إعداد: شيماء عبد الحميد
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتدفُّق المساعدات العسكرية الغربية لكييف، إلى جانب عودة خطر الصراعات المسلحة إلى الواجهة مرةً أُخرى، وتزايد التوترات المستمرة في تايوان وشبه الجزيرة الكورية، وكذلك التهديدات الأمنية المصاحبة للتجارب النووية لكوريا الشمالية، دخل العالم مرحلة ما يُعرف باقتصاد الحرب؛ أيْ التوجُّه إلى حالة من العسكرة، وتعبئة الجيوش، وتعزيز الإستراتيجيات الأمنية، وانطلاق سباق التسلُّح، وزيادة حجم الإنفاق العسكري، بطريقةٍ غير مسبوقة لعدد من الدول، خاصةً الدول الأوروبية والآسيوية؛ بهدف الاستعداد للصراعات والتهديدات والحروب المحتملة؛ الأمر الذي يهدد بانتشار الأسلحة، ومن ثمَّ دخول مرحلة الفوضى العسكرية، التي من شأنها أن تهدد الأمن العالمي، وتدفع إلى زيادة المواجهات المسلحة، وذلك في وقتٍ يشهد فيه العالم مرحلة خطيرة من الأزمات الناتجة عن تداعيات انتشار جائحة “كوفيد – 19″، وانطلاق الحرب الأوكرانية، وعلى رأسها انعدام الأمن المائي والغذائي، فضلًا عن تفاقم أزمة الطاقة وتعقُّد أزمة التغيُّر المناخي، وارتفاع معدل التضخم، وكل هذا من شأنه الضغط على الاقتصاد العالمي.
معدلات متنامية لحجم الإنفاق العسكري العالمي
- معدلات الإنفاق العسكري العالمي، وفقًا لإحصائيات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام:
– عام 2020؛ زادت حصة الإنفاق العسكري العالمي بمقدار 0.2 نقطة مئوية لتصل إلى 2.4%، وبلغ إجمالي معدل الإنفاق 1.98 تريليون دولار، مسجلًا زيادة بنسبة 2.6% بالقيمة الحقيقية مقارنةً بعام 2019، وكانت أكبر عشر دول من حيث الإنفاق العسكري في 2020 هم: الولايات المتحدة والتي زادت إنفاقها بنسبة 4.4% ليصل إلى 778 مليار دولار وهو ما يعادل 39% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي في 2020، الصين والتي مثلت نفقاتها 13% من إجمالي الإنفاق العالمي، الهند، روسيا، بريطانيا، السعودية، ألمانيا والتي زادت نفقاتها بنسبة 2.5% لتصل إلى 8.52 مليار دولار، وفرنسا حيث زاد إنفاقها العسكري بنسبة 2.9% ليبلغ 52.7 مليار دولار، واليابان وكوريا الجنوبية، وقد شكَّلت هذه الدول معًا 62% من الإنفاق العسكري في جميع أنحاء العالم.
– عام 2021؛ ارتفع حجم الإنفاق العسكري العالمي بنسبة 0.7% عن العام 2020، ليصل للمرة الأولى إلى 2.1 تريليون دولار، فيما تجاوز الإنفاق العسكري الأوروبي للمرة الأولى الـ200 مليار يورو، في زيادة تاريخية غير مسبوقة، في حين بلغ إجمالي مبيعات الأسلحة 592 مليار دولار، بنسبة زيادة 7.6% عن العام 2020، الذي بلغ مستوى 550 مليار دولار.
وكانت أكبر 10 دول إنفاقًا في المجال العسكري هم: الولايات المتحدة، الصين التي زادت نفقاتها بنسبة 4.7% ليبلغ إنفاقها العسكري 293 مليار دولار، الهند إذ بلغ إنفاقها إلى 76.6 مليار دولار، بريطانيا التي زاد إنفاقها العسكري بنسبة 3% ليصل إلى 68.4 مليار دولار، روسيا، فرنسا، ألمانيا، السعودية التي خفَّضت الإنفاق بنسبة 17% إلى ما يقدر بنحو 55.6 مليار دولار، اليابان التي زاد إنفاقها بنسبة 7.3% ليصل إلى 54.1 مليار دولار، وكوريا الجنوبية.
أما فيما يخص منطقة الشرق الأوسط؛ فقد بلغ إجمالي الإنفاق العسكري في المنطقة خلال 2021، 186 مليار دولار، وهو انخفاض بنسبة 3.3% قياسًا بالعام 2020.
