“تيك توك”.. وجه آخر للصراع بين واشنطن وبكين

إعداد : أكرم السيد 

على خلفية إسقاط “واشنطن” للمنطاد الصينى فى أوائل فبراير الماضى، ومن ثم اتهام “بكين” بقيامها بأنشطة تجسسية داخل المجال الجوى الأمريكى وقيام “بكين” بنفى لمجمل هذه الاتهامات، دخل تطبيق “تيك توك” على خط المواجهة مرة أخرى بين “واشنطن” وحلفائها الغربيين وبين “بكين”، بحجة تشكيله خطرًا على أمن المؤسسات والأفراد، وهو الأمر الذى نفته “بكين” مرارًا أيضًا، معتبرة أنه لم تُقدم إلى الآن أى أدلة تدعم هذه المزاعم.

ولم يتوقف التصعيد الغربى تجاه التطبيق الصينى عند مجرد إبداء القلق والاتهامات، بل وصل الأمر إلى اتخاذ إجراءات حظر جماعية له داخل بعض المؤسسات ذات الطبيعة الخاصة، فيما قد تجاوز تصعيد الولايات المتحدة حدود التصعيد الغربى بأكمله.

ليس مجرد تصعيدًا أمريكيًا

لم تكن التحركات الأخيرة تجاه تطبيق “تيك توك” الصينى تحركًا أمريكيًا منفردًا، بل جاء التحرك هذه المرة حيال هذا التطبيق تحركًا غربيًا جماعيًا بامتياز، يعكس بالضرروة المخاوف الغربية المتصاعدة حيال شركات التكنولوجيا الصينية، ويمكن حصر هذه الإجراءات فيما يلى:

تحرك أمريكى، حيث شهد ديسمبر الماضى إقرار مجلس النواب الأمريكى تشريعًا يقضى بحظر استخدام “تيك توك” على الهواتف التابعة للدولة، وسيرًا على هذا النهج، قامت بعض المكاتب الفيدرالية فى البلاد بالإضافة إلى البيت الأبيض ووزارة الدفاع والأمن الداخلى والخارجى والخارجية بحظر التطبيق من على أجهزتها.

وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل يواصل الكونجرس الأمريكى العمل حاليًا على صياغة تشريعيات إضافية تعطى للرئيس “بايدن” الحق فى حظر التطبيق على الصعيد الوطنى.

تحرك كندى، بالتوازى مع التحركات الأمريكية الأخيرة، أعلنت السلطات الكندية مؤخرًا حظرها التطبيق على الأجهزة الحكومية، وجاء هذا القرار، وفقًا للسطات الكندية، بعد استشعارها القلق حيال هذا التطبيق، وذلك بعد قيام كبير مسؤولى المعلومات فى البلاد بعمل مراجعة كبيرة للتطبيق استنتج على إثرها أن هذا التطبيق يشكل “مستوى غير مقبول من المخاطر على الخصوصية والأمان” على حد قوله؛ فيما قد صرح رئيس الوزراء الكندى “جاستن ترودو” بأن هناك ثمة مخاوف تتعلق باستخدام هذا التطبيق.

تحرك أوروبى، جاءت التحركات الأوروبية لتكمل سلسلة التحركات الغربية القلقة حيال أنشطة التطبيق، وتمثل ذلك فى إعلان كل من المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبى إلزام الموظفين بإزالة “تيك توك” من على أجهزتهم وأجهزة المؤسستين، فيما قد جاء تبرير المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبى لهذه الخطوة بالمخاوف المتعلقة بأن ثمة تهديدًا للأمن الإلكترونى يمثله هذا التطبيق ضد سير العمل بمؤسسات الاتحاد الأوروبى، وهو ما تطلب اتخاذ إجراءات تجاهه.

إذن لماذا تيك توك؟

على الرغم من المحتوى الترفيهى لتطبيق “تيك توك” إلا أن ثمة مخاوف فى الدوائر الغربية الرسمية وغير الرسمية، من أن يكون لدى التطبيق أهدافًا تجسسية تخدم طموحات بكين؛ فهذا التطبيق شأنه شأن كل التطبيقات التكنولوجيا، تستطيع بسهولة النفاذ إلى البيانات الشخصية والاهتمامات اليومية والتفاعلات مع الأحداث والقضايا بشكل فورى.

