريقيا “ايكواس” حالة من الانقسام والتعقيد وتم اختبارها بشدة فى حالة انقلاب النيجر حيث شهدت استقطاب إقليمى حاد تجاه النيجر وصل للتهديد بالقيام بعملية عسكرية لاستعادة السلطة الحاكمة فى النيجر بقيادة (محمد بازوم) مقابل رفض قاطع وامتناع دول كمالى وبوركينا فاسو وغينيا ضد أى تهديد للسيادة النيجرية، فضلا عن عدم فعالية الألية الرادعة من جانب الاتحاد الإفريقيى لمواجهة تلك الانقلابات والمتمثلة فى تجميد العضوية أو فرض نوع من الحصار كالحصار الاقتصادى وما يقابله من تجاهل من جانب الدول المفروض عليها تلك الإجراءات العقابية الأمر الذى يشجع على وقوع مزيد من الانقلابات فى مناطق مختلفة من القارة، ووسط عدم التنسيق وضعف التعاون الاقليمى تجد الجماعات الإرهابية فرصتها فى التغلغل وتوسيع رقعتها خاصة فى الدول ذات الأنظمة العسكرية الجديدة مستغلة انشغال القوى الجديدة بإرساء أوضاعها فى المشهد الداخلى.
خطر الأوضاع الأمنية فى مالى:
تعانى دولة مالى من عدد من التهديدات الأمنية المتتالية خاصة مع قرار بدء المرحلة الثانية من سحب البعثة الأممية لحفظ السلام “مينوسما”، حيث أعلنت الجماعات المسلحة “الأزواد” فى شمال مالى الموقعة على اتفاق سلام “اتفاق الجزائر” استعددا الدفاع عن نفسه ضد المجلس العسكري الحاكم فى ضوء اتهام الأخير بانتهاك الالتزامات الأمنية المتبادلة فضلا عن إعلان الجيش المالى الذى صرح عن “استعادة السيطرة على أراضيه وأنه فى حرب ضد الجماعات الإرهابية في الشمال”، وهو ما أغضب تلك الجماعات المسلحة حيث اعتبرزا هذا التصريح لم يفرق بينهم وبين جماعتى داعش والقاعدة المتواجدين فى الشمال ووصفم جماعة الأزواد بالجماعات الإرهابية. من ناحية أخرى تواجد مالى خطر تواجد تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين التابع لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش ولاية الصحراء الكبرى المتواجديدن بقوة ويتصاعد خطرهم الإرهابى الذى يستهدف المدنيين والمنشآت العسكرية من أجل بسط النفوذ وتحقيق مكاسب سياسية ومالية، كذلك الصراع المتجدد بين تلك الجماعتين ومحاولات كلا منهما فى تعزيز مواقعها على حساب الأخرى فما زال يحاصر تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين قرية “بوني” داخل الأراضي المالية، الذى استولى عليها فى أواخر شهر يوليو الماضى، فضلاً عن اعلانها عن محاصرة مدينة “تمبكتو” وقطع الإمدادات عنها وحذرت الرسائل الشاحنات القادمة من الجزائر وموريتانيا وأماكن أخرى في المنطقة من دخول المدينة، وقالت الجماعة إن الشاحنات التي لا تستجيب للتحذير سيتم استهدافها، الأمر الذى أسفر عن نزوح ألاف المواطنين فى تلك المناطق.
عدم الاستقرار فى نيجيريا:
تمر نيجيريا بعدد من الظروف الأمنية المتدهورة بفعل نشاط الجماعات الإرهابية التى تعمل على شن هجمات متفرقة ضد قوات جيش نيجيريا فتمكن تنظيم داعش “ولاية غرب أفريقيا” وجماعة “بوكو حرام” شهر أغسطس الماضى من شن 13 عملية فى الداخل النيجيرى تمركز معظمهم فى ولاية بورنو شمال شرق نيجريا وبعضها على الحدود مع الكاميرون حيث حوض بحيرة تشاد، فضلا عن الصراع الخفى بين السلطة والمعارضة والذى ظهر جليا فى اطار رفض مقترح تأييد التدخل العسكرى فى النيجر بعد الانقلاب، فرأت المعارضة أن الجيش لن يكون من السهل عليه المشاركة في هجوم على المجلس العسكري في نيامي، على الرغم من أنه أقوى جيوش مجموعة “إيكواس” وذلك نظرا لخطر تنامي نشاطات الجماعات الإرهابية خاصة جماعة بوكو حرام التى فشلت السلطة من القضاء عليها على مدار السنوات الماضية.