– عام 2022؛ سجل الإنفاق العسكري العالمي رقمًا قياسيًّا خلال العام 2022، وذلك في ضوء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية؛ حيث بلغ 2.24 تريليون دولار؛ أيْ ما يعادل 2.2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فيما سجل الإنفاق العسكري الأوروبي وحده، قفزة لم تشهدها أوروبا منذ الحرب الباردة؛ إذ زاد الإنفاق العسكري الأوروبي بنسبة 13% عن العام 2021، ليصل إلى 480 مليار يورو.
وكانت أكبر الدول إنفاقًا خلال العام 2022 هم: الولايات المتحدة حيث بلغ حجم إنفاقها العسكري 877 مليار دولار ليشكل 39% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي، الصين التي زاد إنفاقها بنحو 15.6% ليبلغ 242.4 مليار دولار، روسيا إذ زاد إنفاقها العسكري بنسبة 13.3% ليصل إلى 87.9 مليار دولار؛ الهند بإجمالي إنفاق 81.4 مليار دولار وذلك بزيادة قدرها 6% عما كان عليه في عام 2021، السعودية حيث ارتفع حجم إنفاقها العسكري بنسبة 16% ليصل إلى ما يُقدر بنحو 75 مليار دولار، في أول زيادة منذ عام 2018، بريطانيا أكبر منفق على الأسلحة في أوروبا بإجمالي 68.5 مليار دولار؛ أيْ ما يعادل 3.1% من الإنفاق العسكري العالمي، ألمانيا التي سجلت زيادة بنسبة 2.5% ليبلغ إنفاقها 54.4 مليار دولار، وفرنسا بنسبة زيادة 2.4%، ليبلغ إنفاقها 53.4 مليار دولار، وفي المركز الـ11 على مستوى العالم، جاءت أوكرانيا التي زاد إنفاقها العسكري على خلفية الحرب بزيادة كبيرة، قُدرت بـ640%، ليصل إلى 44 مليار دولار؛ أيْ ما يعادل ثلث ناتجها المحلي الإجمالي.
ويتضح من ذلك؛ أنه رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي مر بها العالم جراء تفشي وباء “كوفيد – 19″، إلا أن حجم الإنفاق العسكري استمر في الارتفاع، ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية؛ حقق الإنفاق العسكري قفزة قياسية، بالرغم أيضًا من التداعيات الاقتصادية الهائلة التي خلَّفتها الحرب في ملفات الأمن الاقتصادي والغذائي وأمن الطاقة، ويمكن إيضاح زيادة معدل الإنفاق العسكري على مستوى العالم في الرسم البياني الموضح أدناه:
- سباق تسلُّح أوروبي وآسيوي:
لقد أتت معدلات الإنفاق العسكري – سالفة الذكر- مدفوعة بسباق تسلُّح محتدم، تشهده الساحة الدولية، خاصةً في النطاق الأوروبي والآسيوي؛ نظرًا لاندلاع الحرب الأوكرانية وتزايد التوترات في بحر الصين الجنوبي؛ ما دفع الدول إلى العمل على إعادة تسليح جيوشها الوطنية وتعديل ميزانياتها الدفاعية، ومن هذه الدول:
– روسيا؛ رفعت موسكو ميزانيتها الدفاعية لعام 2023 إلى 84 مليار دولار، بزيادة 40% على التقديرات الأولية للموازنة المعلنة في 2021، وفي يناير الماضي، وعدت روسيا بإجراء تغييرات هيكلية على القوات المسلحة في الفترة بين 2023 – 2026، وبخلاف القدرات الحربية التقليدية، تستثمر موسكو في التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي منذ سنوات، وقد رُصدت الطائرة المسيرة الروسية “KUB-BLA” بالفعل في حرب أوكرانيا؛ ما يشير إلى التطوُّر السريع الذي شهدته روسيا في هذا المجال.
– الصين؛ مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وفي خضم سباق التسلُّح الإقليمي والعالمي، وسَّعت الصين هي الأخرى من ميزانيتها العسكرية لعام 2023 بنسبة 7.2%، لتبلغ 224 مليار دولار، وفي مارس الماضي؛ أمر الرئيس الصيني، شي جينبينغ، بتحديث القوات المسلحة بشكلٍ كاملٍ، بحلول عام 2035، مشددًا على أن يصبح الجيش الصيني قوة عسكرية متفوقة عالميًّا، بحلول عام 2049.
