تقرير الانتخابات البرلمانية اللبنانية في ظل مسارات وأبعاد مختلفة

بقلم د/أحمد الشحات: مدير مركز شاف للدراسات المستقبلية

[email protected]

أُجريت الانتخابات البرلمانية اللبنانية، منتصف شهر مايو الجاري، والتي تُعقد  كل 4سنوات؛ لاختيار 128 نائبًا في البرلمان، وتُعتبر هذه أول انتخابات منذ الأزمة الاقتصادية التي شهدها لبنان، والتي وُجهت فيها أصابع الاتهام للنخبة الحاكمة، وانفجار مرفأ بيروت، عام 2020، وسط أجواءٍ مضطربةٍ، وترقُّبٍ شديدٍ، على كافة المستويات ومختلف الأصعدة ، ويأمل الكثيرون أن تحمل معها تغييرًا سياسيًّا في لبنان، الذي يمر بأزمة اقتصادية وسياسية عنيفة .

تركيبة طائفية فريدة تشكل البرلمان

بدايةً: لابُدَّ من استعراض التركيبة الطائفية التي فرضت نفسها على الواقع السياسي والاجتماعي والأمني اللبناني، فمن المهم الإشارة، بأنه يتواجد بلبنان «18» طائفة دينية معترف بها قانونيًّا، ولها تمثيل مُلزم بمجلس النواب
بإجمالى عدد «128» مقعدًا، مقسمةً بالتساوى بين الطوائف الإسلامية والمسيحية، فيما يلــــى :

 1. الطوائف الإسلامية بإجمالى «64» مقعدًا بالبرلمان، موزعةً كالآتى:[ طائفة السنة :ويمثلها فى البرلمان اللبنانى «27»عضوًا، وتنتشر في مناطق عديدة في لبنان، أهمها؛ «طرابلس –  بيروت – صيدا – البقاع» – طائفة الشيعة «حزب الله، وحركة أمل» : ويمثلها في البرلمان «27» عضوًا، يُختار من بينهم رئيس البرلمان، وتنتشر في ثلاث مناطق رئيسية «بيروت وضواحيها –  الجنوب اللبناني –  سهل البقاع» – طائفة الدروز : أبرزهم؛ «الحزب التقدمي الاشتراكي»، ويمثلها في البرلمان «8» أعضاء، وتتركز في «جبل لبنان» – طائفة العلويين : لا يمثلون نسبة سكانية كبيرة، ويقْطُن أغلبهم مدينة «طرابلس»، ويمثلهم عدد «2»عضو في البرلمان ] .

2. الطوائف المسيحية بإجمالي «64» مقعدًا بالبرلمان، موزعةً كالآتى: [ طائفة الموارنة أبرزهم؛ «التيار الوطنى الحر – حزب القوات اللبنانية – حزب الكتائب – تيار المردة» : ويمثلها فى البرلمان اللبنانى «34» عضوًا، ويُنتخب منهم رئيس الجمهورية – طائفة الروم الأرثوذكس : تنتمي تلك الطائفة إلى الغساسنة في سوريا، ويمثلهم «14» عضوًا في البرلمان – طائفة الروم الكاثوليك : ويمثلها في البرلمان «8» أعضاء، يُختار من بينهم وزير الخارجية في الحكومة اللبنانية – طائفة الأرمن : عبارة عن طائفتيْن  «أرثوذكس – كاثوليك»، وتسيطر تلك الطائفة على أعمال الصرافة، ويمثلهم «6» أعضاء في البرلمان – الأقليات المسيحية : عبارة عن طوائف أُخرى «بروتستانت – أنجيل»، وليس لهم تأثير واضــح فـي السياسـة الداخليـة أو الخارجيـة فـي لبنـان، ويمثلهـا عدد «2» عضو في البرلمان ] . 