ولا يتعلق الأمر فقط بالأفراد العاديين، الذين ينظرون إلى التطبيق باعتباره وسيلة ترفيهية ليس أكثر، إذ بإمكان التطبيق أيضًا أن يشكل خطرًا على أمن البيانات والمعلومات داخل المؤسسات سواء الرسمية أو غير الرسمية، إذا بإمكانه، حسب التفسيرات الغربية، أن يخترق هواتف الموظفين ومن ثم تشكيل خطورة على سير العمل بسرية داخل المؤسسات، وهو ما يفسر الإجراءات الجماعية الأخيرة المتخذة تجاه التطبيق والتى أشرنا إليها.

ومن ناحية أخرى، لا يمكن الفصل بين الإجراءات الغربية المتخذة حيال تطبيق “تيك توك”، وبين المنافسة المحتدمة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وبين بكين، لاسيما وأن الشركة المالكة لتطبيق “تيك توك” هى شركة صينية يثار الجدل حول علاقتها بالحزب الشيوعى الصينى، وهو ما يثير مخاوف غربية، لا تكاد تهدأ إلا وتتصاعد مرة أخرى.

وكثيرًا ما ينظر الغرب بعين الريبة إلى “تيك توك” بحجة أنه بمثابة أداة صينية فاعلة تستخدمها “بكين” فى اختراق المجتمعات الغربية، ومن ثم الحصول على البيانات المهمة، والتى تستفيد منها “بكين” فى سياق منافستها مع الغرب، إذ لا يمكن التقليل أبدًا فى عالم اليوم من شأن “البيانات” ومالها من دور كبير -بعد تحليلها- فى اتخاذ القرارات المهمة على مختلف الأصعدة أو تحقيق مكاسب اقتصادية ناتجة عن بيع هذه البيانات.

وعلى الرغم من المخاوف والاتهامات الغربية للتطبيق والشركة الصينية “بايت دانس” المالكة له، إلا أن الشركة المالكة له كثيرًا ما تنفى صحة هذه المزاعم، فضلًا عن تأكيدها عدم نقل بيانات المواطنين الأمريكيين إلى الصين، فضلًا عن قيامها بإجراء بنقل بيانات مستخدميها فى الولايات المتحدة على خوادم تسمى “oracle”، وهى خوادم موجودة فى أمريكا، كمحاولة منها للتهدئة من التصعيد الممارس ضدها، لكن هذا كله لم ينجح فى تهدئة التصعيد، بل يزداد التصعيد بمرور الوقت.

إستراتيجية جديدة للأمن السيبرانى

وبالتزامن مع الإجراءات التى اتخذتها “واشنطن” مؤخرًا تجاه “تيك توك” باعتباره يشكل تهديدًا على أمنها المعلوماتى، جاءت “الإستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني” التى أصدرها الرئيس “جو بايدن” فى أوائل مارس الجارى، لتُبرهن بما لا يدع مجالًا للشك على قلق “واشنطن” المتنامى ليس فقط تجاه “تيك توك” باعتباره تطبيقًا صينيًا نافذًا، بل تجاه الصين بشكل عام وما تشكله شركاتها وأنظمتها التكنولوجية من تهديدات على الولايات المتحدة، إذ وصفت الإستراتيجية الأمريكية للأمن السيبرانى “الصين” بأنها العدو الخارجى الأول لواشنطن.

بالإضافة إلى ذلك، فقد اعتبرت الإستراتيجية الصين أيضًا أنها الدولة صاحبة العدد الأكبر من محاولات الهجمات السيبرانية الناجحة وغير الناجحة، فضلًا عن كونها الدولة الأولى فى تكبيد اقتصاد الولايات المتحدة خسائر ناجمة عن ممارستها السيبرانية. وفى الوقت الذى لم تسلم فيها الشركات والهيئات الأمريكية العامة منها والخاصة من الهجمات السيبرانية والتى تصيب هذه المؤسسات بالشلل وتثنيها عن القيام بوظائفها، وجاءت الإستراتيجية الأمريكية الجديدة بمثابة تطوير لأنظمة التصدى لمحاولات الاختراق السيبرانى، حيث لا تعتبر الإستراتيجية الأمريكية للأمن السيبرانى وليدة الفترة الحالية، إذ تمتلك الولايات المتحدة منذ ٢٠ عامًا إستراتيجية للأمن السيبرانى، ويعود ذلك إلى عهد الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش، ومنذ ذلك الوقت اعتادت الأنظمة الأمريكية أن تسير على هذا العرف ومن ثم القيام بتطوير إستراتيجيات متجددة.