– ألمانيا؛ في تغيُّرٍ ملحوظٍ في سياستها الدفاعية، أقرت ألمانيا في مايو 2022، تأسيس صندوق خاص لزيادة الإنفاق الدفاعي بقيمة 100 مليار يورو؛ بهدف تحديث جيشها، بالإضافة إلى التزام الحكومة الألمانية بزيادة هذا الإنفاق، بنسبة تصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2024؛ أيْ نحو 70 مليار يورو سنويًّا، ومن المتوقع أن تجعل هذه الميزانية الجديدة من ألمانيا القوة الضاربة لحلف شمال الأطلسي في أوروبا خلال السنوات المقبلة.
– فرنسا؛ أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 20 يناير 2023، عن ملامح مشروع قانون البرمجة العسكرية للفترة 2024 – 2030، والتي من أهمها زيادة الميزانية العسكرية لفرنسا إلى 400 مليار يورو، مع 13 مليار يورو إضافية في الإيرادات تأتي من مبيعات الأصول؛ أيْ إنفاق إجمالي يُقدَّر بـ413 مليار يورو، ارتفاعًا من 295 مليار يورو في الميزانية السابقة، التي سبق إقرارها للفترة 2019 – 2025؛ ما يعني زيادة بنسبة 40% في الإنفاق الدفاعي الفرنسي، ووصوله إلى 59 مليار يورو سنويًّا، حتى نهاية عام 2030، مقابل 42 مليار يورو في الخطة الحالية.
– بريطانيا؛ جاءت الحرب الأوكرانية كجرس إنذار لتعيد بريطانيا النظر في قدراتها العسكرية، وخصصت 3% من الناتج المحلي للإنفاق العسكري، بحلول عام 2030، بما يعادل ميزانية دفاع سنوية تُقدر بحوالي 100 مليار جنيه إسترليني، ويأتي هذا التحرُّك في ضوء تردِّي وضع الجيش البريطاني الذي يواجه احتمالية فقدان ما يقرب من نصف مخزونه من الأسلحة المضادة للدبابات؛ بسبب المساعدات العسكرية لأوكرانيا، لا سيما في أعقاب إرسال 7 آلاف منظومة صاروخية مضادة للدبابات من نوع “NLAW”؛ أيْ ما يعادل نصف الاحتياطات البريطانية من هذا النوع.
– الولايات المتحدة؛ في ديسمبر 2022، تم إقرار ميزانية الدفاع الأمريكي لعام 2023، بمبلغ 858 مليار دولار، بزيادة 45 مليار دولار عن الميزانية التي طرحها الرئيس، جو بايدن؛ بهدف زيادة رواتب الجنود بنسبة 4.6%، وزيادة الإنفاق على الأسلحة والطائرات، في ظلِّ استمرار الدعم الأمريكي لأوكرانيا.
– بولندا؛ أقرت قانونًا يسمح برفع حجم الجيش من 114 ألف فرد إلى 250 ألف فرد خلال 12 سنة، كما سارعت لشراء الأسلحة من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وعلى رأسها منظومة إطلاق صواريخ “هاي مارس وكيه تشونمو”، كما قامت بزيادة إنفاقها العسكري إلى 4% من إجمالي الناتج المحلي، بما يعادل تقريبًا 100 مليار يورو.
– الدنمارك؛ قررت تخصيص 940 مليون يورو إضافية لقواتها المسلحة، خلال عاميْ 2022 و2023.
– أستراليا: أعلنت في مارس 2022، زيادة عدد قوات الدفاع الأسترالية في عام 2040 بمقدار 18500 جندي ليصل إلى 80 ألف جندي؛ أيْ بنسبة تصل إلى 30%، وبتكلفة تُقدر بنحو 27 مليار دولار.
– الاتحاد الأوروبي؛ وافق القادة الأوروبيون في قمة الاتحاد الأوروبي، التي انعقدت في مارس 2022، على زيادة إنفاقهم الدفاعي بشكلٍ كبيرٍ؛ من أجل زيادة قدرة الدول الأعضاء على التصرف بشكلٍ مستقلٍ، بعدما كانت السياسة الأوروبية تستند تقليديًّا على تقليص النفقات العسكرية؛ لذا أعلنت فرنسا والسويد بلجيكا والدنمارك وإيطاليا والسويد ورومانيا زيادة الإنفاق الدفاعي، بحيث يتجاوز 2% من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2024، كما أعلن المستشار الألماني، أولاف شولتز، عن مبادرة عسكرية جماعية تستهدف إنشاء درع دفاع صاروخية أوروبية، وانضمت إليها 14 دولةً عضوًا في حلف الناتو، بالإضافة إلى فنلندا.