خريطة التحالفات بالداخل اللبناني

تحالف حركة «8» أذار  : وهو تحالفٌ نشأ في لبنان بعد اغتيال «رفيق الحريري»، وخروج الجيش السوري من لبنان، وذلك عندما أقامت الأحزاب التي لها علاقة وثيقة مع سوريا، بتاريخ 8 أذار/ مارس، بمظاهرة حاشدة؛ لشكر سوريا على ما قدمته للمقاومة اللبنانية، وتتمثل أبرز عناصره في «حزب الله» اللبناني، مع جناحه الشيعي الآخر «حركة أمل»، برئاسة نبيه بري، التيار الوطني الحر، برئاسة جبران باسيل (صهر رئيس الجمهورية، ميشال عون، مؤسس التيار) ، تيار المردة برئاسة «سليمان فرنجية»، وبعض الأحزاب الأخرى، مثل «حركة الشعبكتلة اسكافال – حزب السوري القومي الاجتماعيحزب البعثالحزب الشيوعي اللبناني«.

تحالف حركة «14» أذار : وهو  يجمع التيارات المناهضة، لـ8 أذار، ويعد أبرزهم؛ (حزب القوات اللبنانية، برئاسة «سمير جعجع »، وتيار المستقبل السني – حزب الكتائب برئاسة «أمين الجميل» – حركة التجدد الديموقراطيحزب الوطنيين الأحرار، حركة الاستقلالحركة اليسار الديمقراطيالتكتل الطرابلسيالكتلة الوطنية).

إضافةً إلى تيارٍ محايدٍ، يتمثل في «الحزب التقدمي الاشتراكي«، برئاسة وليد جنبلاط، ومؤيديه من الطائفة الدزية .

مسار ونتائج الانتخابات في ضوْء التحالفات والتركيبة الطائفية :

جرت الانتخابات في 15 دائرة انتخابية، تقسمت كالآتي [ ثلاثة دوائر في الجنوب «صيدا وجزين- صور وقرى صيدا- النبطية وبنت جبيل وحاصبيا مرجعيون) بواقع 23 مقعدًا – ثلاثة دوائر في الشمال «عكار- طرابلس والمينة والضنية- زغرتا وبشري والبترون والكورة» بواقع 28 مقعدًا – ثلاثة دوائر في البقاع «زحلة- البقاع الغربي وراشيا- بعلبك الهرمل» بواقع 23 مقعدًا – وأربعة دوائر في الجبل «كسروان جبيل- المتن – بعبدا – الشوف عاليه» بواقع 35 مقعدًا، ودائرتان فقط في بيروت، بواقع 19 مقعدًا ].

وقد بلغت نسبة الاقتراع في الانتخابات إلى 41,04 %؛ حيث انخفضت مقارنةً بانتخابات 2018، والتي بلغت قرابة 50%، بمشاركة كافة التيارات، عدا «تيار المستقبل»، الذي مثَّل الطائفة السنية سياسيًّا منذ ثلاثة عقود، والذي كان غائبًا خلال الانتخابات البرلمانية؛ حيث أعلن زعيمه ورئيس الحكومة السابق، سعد الحريري،  تعليق نشاطه السياسي .

وبحسب النتائج النهائية للانتخابات النيابية اللبنانية، حصل «حزب الله» وحلفاؤه، على «62» مقعدًا، من أصل «128»؛ ليخسر بذلك الأغلبية «50% +1»، التي حقَّقها في انتخابات 2018، حين حصد «71» مقعدًا، وذلك بالرغم من احتفاظ «حزب الله» وحليفته «حركة أمل»، التي يتزعّمها رئيس البرلمان المنتهية ولايته «نبيه برّي»، بكامل المقاعد المخصّصة للطائفة الشيعية «27 مقعدًا»، بينما خسر حلفاؤه مقاعد في دوائر عدّة، بينهم «التيار الوطني الحر»، بزعامة رئيس الجمهورية «ميشال عون»، ونائب رئيس الحزب القومي السوري، مقابل حصول باقي الأحزاب والمستقلين والمعارضة من الطوائف والتيارات المحتلفة «66» مقعدًا .