عوائق مكافحة التنظيمات الإرهابية:
توفر البيئة الإفريقية مناخ خصب لتمدد الجماعات الإرهابية خاصة المرتبطين بالتنظيمات الجهادية العالمية، وبمرور الوقت يتوفر المناخ الملائم لهذا التطور باختلاف التحديات التى تواجهها القارة مما يصب فى نهاية الأمر لمصلحة التنظيمات التى تحاول إعادة بناء قدراتها والتغلب على انقساماتها الداخلية وتطوير رؤية إستراتيجية جديدة فى بيئة تحدها المخاطر من كافة الاتجاهات. وتشدد التنظيمات هجماتها ضد العسكريين والمدنيين وتسيطر على مناطق متنوعة مستغلة بذلك طفرة انعدام الأمن المحلى وعدم الاستقرار السياسى وتراجع الأوضاع الاقتصادية وانتشار عدوى الانقلابات مما يجعل النظم العسكرية الجديدة ستستهلك جزءًا كبيرًا من قدراتها الأمنية من أجل فرض وتثبيت حكمها وذلك على حساب توجيه تلك القدرات للحرب على الإرهاب. ذلك بالإضافة إلى تغير المعادلة الدولية المكافحة لتلك الجماعات حيث خروج القوى الغربية من المشهد لصالح دول أخرى كروسيا والصين وفتور الضغوط الأمريكية لمكافحة الإرهاب.
المقاربات البديلة
تحالف “ليبتاكو-غورما”:
أعلنت المجالس العسكرية فى كل من دولة بوركينا فاسو ومالى والنيجر فى منتصف شهر سبتمبر الإعلان عن اتفاق دفاعى أطلق عليه ميثاق” ليبتاكو-غورما” تلك المنطقة الواقعة على حدود مالي وبوركينا فاسو والنيجر والتى تشهد أعمال عنف إرهابية منذ سنوات، ويعكس هذا التعاون الثلاثى مزيجاً من الجهود العسكرية والاقتصادية، ويهدف فى بداية الأمر إلى الشراكة فى التدريب وتطوير قدرات القوات العسكرية لمكافحة التمرد والإرهاب نظرًا للتهديدات المستمرة من قبل الجماعات المسلحة لدول الساحل والتى استغلت الاضطرابات الأمنية لإظهار نفوذها والتوسع في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، وكذلك تقوية موقف السلطات الانقلابية الثلاثة فى مواجهة فرنسا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، ويشير الاتفاق إلى “أن أي اعتداء على سيادة وسلامة أراضي طرف أو أكثر من الأطراف المتعاقدة سيعتبر عدوانًا على الأطراف الأخرى”. ومن أبرز العوامل التى دفعت فى إتمام هذا الاتفاق يتمثل فى التقارب الجغرافى للدول الثلاثى مما يسهل عملية فتح الحدود ومرور المساعدات الاقتصادية والقوات العسكرية.
تحذيرات الجزائر من خطر الجيوش الإرهابية:
شهدت نيويورك اجتماع وزاري للاتحاد الافريقي خصص لمناقشة التهديدات الإرهابية المتزايدة التي تواجهها دول وشعوب القارة في الآونة الأخيرة وذلك فى ظل التحضير لقمة استثنائية إفريقية فى نيجيريا حول مكافحة الإرهاب والتى من المتوقع عقدها مطلع العام القادم أكد من خلالها (أحمد عطاف) وزير الخارجية الجزائري قائلاً “الإرهاب أضحى يشكل التهديد الأول والرئيسي للسلم والأمن في القارة الإفريقية، لاسيما في منطقة الساحل التي سجلت أكبر عدد من الضحايا خلال العام المنصرم وأصبحت مرتكزا عالميا للإرهاب”. وسبق أن حذرت الجزائر من خطر ما أطلقت عليه الجيوش الإرهابية فى منطقة الساحل الإفريقى لوضع وصف دقيق وواقعى للجماعت الإرهابية التى يشدد خطرها بمرور الوقت، هذا وقد أكد زير الخارجية الجزائرى على ضرورة التصدى للتصاعد الإرهابى قبل أن ينتقل خارح القارة الإفريقية، واعتماد نهج جديد لمكافحة الإرهاب يعتمد على أساسين تنموية وأمنية.