– اليابان؛ اتجهت لتعزيز قدراتها العسكرية بميزانية ضخمة للإنفاق على الجيش؛ حيث أقرت ميزانية قياسية للسنة المالية الحالية، اعتبارًا من أبريل الماضي، تبلغ 863 مليار دولار، وذلك في تغيُّرٍ واضحٍ في السياسة الدفاعية اليابانية منذ الحرب العالمية الثانية؛ حيث كانت اليابان قد أقرت بوجود قواعد عسكرية أمريكية لحمايتها من أيِّ تهديد، ووضعت سقفًا افتراضيًا لميزانية الدفاع، بنسبةٍ لا تتجاوز 1% من إجمالي الناتج المحلي، مع حظْر إنتاج وحيازة الأسلحة النووية.
– الناتو؛ في ديسمبر 2022، أعلن حلف الناتو عن تخصيص 1.96 مليار دولار للميزانية العسكرية للحلف لعام 2023، بنسبة زيادة 25.8% عن ميزانية عام 2022.
دوافع زيادة حجم الإنفاق العسكري
وفقًا للمُعْطيات سالفة الذكر؛ فقد شهد حجم الإنفاق العسكري الأوروبي والآسيوي قفزة كبيرة خلال السنوات الأخيرة، وقد جاءت هذه القفزة مدفوعة بعدد من الأسباب؛ منها:
– اندلاع الحرب الأوكرانية واستمرارها؛ فالحرب فرضت على العالم خاصةً أوروبا واقعًا مغايرًا لما عهدته على مدى عقود من استقرار في حقبة ما بعد الحرب الباردة؛ حيث واجهت الدول الأوروبية مأزقًا حقيقيًّا مع انطلاق الهجوم الروسي في فبراير 2022؛ إذ كشفت الحرب عدم قدرة أوروبا على حماية نفسها، ولهذا اضطرت الدول الأوروبية إلى تقييم قدراتها العسكرية من مخزون الأسلحة والذخيرة ومنظومات الصواريخ، وأيضًا خطوط الإمداد وحتى معدل الإنفاق العسكري، كما فرضت الحرب على الدول الأوروبية مراجعة خططها، سواء في التسليح أو تدريب القوات، فضلًا عن أن استمرار الحرب يدفع حلف الناتو لتسريع قدرة الدول الأعضاء على صناعة المعدات والذخيرة؛ من أجل إيفاء الحلف بالتزاماته مع أوكرانيا.
– التخوُّف من توسُّع الخطر الروسي؛ من ضمن الأسباب التي دفعت الدول الأوروبية إلى زيادة إنفاقها العسكري ودخولها في سباق تسلُّحٍ شرسٍ؛ اعتقادها أن روسيا قد توسع عمليتها العسكرية ضد أوكرانيا بشكلٍ أكبرَ لتشمل دول أوروبية أخرى، هذا إلى جانب تزايد المخاوف من توظيف روسيا لسلاحها النووي، حال فشلها في تحقيق النصر العسكري الحاسم على أوكرانيا، أو مع طول أَمَدِ الحرب زمنيًّا على نحْوٍ يستنزف الاقتصاد الروسي، ولهذا راحت أوروبا ترفع من موازناتها العسكرية، خاصةً في ألمانيا وفرنسا.
– اهتزاز الثقة الأوروبية في المظلة الأمنية الأمريكية؛ بدأ يتشكل في السنوات الأخيرة تحوُّلًا جذريًّا، يتمثل في التوجه الإستراتيجي لواشنطن نحو التركيز التَّام على احتواء الصين، مقابل تهميش شبه تام لمناطق التركيز الإستراتيجي التقليدية لواشنطن، التي تضم أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، خاصةً عقب نجاح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وسط تخاذل أمريكي واضح، ورفض الولايات المتحدة التدخل المباشر في حرب أوكرانيا.
وهناك العديد من الدلالات على هذا التوجُّه الأمريكي؛ منها: تعدد التهديدات الأمريكية بالانسحاب من حلف الناتو ورفع المظلة الأمنية الأمريكية الممتدة إلى عدد من دول أوروبا الغربية، لا سيما في عهد الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، سحب 9500 جندي أمريكي من ألمانيا، الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان دون استشارة الحلفاء الأوروبيين، تعدُّد الدعوات التي تطالب الرئيس الحالي، جو بايدن، بمغادرة حلف الناتو في أعقاب نهاية الحرب الروسية الأوكرانية، والتوقُّف عن تمويل الدول الأوروبية، والاهتمام بمتطلبات الأمن القومي الأمريكي فحسب.