وفي تطورٍ ملحوظٍ ، حصل «حزب القوات اللبنانية» بقيادة «سمير جعجع» بـ«20» مقعدًا في البرلمان، بعد أن حصلت على «15» مقعدًا، في انتخابات 2018، ويعد «التيار المسيحي» هو الأبرز، وهو المناهض والمعادي تاريخيًّا لـ«حزب الله»، بينما حصلت المعارضة المنبثقة عن التظاهرات الاحتجاجية ضد السلطة السياسية التي شهدها لبنان قبل أكثر من عامين، بـ«14» مقعدًا في البرلمان الجديد «12» منهم من الوجوه الجديدة، ولم يسبق لهم أن تولوا أيَّ مناصب سياسية .

أهم الدلالات على نتائج الانتخابات اللبنانية

أولاً : «حزب الله» وحلفاؤه، وأبرزهم «حركة أمل»، برئاسة نبيه بري، و«التيار الوطني الحر» برئاسة جبران باسيل، لم يتمكنوا من تحقيق الأغلبية، أُسوةً بالانتخابات الماضية، والتي حصلوا فيها على 71 مقعدًا، أتاحت لهم التأثير الكبير والمباشر على أداء البرلمان والحكومة والمؤسسات السيادية المختلفة؛ ما جعلهم مسؤولين عن كل أبعاد الأزمة الطاحنة التى يعيشها لبنان، ووصلت إلى قمتها في الأشهر الماضية.

وأن فقدان الأغلبية «50% زائد أو أكثر»، لا يعني فقدان التأثير على مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في لبنان؛ وذلك لما تملكه هذه القوى من عناصر قوة طائفية من جهةٍ، ومن امتلاك «حزب الله» ترسانة أسلحة كبيرة، بعيدة عن سيطرة الدولة، وتثير الكثير من الإشكاليات للبنان ككل، سواء في مواجهة القوى السياسية التي تناوئ الحزب، وتعتبره سببًا رئيسيًّا لكل مشكلات لبنان في الداخل والخارج، أو في مواجهة القوى الدولية والإقليمية التي تمارس أشكالًا مختلفة من التأثير السياسي على مجمل الشأن اللبناني.

ثانيًا : تتعلق بالانقسام المسيحي الماروني، وتبدل المواقع بين «حزب القوات اللبنانية»، برئاسة سمير جعجع، و«التيار الوطنى الحر»؛ لصالح القوات التي حصدت «20» مقعدًا، بما يعد أكبر كتلة في البرلمان، والممثل الأكبر للمسيحيين الموارنة، وتشكل تلك النتيجة ضربة كبرى لـ«التيار الوطني» من جانب، وللرئيس ميشال عون، مؤسس التيار، من جانب آخر، خاصةً من زاوية الاستعداد للانتخابات الرئاسية، المقرّرة في نوفمبر المقبل؛ حيث كان الرئيس «عون» يراهن على فوْز التيار بعددٍ كبيرٍ من المقاعد، بحيث تدعم مكانته في تحديد اسم الرئيس المقبل، وتحديدًا صهره، جبران باسيل.

ثالثًا : حصول المستقلين والوجوه الجديدة على « 14» مقعدًا، بما يمثل حوالي 10% من المقاعد التشريعية، هو إشارة إلى الاستياء المتزايد من النخبة الحاكمة، التي تتلقى لوْمًا واسع النطاق؛ بسبب الانهيار الاقتصادي في البلاد، وبدا أنّ الأزمة الاقتصادية حفّزت الناخبين على التصويت للإصلاحيين، الذين عانوا سابقًا في اختراق القيادة السياسية، لكن الضائقة المالية الشديدة دفعت أيضًا العديد من الناخبين المحتملين إلى الابتعاد عن صناديق الاقتراع؛ كونهم فقدوا ثقتهم بالنظام السياسي في لبنان، كما تعد رسالة قوية إلى الطبقة الحاكمة، بأن هناك دماء جديدة، من المحتمل أن تكون ركيزة أو محفزة؛ لتغير الأوضاع السياسية بلبنان مستقبلًا .

