مصطفى أحمد مقلد
مع عودة الحيوية بشكل نسبى للعلاقات الأمريكية الصينية بعد فترة توترات انتهت بزيارة الرئيس الصينى الولايات المتحدة لحضور قمة أبيك فى سان فرانسيسكو نوفمبر الماضى، حيث اتفقا الجانبان على ضرورة الحوار لحلحلة القضايا العالقة، وفى هذا السياق جاء لقاء مستشار الأمن القومي الأمريكى “جيك سوليفان” مع وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” في بانكوك بتايلاند نهاية يناير المنقضى، وخيم على جلسة الحوار ملف “ردع الحوثيين ووقف هجمات البحر الأحمر التى تهدد التجارة العالمية” الذى أصبح شاغل أساسى للولايات المتحدة، كذلك حث بكين على إقناع حليفتها “كوريا الشمالية” بتقليص برنامجها للأسلحة النووية وتقليص الدعم لحرب روسيا على أوكرانيا وتخفيف خطابها العدائي المتزايد تجاه كوريا الجنوبية.
فى المقابل ركزت الصين خلال المحادثات على رفض استقلال تايوان واعتباره التحدي الأكبر لعلاقات الصين والولايات المتحدة، والتعبير عن مخاوف بكين من أن الولايات المتحدة تستخدم قيود التصدير “لاحتواء وقمع تنمية الدول الأخرى”. والمتفق عليه الآن هو أن البلدين سيستمران فى النقاش بما فى ذلك موضوع “الحدود بين الأمن القومي والأنشطة الاقتصادية” في الاجتماعات المقبلة.
ويشير صمت بكين إزاء دعوات الولايات المتحدة للعب دور في البحر الأحمر، إلى أن الصين تراهن على مكاسب أكبر مما ستجنيه من التفاعل مع الولايات المتحدة، فبالتوازى مع تنفيذ الولايات المتحدة ضربات ضد أهداف حوثية، حاول البيت الأبيض من خلال الصين الضغط على طهران لإقناع الحوثيين بوقف استهداف السفن التى تعبر باب المندب، لكن البيت الأبيض صرح بأن المحادثات انتهت دون أي إشارة إلى استعداد الصين لاتخاذ خطوات حاسمة لاستخدام نفوذها الاقتصادي على إيران لحثها على كبح الحوثيين.
كان قد اتسم الموقف الصينى بتجنب إدانة الحوثيين، ودعا الدبلوماسيون الصينيون إلى السلام، وامتنعت بحرية جيش التحرير الشعبي عن المشاركة في فرقة العمل التي بدأتها الولايات المتحدة (عملية حارس الازدهار) لحماية الملاحة في المنطقة، ولم تستجب سفنها الحربية لنداءات الاستغاثة من السفن التي تعرضت للهجوم، كذلك نأت بنفسها عن قراءة الولايات المتحدة للموقف الذى تصفه بأنه أزمة تهدد حرية الملاحة، بينما ترى الصين أن الوضع نتيجة مباشرة للصراع الإسرائيلي مع غزة، وفى نفس السياق عبرت عن أن ضربات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على أهداف للحوثيين يفاقم الوضع.
وفي حين تفرض التوترات في البحر الأحمر ضغوطاً تدفع أسعار النفط العالمية إلى الارتفاع، فمن غير المرجح أن تمثل صدمة شديدة لأمن الطاقة في الصين، حيث ملأت الصين الاحتياطي النفطي الاستراتيجي، وبوسعها أن تتحمل صدمة قصيرة الأمد، ومن ناحية أخرى، كشفت بيانات شركات متابعة الشحن البحري العالمي عن دخول عدد من شركات الملاحة الصينية على خط البحر الأحمر بتحويل سفنها من مناطق أخرى إلى خط باب المندب – قناة السويس بعد تفادي شركات الملاحة البحرية الكبرى للخط الاستراتيجي، وهو ما جلب لصين اتهامات الاستغلال باعتبار أن السفن الصينية أقل عرضة لهجمات الحوثيين، وبذلك تحصل على نصيب الآخرين من النقل البحري في المنطقة.
إذن الاعتبار الاقتصادى لا يشغل الصين كثيرا فى الوقت الحالى بقدر ما يشغلها اعتبارات أخرى تخص التنافس الجيوسياسى، فالصين تأخذ موقف “الراكب المجانى” حيث تستفيد من استعادة الولايات المتحدة للردع ضد الحوثيين باعتبار أن البحر الأحمر ركن مهم فى استراتيجية الحزام والطريق، وتزيد العبء على الولايات المتحدة التى بادرت بشن هجمات على الحوثيين بدون وجود جدول زمنى لإنهاء تلك العمليات وهو ما يفتح جبهة قتال جديدة للولايات المتحدة، ومن ناحية أخرى لم تحصل الولايات المتحدة لبدء هجماتها على دعم أممى أو الدعم من الدول العربية -باستثناء البحرين التى لا تشارك فى عسكريا بل لوجستيا- أو الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وهو ما يمنح الصين فرصة لانتقاد واشنطن من خلال اعتبار تفاقم الوضع نتيجة للتوجهات الأمريكية المنحازة لإسرائيل بشكل كامل.