وبناءً عليه؛ بدأت الدول الأوروبية تعيد التفكير في مدى مصداقية ودعم المظلة الغربية، المتمثلة في الولايات المتحدة وحلف الناتو، كما قرَّرت أن تكون أكثر استقلالية، وألا تعتمد على الناتو بصورةٍ شبه كليةٍ في خططها التسليحية، وذلك من خلال إعادة التفكير في قدراتها العسكرية للحفاظ على أمنها، وصولاً إلى مزيدٍ من الاستقلال الإستراتيجي.
– الصعود العسكري الصيني؛ تسير الصين بخطى كبيرة لإثبات وجودها على الساحة العسكرية الدولية، فهي تمتلك واحدة من أكبر الصناعات العسكرية عالميًّا؛ حيث زيادة حاملات الطائرات، ومضاعفة أعداد قطعها البحرية، والسعي لتعويض فارق القدرات التسليحية لصالح الولايات المتحدة، عبر امتلاك تقنيات متقدمة، وتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في خدمة الأغراض العسكرية.
ويُمثِّلُ هذا النشاط الكبير للصين في رفع قدراتها العسكرية وتأهيل جيشها بصورةٍ لافتةٍ، وتسارع وتيرة تسلحها النووي، أحد أخطر التهديدات للتفوق العسكري الغربي، وتهديدًا مباشرًا لدول الجوار، خاصةً وأن التحركات الصينية تأتي في ضوء النزاع الصيني على جزر سينكاكو والهملايا مع اليابان والهند على الترتيب، واحتمالية تأجُّج الصدام “الأمريكي – الصيني” لا سيما في بحر الصين الجنوبي، وتنامي التوترات بشأن قضية تايوان.
– تنامي الانقسامات الأوروبية؛ فخلال السنوات الأخيرة أصبحت القارة الأوروبية موطنًا للاستقطاب السياسي فيما بينها؛ ما دفع دولها إلى استعادة الاهتمام بالقضايا العسكرية إلى جانب الاقتصادية، خاصةً بعد أزمة الغواصات الفرنسية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالذات في ظل تصاعد اليمين المتطرف، وقد أدى هذا المناخ في مجمله إلى تراجع الثقة بين المجتمعات الأوروبية، وبالتالي الرغبة في تعزيز التفوق العسكري على المستوى القاري، وهو ما يتضح في رغبة كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في تخصيص جزء من الموارد المالية المتاحة؛ لتلبية المتطلبات الأمنية المتزايدة، وإعادة تسليح جيوشها الوطنية، وتحديث معداتها العسكرية، ومن ثمَّ سدّ الفجوة بين قدراتها الاقتصادية وثقلها السياسي من جهة، وقدراتها العسكرية من جهة ثانية.
– عودة الصراعات المسلحة إلى الواجهة؛ حيث اندلاع صراع مسلح في السودان بين الجيش والدعم السريع، واستمرار الحرب الأهلية الدامية في ميانمار، وتنامي الصراعات في منطقة الساحل الأفريقي، خاصةً في دول بوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر وشمال نيجيريا، والتي تعاني من موجات الجفاف وأزمة غذائية هي الأشد منذ 20 عامًا، وفي هذه البيئة اليائسة، تصاعد خطر الحروب والجماعات الجهادية؛ ففي منطقة فرعية واحدة فقط من مالي، كشفت لجنة الإنقاذ الدولية IRC، ما لا يقل عن 70 صراعًا، في أواخر عام 2021؛ كان نصفها حول الأرض وثلثها حول الماء.
– استنزاف مخزون السلاح الإستراتيجي للدول الغربية؛ كشفت الحرب الأوكرانية عن نقْصٍ حادٍ في مخزونات الدفاع الغربية، وعن أن قطاعات التصنيع العسكري لدى الناتو عاجزة عن تصنيع الأسلحة والذخائر للقوات الأوكرانية، خاصة فيما يتعلق بالأسلحة الأساسية، مثل قذائف المدفعية التي مثَّلت الركيزة الأساسية للقتال، وتراجع مخزونات البارود والمتفجرات، بخلاف الأزمات الاقتصادية التي تعطل تعويض هذا النقص.