رابعًا: أن مجمل النظام السياسى والقانون الانتخابي، والمصمّم أساسًا على التقاسم الطائفي للمناصب والوظائف، لا يسمح بالكثير من اختراقات القوى الجديدة، ذات الطابع الشبابي، على حساب القوى السياسية التقليدية، ورغم تأكيد كل عناصر النخبة اللبنانية على ضرورة التغيير، وتأسيس لبنان على قواعد سياسية ودستورية جديدة، فلا يعدو الأمر سوى خطاب دعائي لا أكثر.

انعكاسات الانتخابات البرلمانية اللبنانية إقليميًّا ودوليًّا

التطورات الدولية  والإقليمية الأخيرة، المرتبطة بمسار برنامج إيران النووى، وما تمَّ الترويج له من احتمالية التوصل لاتفاق مؤقت، تراجعت حظوظه بعض الشيء؛ نتيجةً لانشغال القوى الأوروبية والولايات المتحدة بالحرب الروسية في أوكرانيا، في الوقت الذى يرى آخرون، أن اتفاقًا ما بين القوى الدولية وإيران، لا يشمل الدور الإقليمى للأخيرة، سيعني مزيدًا من الدعْم الذي تقدمه طهران للجماعات والميليشيات والقوى المرتبطة بها، سواء في لبنان أو العراق.

وفي إطار الانتخابات البرلمانية، هناك ترحيب عام من كافة القوى الدولية والإقليمية، بإتمام العملية الانتخابية، مع دعواتٍ بمساهمة تلك الخطوة في تحقيق الاستقرار السياسي للبنان، وسط حالة من الترقُّب؛ لما ستؤول إليه الأوضاع في المنظور القريب لمستقبل دولة لبنان، خاصةً على المساريْن «الاقتصادي، والسياسي» .

إقليميًّا : تتطلع القوى الإقليمية من الدول العربية المناهضة لإيران، وعلى رأسها؛ الدول الخليجية، خاصةً «السعودية، والإمارات»، أن تغير نتائج الانتخابات الجديدة من موازين القوى القائم، وإن كان تدريجيًّا؛ وذلك اعتمادًا على تغيُّر المزاج العام للبنانيين، الرافض لحالة الهيمنة الإيرانية، التى يفرضها وجود «حزب الله» في السلطة، وذلك على غرار ما أنتجته الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق، والتي عكست مدى رفض العراقيين للتيارات السياسية المرتبطة بإيران، وتحميلها المسؤولية كاملة عن تردِّي الأوضاع على كافة المستويات.  

كما بدا واضحًا أن هناك تطلعات مرنة للسعودية تجاه الانتخابات اللبنانية، ظهرت عبْر العديد من اللقاءات التي جمعت مسؤولي وزارة الخارجية السعودية بنظرائهم الأمريكيين في الرياض، أكدت خلالها على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها، بخلاف كونها أحد بنود مبادرة الكويت التي قدمتها للحكومة اللبنانية، خلال يناير الماضي، وعبرت عن رؤية دول الخليج العربي تجاه معالجة الأوضاع الداخلية في لبنان، يُضاف إلى ذلك، إعادة كل من السعودية والكويت لسفيريهما إلى بيروت، مطلع أبريل الماضي، في مقابل ذلك، جاءت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني لبيروت، خلال شهر مارس الماضي، بما تمثله من دعْمٍ لـ«حزب الله» وحلفائه، لتُوازِن حالة الحراك العربي المتواترة مؤخرًا على الساحة اللبنانية.  

بينما هناك من يرى في حالة الانكفاء السني، من خلال انسحاب «تيار المستقبل» من المشهد السياسي، تراجعًا لمحور السعودية في لبنان، وهو المحور الذى طالما وفَّر دعمًا واضحًا لشخص سعد الحريري، ورعاية إقليمية قوية لتياره السياسي؛ وإن واجهت تلك العلاقة العديد من العثرات، التي بدأت مع تسويات عام 2016، وبمقتضاها قبلت السعودية وجود حليف «حزب الله» ميشال عون، في منصب الرئاسة، وهي التسوية التي تلت إبرام الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، في مايو 2015، ثمَّ توالت عثرات «تيار المستقبل» فى لبنان، بدْءًا من استقالة «سعد الحريري» من الرياض، في نوفمبر 2017، ثم استقالته الثانية، في أكتوبر 2019، على خلفية احتجاجات شعبية غير مسبوقة، وصولًا إلى أزمة سحْب السعودية لسفيرها من بيروت، في أكتوبر 2021.