التغلغل الروسى فى منطقة الساحل:
مع الخروج التدريجى للقوى الغربية متمثلة فى القوات الفرنسية بدأت روسيا تظهر فى المشهد الإفريقى وبقوة بالاعتماد على قوات فاجنر لتحل محل القوات الفرنسية وتملأ الفراغ التى ستتركه كما تحاول تصوير نفسها لدى الأفارقة على أنها قوة محررة ومناهضة للاستعمار ضد الإمبريالية الغربية خاصة مع نجاح القمة الروسية الأفريقية الثانية في سان بطرسبرغ في يوليو الماضي، مما يصب فى نهاية الأمر إلى ضمان نفوذا أكبر في أفريقيا يعزز من مكاسبها في حرب النفوذ مع الغرب. ومن ثم تتجه عدد من الدول فى منطقة الساحل نحوها كحليف جديد يعتبر مصدرًا رئيسيًا للحبوب والسلع والأسمدة والتكنولوجيا والأسلحة بجانب تعهدات روسيا بتقديم مساعدة شاملة لمواجهة حركات التمرد والهجمات الإرهابية التى يشنها المتطرفون، وتستغل روسيا علاقتها بمالى وبوركينا فاسو من أجل تعزيز وجودها العسكرى فى المنطقة عبر توظيف عناصر الدعم العسكرى لها مما يجعل النيجر بشكل غير معلن مدعومة كذلك بالسلاح الروسي والمعلومات الاستخباراتية الروسية فى ضوء التطورات الأخيرة التى تشهدها وانسحاب القوات الفرنسية من المشهد النيجرى.
بعثة الاتحاد الأوروبى الأمنية فى غرب أفريقيا:
فى ضوء ظهور عدة مؤشرات للاهتمام الأوروبي بدول منطقة خليج غينيا اتجاه الدول الأوروبية لتحويل تركيز تعاونها في غرب أفريقيا من دول الساحل الأفريقي إلى الدول الساحلية في خليج غينيا ، ومنها خطط فرنسا لاستراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب بالاعتماد على وجود قواعد عسكرية في السنغال وساحل العاج والجابون في ظل انسحابها من مالي وبوركينافاسو والنيجر، ومع اقتراب انسحاب بعثة الأمم المتحدة (مينوسما) من مالي ، يسعى الاتحاد الأوروبى إلى نشر بعثة أمنية جديدة فى فى خليج غينيا حيث دول “دول غانا وتوجو وبنين وساحل العاج” خاصة مع إشارتها إلى القاعدة العسكرية في ساحل العاج كقاعدة مثالية لتدريب جيوش غرب أفريقيا الأخرى وعقدت إطلاق البعثة بعد الحصول على موافقة رسمية من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم في لوكسمبورج خلال شهر أكتوبر. وتهدف تلك البعثة إلى 4 أهداف أساسية وهم تدريب وبناء قدرات قوات الأمن المحلية وتقديم المشورة، والمساعدة في الاستعداد العملياتي لمكافحة الإرهاب، وتقديم الدعم الفني، وتعزيز تدابير بناء الثقة في قطاعات الأمن المحلية. وترجع رغبة الاتحاد إلى نشر تلك البعثة فى إطار إعادة إحياء مبادرة “أكرا” الأمنية، وتعزيزات إدارة أمن الحدود المتكاملة، وتفعيل القوة المشتركة متعددة الجنسيات التابعة لمبادرة أكرا لتعزيز مكافحة الإرهاب.
مما سبق؛ مع التحولات التى تشهدها منطقة الساحل وتتنوع بين توالى الانقلابات العسكرية واستغلال الجماعات الإرهابية لحالة الفوضى السياسية والأمنية لتحقيق مزيد من الانتشار والتوسع، والانسحاب التدريجى للقوات الفرنسية والتى تتزامن مع الرغبة فى التخلص من الإرث الإستعمارى فى مقابل تصاعد دور القطب الروسى ومحاولات الظهور كبديل للقوى الغربية، نجد أن الدور المكفول للنظم العسكرية الجديدة التى اجتاحت عدد من دول القارة لمواجهة الحركات الإرهابية يبدو مهمة صعبة تحتاج بجانب تنمية القدرات العسكرية إلى انتهاج استراتيجية تضمن تحقيق تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية تتلاشى فيها البيئة المحفزة لنمو الجماعات الإرهابية، فضلاً عن ضرورة التنسيق الإقليمى والذى بدأت بتحالف “ليبتاكو-غورما” بين مالى والنيجر وبوركينا فاسو أن تحقق أهدافها على أرض الواقع ولا تلحق مسار العديد من الاتفاقات الصورية التى لا تجدى نفعاً. ومع المقاربة التى تنتهجها الدول الانقلابية باستبدال الوجود العسكري الفرنسي بالقوات الروسية لا يمكن الإجزام على أن روسيا الطامعة فى ثروات القارة ستكون أفضل من فرنسا فى مواجهة التهديدات الأمنية التى تعانى منها تلك الدول خاصة وأن الأولى لا تحمل القدرة على إدارة التنوع والاجتماعي والديمقراطي والاختلافات العرقية بأفريقيا.