وقد بدأت بعض دول الحلف تُقِرُّ بهذا النقص؛ ومنها التشيك التي أعلنت وقف جميع توريدات الأسلحة إلى أوكرانيا، مؤكدة أنها لم تعُدْ قادرة على مساعدة كييف عسكريًّا؛ بسبب النقص الحاد الذي تعاني منه مستودعاتها العسكرية، ولم يكن إعلان التشيك بوقف إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا هو الأول الذي ينذر بوجود أزمة في مستودعات الناتو؛ إذ أقر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، بصعوبات في سدِّ النقص الحاصل بمخزون جيشه، مؤكدًا أن نقل الأسلحة إلى أوكرانيا تسبب بفجوات في تسليح الجيش الألماني، مشيرًا إلى أن هذه الفجوات لا يمكن سدُّها قبل عام 2030.
تداعيات ارتفاع معدل الإنفاق العسكري العالمي
لا شك أن عودة سباق التسلُّح ودخول العالم مرحلة اقتصاد الحرب، تحمل العديد من التداعيات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي تمسُّ الأمن العالمي، ومنها:
– انتشار تجارة الأسلحة في العالم؛ لقد تجاوز حجم تجارة السلاح في العالم ٥٣١ مليار دولار في عام 2020، وارتفع مرةً أُخرى في عام 2021 إلى ٥٩٢ مليار دولار، وفي 2022 منحت الحرب الأوكرانية دفعة قوية لصناعة السلاح في العالم، لا سيما لدى الدول الغربية الداعمة لكييف، خاصةً بعد إعلان الرئيس، الروسي فلاديمير بوتين، مؤخرًا، عن تعليق مشاركة بلاده في اتفاقية نيو ستارت؛ للحد من انتشار الأسلحة الهجومية، وإعلان الصين استعدادها لتوسيع ترسانتها النووية، وعزْم كوريا الجنوبية تطوير قدراتها النووية أيضًا؛ لمواجهة جارتها الشمالية، وعليه؛ من المتوقع أن يزداد حجم تجارة الأسلحة في العالم زيادة لافتة على مستوى تجارة السلاح الرسمية وغير الرسمية خلال الفترة المقبلة أيضًا.
– انتعاش السوق السوداء لتجارة السلاح؛ أسهمت الحرب الأوكرانية في انتعاش سوق السلاح غير الرسمية أو ما يعرف بالسوق السوداء، في ظلِّ ولوج نسبة كبيرة من الأسلحة التي كانت من المفترض أن تصل لدعم القوات الأوكرانية إلى هذا السوق، فعلى مدى العام 2022، انحرفت شحنات أسلحة عدة موجهة إلى كييف لتجد طريقها إلى السوق السوداء للسلاح في أوروبا وأفريقيا وآسيا، بنسب تتراوح وفق التقديرات المنشورة، ما بين 50 و70% من الأسلحة المرسلة.
والأخطر في هذا الأمر، هو أن تصل تلك الأسلحة في نهاية الأمر إلى دول أخرى أو جماعات جريمة منظمة أو تنظيمات إرهابية، خاصة في ظل خبرة شبكات تهريب السلاح في أوكرانيا وغياب وسائل إنفاذ اتفاقات عدم نقل المعدات، وعدم قدرة الحكومات الغربية على التثبُّت من وصول الأسلحة إلى وجهتها النهائية داخل الأراضي الأوكرانية، وهذا يعني تراجع سياسات محاربة التطرف والإرهاب في العالم، فضلًا عن أن توافر الأسلحة بشكلٍ غير مسبوقٍ خلال الصراع الحالي، قد يؤدي إلى انتشار الأسلحة غير الشرعية في مرحلة ما بعد النزاع، وقد يكون الاتحاد الأوروبي وجهة محتملة لهذه الأسلحة؛ لأن أسعارها المرتفعة أصلًا في السوق السوداء أعلى بكثير في أوروبا، خاصة في البلدان الإسكندنافية.
– عسكرة العلاقات الدولية؛ تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في سيادة نمط عسكرة التفاعلات على مجمل العلاقات الدولية، وإحياء الحلول العسكرية على حساب الحلول الدبلوماسية؛ ما يجعل احتمالات الصدام هي الأقرب من احتمالات التعاون، وبالتالي قد يكون اللجوء إلى الحل العسكري هو الخيار الأول لحل أي أزمة سياسية أو حدودية أو اقتصادية بين الدول، بدليل أنه عقب اندلاع الحرب؛ تجددت النزاعات بين الصين وتايوان، وفي شبه الجزيرة الكورية وغيرها من المناطق، كما أعادت نظرية القوة الصلبة وتحديدًا العسكرية، باعتبارها ضامنًا لأمن ومصالح الدول؛ بمعنى أن الحرب الأوكرانية جعلت من امتلاك القوة العسكرية، سواء الهجومية أو الدفاعية محددًا رئيسًا لقدرة الدولة على التأثير وإثبات الحضور، أو على الأقل ضمان البقاء والمقاومة، في حال الاعتداء عليها من قِبَلِ دولة أخرى.