وسبقت عودة اهتمام الرياض بلبنان، منذ شهر أبريل 2022، حالة انسحاب «تيار المستقبل» من الحياة السياسية، وتشكيل القوى السياسية لقوائمها الانتخابية، وسط تشرذُم واضح للقوى السنية، بعد انسحاب التيار الأبرز لها من المعترك الانتخابي، وهذا يعني بالتبعية غياب المتغير السعودي في معادلة الانتخابات اللبنانية، ونتائجها المتوقعة خلال السنوات الأربع القادمة، وبناءً على ذلك، يمكن تصنيف عودة السعودية الأخيرة إلى لبنان، بأنها تأتي في سياق احتماليْن: إما أن ذلك مرتبط بمحاولة تعزيز الحضور السعودي في هذا الملف، بالتوازي مع انعقاد جولات الحوار «السعودي – الإيراني» في العراق، وإما العودة إلى مسار الاشتباك الإقليمي مجددًا، وهو مسار بات محكومًا بمسار دولي أكبر منه، تفرضه مستجدات وتطورات الأزمة «الروسية –الأوكرانية» الراهنة، فضلًا عن السيناريوهات المحتملة، التي يمكن أن تنتهي إليها مفاوضات «فيينا» حول الاتفاق النووي. 

وفى سياقٍ متصلٍ، علّق السفير السعودي في لبنان «وليد بخاري» على نتائج الانتخابات النيابية، مؤكدًا حسب تصريحه «حتمية تغليب منطق الدولة على عبثية فوائض الدويلة المعطلة للحياة السياسية والاستقرار في لبنان».

أما دوليًّا : ستفرض تطورات الانتخابات البرلمانية على القوى الدولية المناوئة لإيران القبول بنتائجها، ما دامت مخرجات العملية الانتخابية تمَّت وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، ومن جانبٍ آخر، يدخل متغير استقرار الأوضاع الداخلية في لبنان، وتفاعلاته الإقليمية ضمن اهتمامات كلٍّ من «الولايات المتحدة، وفرنسا»؛ فبالنسبة للولايات المتحدة فهى تؤيد إجراء العملية الانتخابية، بغض النظر عن نتائجها، من منطلق أن هذا سيوفِّر قدْرًا من الاستقرار النسبي للأوضاع الداخلية، بما ينعكس على حالة التهدئة مع الجانب الإسرائيلي؛ لأن استقرار لبنان أمنيًّا يعني بالضرورة استقرار حدوده مع إسرائيل، حتى وإن كان تواجد «حزب الله» في البرلمان يمثل في مجمله تهديدًا لإسرائيل، لكنه تهديد ظِلٍّ، وسيظل محكومًا بإطاره الإقليمي والدولي، الذي يكبح بدوره الوصول لحالة المواجهة العسكرية على مدار السنوات الماضية.

ويرى المراقبون، أن التأثير الأمريكي في الداخل اللبناني، بات يتجاوز أوراق اللعبة السياسية، إلى أخرى تتمثل في أوراق التأثير ذات الأبعاد الاقتصادية؛ كـ«المساعدات المالية، وترسيم الحدود البحرية مع الجانب الإسرائيلي»، بخلاف حالة التعاون العسكري والأمني، والتي يأتي في مقدمتها؛ دعْم المؤسسة العسكرية اللبنانية، لكن من الواضح عدم امتلاك الولايات المتحدة رؤية إستراتيجية شاملة تجاه الوضع الداخلي، وفيما يخص علاقتها بـ«حزب الله» ودوره في المشهد السياسي، ستظل مرتبطة بعلاقة واشنطن بطهران وتابعة لنمطها، لاسيما تلك المتصلة بالبرنامج النووي.