لكن الصورة ليست وردية بالنسبة للصين، فذلك الصمت يخلق لها تحديات، فمن جهة أخرى زاد الوجود العسكرى الأمريكى بما يحمل معه من نفوذ، وضربات الحوثى فى البحر الأحمر تقلق السعودية ولا تريد الصين أن تذهب تلك المخاوف السعودية بعيدا فيما يخص علاقات السعودية بالحوثيين أو إيران باعتبار أن استقرار العلاقات السعودية الايرانية هو النجاح الدبلوماسى الصينى الأبرز حتى الآن وهو ما تبنى عليه الصين خطواتها القادمة فى المنطقة، كذلك فإن الولايات المتحدة ستستثمر الفرصة لإستقطاب السعودية من خلال اللعب على ذلك الوتر حيث أقدمت الولايات المتحدة على استئناف المحادثات لترقية العلاقات الدفاعية والتباحث معها حول خارطة طريق تخص شكل الشرق الأوسط بعد حرب غزة بما يشمل إقامة دولة فلسطينية ودمج إسرائيل مع جيرانها، وهى القضية التى أبدت حيالها الصين طموحها للعب دور مبنى على الحياد تجاه الأطراف.
وفى سياق آخر، حذر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من أن المكاسب الميدانية التي حققتها أوكرانيا خلال أكثر من عامين في مواجهة روسيا ستكون في خطر إذا لم يصادق الكونغرس على مساعدات جديدة لكييف، وجاء موقف بلينكن خلال زيارة لواشنطن يجريها الأمين العام لحلف شمال الأطلسي لحث الكونغرس الأميركي على مواصلة دعم أوكرانيا، بعد تعثر الموافقة على مساعدات إضافية لأوكرانيا، إذ يشترط مشرعون جمهوريون إجراء تعديلات كبرى على مستوى ضبط الهجرة والحدود للمصادقة على حزمة المساعدات لأوكرانيا، ويأتى ذلك فى وقت تقيم فيه كوريا الشمالية وروسيا شراكة أمنية من شأنها أن تمنح روسيا طوق نجاة فى حال تم توريد الأسلحة من هناك، وهو ما يزيد من قدرة روسيا على إطالة أمد الصراع إذاكان ذلك يخدم إستراتيجيتها، وهو ما يعنى المزيد من الضغوط على الولايات المتحدة وأوروبا.
لذا تحاول إدارة بايدن ربط منطقتى الأندوباسفيك والأطلسى أمنيا تحت مفهوم “الردع المتكامل” وقد تناول الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي مثل هذا التقارب الإقليمي، مؤكدا على صلة التهديدات القريبة والبعيدة ببعضها، أي التهديدات من روسيا والصين، والشراكة الأمنية بين روسيا وكوريا الشمالية، من شأنها أن تعمل على تسريع التقارب الأمني الإقليمي، لكن الصين لا ترغب في رؤية هذا التقارب الأمني بين منطقتي المحيط الهادئ الهندي والأوروبي الأطلسي، وأوضحت بأن حلف شمال الأطلسي لا ينبغي له أن ينخرط في منطقة المحيط الهادئ الهندية، وخاصة في مضيق تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وشبه الجزيرة الكورية.
فمع تعميق العلاقات بين روسيا وكوريا الشمالية، فإن الصين لا ترحب بالضرورة بالتعاون العسكري بين روسيا وكوريا الشمالية، أو العمل فى شكل محور أو حلف ثلاثى، خشية أن يدفع ذلك لتغير الإستاتيكو القائم فى شمال شرق آسيا الذى يمنح الصين دور المبادر والمحرك للأحداث، حيث تحافظ الصين على تعاونها مع روسيا وكوريا الشمالية فيما يتعلق بالسياسات المناؤئة للولايات المتحدة، ولكن سيكون من المفيد لبكين أن تتعامل مع موسكو وبيونج يانج على أساس ثنائي حتى تتمكن من الحفاظ على قبضتها على الشؤون الإقليمية.
ومن ناحية أخرى، تجنبت الصين تقديم دعم عسكري لروسيا، لكنها لا تريد أن تخسر روسيا الحرب باعتبارها شريك مهم، وإذا زودت كوريا الشمالية روسيا بأسلحة فسوف تتمكن الصين من الحفاظ على علاقاتها مع أوروبا وتجنب الانتقادات من جانبها حيث تعارض أي دعم لروسيا، وتستطيع روسيا أن تستمر في خوض حربها مع أوكرانيا التي يدعمها حلف شمال الأطلسي، كذلك لا ترغب الصين في تحمل قدر أكبر من المسؤولية عن التهرب من العقوبات الشاملة المفروضة على كوريا الشمالية، وبدلا من ذلك، ستتحمل روسيا المسؤولية عن تزويد كوريا الشمالية بالتكنولوجيا وفق الاتفاقات الثنائية، في حين ستظل الصين تتمتع بمزيد من النفوذ على الولايات المتحدة وحلفائها.
وتُعَد الصين أكبر شريك تجاري لكوريا الشمالية، وتاريخياً، مارست نفوذاً سياسياً على كوريا الشمالية أكثر من روسيا، وخاصة في مساعدة كوريا الشمالية على التهرب من العقوبات المتعددة الأطراف والأحادية، لذا لن تندفع الصين فى إجابة طلب أمريكا بممارسة مزيد من الضغوط على كوريا الشمالية، خشية حدوث تغييرات في السياسة الخارجية لكوريا الشمالية يجعل الصين مستبعدة لصالح روسيا.
ويمكن إرجاع الحافز الذي جدد العلاقة بين الصين وكوريا الشمالية وروسيا إلى تطبيع العلاقات بين سيول وطوكيو، وعلى الرغم من أن تركيز التقارب كان على مواجهة التهديد الكوري الشمالي، إلا أن هذا التحول أثار مخاوف بكين، كما أضافت العلاقات المتنامية بين اليابان وكوريا الجنوبية مع الناتو إلى هذه الفكرة، إضافة إلى القوة العسكرية الصاعدة لليابان التى تعطى إشارة واضحة إلى الديناميكيات المتغيرة في الجغرافيا السياسية في شمال شرق آسيا.