ومن ملامح العسكرة التي سيطرت على المشهد الدولي منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية؛ تغيُّر المعادلة المرتبطة بامتلاك وحيازة السلاح النووي؛ حيث التحوُّل من امتلاكه للردع إلى التلويح والتهديد باستخدامه من قِبَلِ روسيا، وسيطرة نمط الشراكات والتحالفات العسكرية في العلاقات الدولية؛ إذ أظهر الاعتماد الروسي على المسيرات الإيرانية ومساعي الطرفيْن إلى تطوير التعاون بينهما؛ ليشمل التصنيع المشترك للطائرات من دون طيار، وزيادة قدرتها التدميرية ومدياتها، إلى تشكُّل التحالفات والشراكات العسكرية وفقًا لمعسكريْن؛ “روسي – إيراني – صيني”، في مقابل معسكر “أمريكي – غربي”، وقد انطلق كُلُّ معسكر من فرضية تعزيز التحالف العسكري لتطويق الخصم أو الحد من نفوذه؛ ما سيسهم بصورة كبيرة في تغليب لغة العسكرة على حساب التعاون والتكامل.
فضلًا عن ملمح آخر للعسكرة الدولية في غاية الأهمية؛ وهو اتجاه دول الحياد، فنلندا والسويد، إلى تجاوُز تلك الفكرة والانضمام تحت مظلة الناتو، وهو تحوُّلٌ لافتٌ يشير بشكلٍ أساسيٍّ إلى فكرة العسكرة التي تسيطر على الساحة الدولية، ومساعي كل طرف إلى امتلاك الردع، أو ضمان الاحتماء بقدراته الذاتية أو قدرات حلفائه، حال امتداد الحرب إليه.
– اختلاف خريطة التحالفات الكبرى؛ قد يشهد التحالف الإستراتيجي والتاريخي الذي يجمع بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية بعض التذبذبات، بعد اهتزاز الثقة بين الطرفين في الآونة الأخيرة؛ الأمر الذي من شأنه أن يعطي نوعًا من الأريحية للدول الأوروبية في تعاملاتها الخارجية مع القوى العظمى الأخرى، مثل روسيا والصين، هذا إلى جانب أنه مع استمرار عملية التسلُّح العسكري الأوروبي، فقد تتمتع دول الاتحاد الأوروبي ببعضٍ من الاستقلالية والتحرُّر من الاعتمادية الدفاعية والعسكرية على الولايات المتحدة، والتي بالتأكيد ستنعكس على السياسة الخارجية لهذه الدول، خاصةً بعد قرار ألمانيا بإعادة تسليح جيشها، وكذلك تنذر زيادة الإنفاق العسكري الياباني بتحوُّلات مماثلة على صعيد علاقة طوكيو وواشنطن؛ حيث تعيد اليابان بلورة هويتها الأمنية في اتجاه مضاد لنزعتها السلمية السائدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وبالتالي يمكن القول: إن تزايد الإنفاق العسكري لحلفاء الولايات المتحدة سيعكس اختلاف موازين القوى الدولية الراهنة التي تدلل على صعود الصين وروسيا، وأهمية القيادة “الألمانية – الفرنسية” للاتحاد الأوروبي، في مقابل تراجُع الولايات المتحدة ومظلتها الأمنية.
– الإضرار بالفئات الأكثر احتياجًا؛ دفعت الحرب الأوكرانية الكثير من الدول إلى زيادة إنفاقها العسكري؛ ما أرهق ميزانياتها، وشكَّل ضغوطًا اقتصادية تُضاف إلى التداعيات الاقتصادية السلبية التي أحدثتها الحرب، مثل ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الطاقة؛ ما خلق بدوره آثارًا سلبية على الفئات الاجتماعية الأقل دخلًا في المتجمع؛ حيث يستدعي تمويل زيادة الإنفاق العسكري، زيادات ضريبية أو قروض أو اقتطاع من نِسَبِ الإنفاق على قطاعات مدنية حيوية أُخرى، مثل الرعاية الصحية والتعليم والإسكان، ومن ثمَّ مزاحمة حصص الإنفاق على قطاعات وبرامج أخرى، ترتبط بشكلٍ مباشرٍ بالاحتياجات اليومية للمواطنين، وببرامج التضامن الاجتماعي للدول، وبالتالي زيادة الإنفاق الدفاعي سيضغط على الأوضاع الاقتصادية السيئة، في ظل المعاناة من أزمات اقتصادية، وارتفاع معدلات التضخم وتكلفة المعيشة.