أما بالنسبة لفرنسا؛ فهى تهتم أيضًا باستقرار الأوضاع اللبنانية الداخلية، بغض النظر عن نتائج الانتخابات البرلمانية، وإن كانت تُولِي اهتمامًا ملموسًا بإعادة الزَّخَمِ للدوْر السياسي للقوى المسيحية، كما يوفر إتمام العملية الانتخابية بيئة صالحة؛ لإتمام صندوق النقد الدولي مساعداته الاقتصادية، بما يساعده على مواجهة حالة التردِّي والانهيار الاقتصادي.

 

تصورات فيما بعد الإنتخابات

1. من المنتظر أن تكون وثيقة عمل الحكومة الجديدة حال تشكيلها مثار جدل كبير في البرلمان، لا سيما ما يتعلق بمفهوم المقاومة التي يتمسّك بها «حزب الله» في أي وثيقة عمل للحكومة، وبما يمنحه الأساس الشرعي؛ لتمسّكه بالسلاح بعيدًا عن الجيش والمؤسسات السيادية معًا، وهو وضع غير مقبول من قِبَلِ القوات، ومرفوض تمامًا، كما سيمتد الجدل الحاد حول السياسة الاقتصادية والإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي، قبل الاتفاق على خطة الدعم والمساندة للبنان، وكذلك العلاقات الخارجية للبنان؛ حيث يؤكد «حزب القوات» ضرورة محاصرة التأثير الإيراني عبر «حزب الله»، وفتح المجال أمام تحسين العلاقات اللبنانية مع العالم الخارجي، وفي المقدمة «الدول العربية، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي»، وهي القوى التي تحفّظت على الكثير من السياسات اللبنانية في الأعوام الماضية، والمؤكد أن التوصّل إلى وثيقة عمل الحكومة الجديدة سيواجه الكثير من العراقيل والجدل والصياح السياسي؛ ما سيؤخر تشكيل الحكومة ذاتها، وهو ما سيصب في إطالة زمن المعاناة لكل لبناني.

2. فقدان «حزب الله» وحلفائه للأكثرية في البرلمان اللبناني، عقب الانتخابات النيابية التي شهدتها البلاد، لن يُفضي إلى تغيير دراماتيكي في المشهد اللبناني العام، لكنّه ضمان لمقدمات يمكن البناء عليها؛ لإنعاش الآمال لدى اللبنانيين، بإمكانية إحداث خرْقٍ في نظام سياسي، أدخل البلاد في متوالية أزمات مستحكمة، عظمت من معاناة المواطن اللبناني.

3. عدم حصول «حزب الله» وحلفائه على الأكثرية البرلمانية، سيقلص بشكل نسبي من التأثير في عملية انتخاب الرئيس، وفي تحديد رئيس الحكومة، وفي تشكيلها؛ ما يعني تراجع عوامل فرض الهيمنة الإيرانية على السلطة اللبنانية، وكذلك مصالح «حزب الله»، ومن المحتمل، أن يسعى الحزب وفق نتائج الانتخابات الجديدة على محاولة استمالته لبعض المستقلين المحسوبين على قوى التغيير، وتوظيف ذلك؛ لصالح مشاريعه الداخلية والخارجية.

4. إجراء الانتخابات في ظل مقاطعة «تيار المستقبل» الذي يعبّر عن النسبة الأكبر من السنة، وهو القرار الذى اتخذه زعيم التيار، سعد الحريري، سيؤثر بالتبعية على طريقة اختيار رئيس الوزراء الجديد، الذي يجب أن يكون سنيًّا، وفقًا للدستور المعمول به، وعبّر قرار المقاطعة في جانبٍ كبيرٍ منه، عن غضبٍ شخصيٍ لـ«الحريري» واستياء لـ«تيار المستقبل» ككل؛ نتيجة العراقيل الكبيرة التي واجهته عند تشكيل الحكومة قبل عاميْن، ولم يتمكن من تشكيلها؛ ما اضطره إلى الاعتذار والابتعاد عن العمل السياسي مؤقتًا، لكن بعض أفراد انتموا إلى «تيار المستقبل» في السابق، ترشّحوا في الانتخابات كأفراد، وليسوا كأعضاء بـ«تيار المستقبل»، ومنهم من فاز بالفعل؛ بسبب تحالفه مع قوى سياسية تقليدية من المسيحيين، ولا يبدو أن منهم شخصية بارزة، يمكن أن تمثل التيار السني، وتكون مرشحة لرئاسة الوزراء حين يأتي وقت الاختيار لهذه المهمة الشاقة.