ويتضح من ذلك، أن سباق التسلُّح وزيادة الإنفاق العسكري يكونان على حساب التنمية الاقتصادية؛ حيث إهدار الموارد بتوجيهها من علاج نواقص التنمية المستدامة، مثل الفقر وضعف الخدمات الصحية والتعليمية والبطالة، إلى شراء الأسلحة، وعندما تتعطل عجلة التنمية الاقتصادية تتخلخل البنية الوطنية، وهذا بدوره يؤدي إلى مخاطر داخلية تهز من استقرار النظام السياسي.
– إهمال القضايا الأمنية المعاصرة؛ فبعد أن كان الحديث يدور حول ضرورة التفات حكومات الشمال الغنية إلى تحديات التغيُّر البيئي بجدية، وأن تعمل مع حكومات الجنوب العالمي على إدارة التحوُّل الأخضر العادل، إضافةً إلى إطلاق عدد من التعهدات المتتالية، بشأن وجوب التعامل مع ملف التغيُّر المناخي بحزم ومساعدة المتضررين في دول العالم النامي، والسعي إلى السيطرة على الانبعاثات الحرارية والكربونية، والبناء على مُخْرجات “كوب – 27″، التي عُقدت في شرم الشيخ المصرية، بات اهتمام دول العالم الآن يتجه إلى تسليح الجيوش الوطنية وزيادة الميزانيات العسكرية وتهميش قضايا، مثل الأمن الغذائي والمائي وتغيُّر المناخ، التي قد تكون أكثر خطورة من الصراعات المسلحة.
ومن مؤشرات هذا التحوُّل؛ اكتفى الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في القمة الأفريقية الأمريكية بالتعهُّد بتقديم دعم تنموي لكل بلدان القارة، يبلغ 55 مليار دولار، في حين تعهد بتقديم 60 مليار دولار، كدعم إضافي إلى أوكرانيا وحدها، هذا إلى جانب موقف ألمانيا، التي رفضت في قمة المناخ بمصر إقرار مبالغ وآليات محددة؛ لتعويض دول الجنوب عن الأضرار البيئية، بينما أعلنت عن تخصيص ١٠٠ مليار يورو؛ لتجديد تسليح جيشها خلال ٤ سنوات، وقدمت ما يقرب من ٢.٥ مليار يورو لدعم أوكرانيا عسكريًّا.
– الإضرار بحقوق الإنسان والأمن الإنساني؛ يحمل انتشار الأسلحة وتصعيد المواجهات العسكرية المسلحة، تأثيرات سلبية عدة على حقوق الإنسان والأمن الإنساني العالمي، فمع تنامي التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وزيادة الصراعات في بقية العالم سُوءًا؛ قد تضاعف عدد الذين أُجبروا على الفرار من منازلهم في العقد الماضي، ليصل إلى ما يقرب من 100 مليون، كما تضاعف عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات طارئة، منذ عام 2020، إلى 340 مليونًا، ونحو 80% من هذا العدد ناتج عن الصراعات، حسب تقديرات لجنة الإنقاذ الدولية “IRc”.
إجمالًا:
تزايد خطر اندلاع الصراعات المسلحة، سواء في آسيا؛ حيث الخوف من أن تكرر الصين التجربة الروسية مع تايوان، أو في أوروبا؛ حيث التخوُّف من امتداد الخطر الروسي إلى دول أخرى بخلاف أوكرانيا، أو في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصةً في ضوء التنافس الدولي على النفوذ في بعض دول المنطقة، مثل سوريا، وفي ضوء اندلاع الصراع المسلح في السودان، وكل هذه المُعْطيات دفعت الدول إلى توجيه مختلف مواردها نحو تعزيز قدراتها العسكرية؛ أيْ الدخول فيما يُعرف بمرحلة اقتصاد الحرب، مثلما أعلنت فرنسا، ومما لا شك فيه أن هذا التوجُّه سيحمل العديد من المخاطر التي تمسُّ الأمن العالمي؛ حيث عسكرة العلاقات الدولية، وعودة القوة العسكرية للهيمنة مرةً أُخرى، فضلًا عن تعطيل عملية التنمية الاقتصادية، في وقتٍ يعاني فيه شعوب العالم من تهديد الأمن المائي والغذائي وتبعات تغيُّر المناخ.