5 .في ضوْء تبدّل المواقع، وبروز مكانة القوات في القطاع المسيحي الماروني، فمن المرجّح، أن يكون لرئيس الحزب «سمير جعجع» صوت أكبر في اختيار الرئيس المقبل، كما سيكون له تأثير أكبر في عمل البرلمان، وفي تشكيل الحكومة الجديدة، إذا ما اتُّفق على شخصية سنية تكون مقبولة من القوى السياسية الكبرى، ووفقًا لمواقف الحزب، المناهضة تمامًا لفكر وأيديولوجية وسياسات «حزب الله».

6. محدودية تأثير القوى الشعبية التي تصف نفسها بالثورية والرافضة لمجمل أحوال لبنان المتدهورة، رغم إنجازها في الانتخابات؛ إذ لم تستطع أن تشكل لنفسها هيكلًا جامعًا يساعدها على إحداث تأثير ملموس في الواقع السياسي، وغلبت على تحركات بعض قياداتها نرجسية سياسية، وقلة خبرة في العمل السياسي، لاسيما في إنشاء التحالفات الانتخابية الضرورية؛ ما يفسّر محدودية المقاعد التي حصدتها تلك العناصر. 

7. ليس من المستبعد، أن «حزب الله» حال عدم التجاوب مع متطلباته بما يتفق مع مخططاته وأهدافه، أن ينتهج سياسة تكريس الفراغ على كلّ المستويات، باستقوائه على ترسانة الأسلحة الذي يمتلكها؛ ليكرس الفراغ السياسي، ويزيد من شحْن الأجواء السياسية؛ ما سيعني صعوبة تشكيل حكومة جديدة، والإبقاء على التشكيل الحكومي الهش، وسيترك «حزب الله» الموقف يسير نحو الأسوأ، مع احتمالية استخدام القوة، وتأجيج الوضع الأمني، إذا لزم الأمر .

ختامًـا : واقعيًّا لن تكون هذه الانتخابات هي الخلاص اللبناني، فهذه النتائج – فقط – تعطي إشارة، أن الرفض الشعبي للواقع السياسي له قدرة على التغيير، وإن كان التغيير يحتاج إلى مدة زمنية ممتدة؛ نتيجة ما فُرض على لبنان من سلطة سياسية مرتهنة للقوى الخارجية، وحقيقةً إن تفاعلات الداخل اللبناني في ضوْء الانتخابات البرلمانية، تؤشر على صعوبة حدوث تغيير فعلي في المعادلة السياسية القائمة، التي يحظى فيها «حزب الله» بنفوذٍ سياسيٍ واضحٍ، وأن نتائج تلك الانتخابات قد تُكرِّس من وضعه المتقدم في هذه المعادلة، ومن ثمَّ يصبح التغيير الفعلي مرهونًا بحالة التفاعل الخارجية بين القوى الإقليمية والدولية المعنية بلبنان، وتحديدًا «إيران، والسعودية، والولايات المتحدة»، ومستجدات هذا التفاعل، سواء في ملفات الصراعات الإقليمية التي تنخرط فيها إيران، أو مستجدات مفاوضاتها بشأن برنامجها النووي، أو مستجدات الحرب «الروسية – الأوكرانية» بناءً على دور المتغير الأمريكي والروسي فيها؛ ما يعني بقاء لبنان واستقراره داخليًّا رهنًا بالتوصل إلى «حلول إقليمية – دولية» ناجزة.   

كلمات مفتاحية