وبالعودة إلى إستراتيجية الأمن السيبرانى المعلن عنها مؤخرًا، فإنها تعتبر بمثابة وثيقة سياسية وليست أمرًا تنفيذيًا، إذ تحتاج هذه الإستراتيجية حتى تدخل فى طور التنفيذ والتأثير إلى مجموعة من التشريعيات والإجراءات المكملة لها؛ لكن وبشكل عام، فقد تضمنت الإستراتيجية خارطة طريق تهدف فى المقام الأول إلى تهيئة الظروف أمام المؤسسات العامة والخاصة لتأدية وظائفها بدرجة عالية من الأمان.

بالإضافة إلى ذلك، فقد سلطت الإستراتيجية الضوء على ضرورة مراجعة التشريعيات الحالية لتكون ذات درجة عالية من الصرامة فى تصديها للهجمات، وكذا مراقبة المؤسسات لضمان تبنيها تنفيذ التشريعات ذات الصلة بالأمن السيبرانى، سواء التشريعات الحالية، أو تلك التى ستصدر فى وقت لاحق.

وإجمالًا يمكن القول، إن هذه الإستراتيجية ترتكز على جانبين، جانب داخلى يتعلق بالسياسات الواجب اتباعها لحماية الشركات الأمريكية، وجانب خارجى يجعل من الصين الفاعل رقم واحد من حيث تشكيل الخطورة على أمن المؤسسات الأمريكية.

مشروع قانون DATA

وتناغمًا مع الإستراتيجية الوطنية للأمن السيبرانى، جاء مشروع “قانون DATA” أو ما يعرف بمشروع “ردع الخصوم التكنولوجيين لأمريكا” بمثابة تحول ملحوظ فى سياسية “واشنطن” تجاه منافسيها أو خصومها التكنولوجيين كما يصفهم مشروع القانون؛ حيث بموجب القوانين الأمريكية فى ثمانينيات القرن الماضى، كان يتعذر على الحكومة الأمريكية تقييد التدفق الحر للترفيه المرئى بين الدول الأجنيية، كقيام واشنطن مثلا بحظر تطبيق ترفيهى مملوك لدولة من الدول التى تعتبرها “واشنطن” من منافسيها أو خصومها.

 ليأتى مشروع “قانون DATA ” الأمريكى ليشكل انقلابًا على النهج المتبع طيلة العقود الماضية، حيث أقرت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكى فى أوائل الشهر الجارى مشروع القانون، ومن ثم فإنه بحاجة إلى إقرار مجلس النواب والشيوخ له، وتصديق الرئيس “بايدن” عليه ليصبح قانونًا ساريًا، ويصبح للرئيس الأمريكى فور تصديقه على القانون الحق فى القيام بحظر أى تطبيق يرى أنه يشكل خطورةً على الأمن المعلوماتى فى البلاد، دون الحاجة إلى انتظار مراجعة لجنة الاستثمار الأجنبى فى الولايات المتحدة.

وفى هذا السياق، فإن “قانون DATA” مُعَدٌ فى الأساس لمواجهة تطبيق “تيك توك”، وكل ما يتعلق بشركة “بايت دانس” الصينية المالكة للتطبيق، حيث يتضمن التشريع فى بنوده فرض عقوبات على الشركة المالكة للتطبيق الصينى، وصولًا إلى القيام بحظر أنشطة الشركة تماما داخل البلاد نظرًا لصلة الشركة بالحزب الشيوعى الصينى.

وعلى الرغم من سعى “واشنطن” لإقرار هذا القانون، إلا أنه سيترتب عليه بعض المخاوف لدى الشركات التكنولوجية غير الأمريكية، حيث سيكون من السهولة إطلاق صفة “الخصم التكنولوجى” على أى من الشركات غير الأمريكية العاملة فى أمريكا، ومن ثم فرض عقوبات على هذه الشركات بموجب “قانون DATA”، وهو ما سيؤثر بالسلب على بيئة الأعمال فى الولايات المتحدة.

وبشكل عام فإن “واشنطن” تنظر لمجموعة دول على أنها خصوم تكنولوجية لها، ومن المتوقع أنه إذا تم إقرار “قانون DATA” سيضمن التعامل مع الكيانات والشركات التابعة لهذه الدول، والتى تتمثل فى كل من الصين بطبيعة الحال، بالإضافة إلى روسيا وكوريا الشمالية وإيران.

كما أنه فى حالة أن تم الإخفاق فى إقرار مشروع القانون، فإن ثمة دلالة رمزية تريد “واشنطن” إيصالها، مفادها بأنها لن تسمح للشركات التابعة لدول تعتبرها خصومًا لها بتحقيق نجاحات داخل أراضيها دون أن تعرقل “واشنطن” هذه النجاحات.

إجمالًا

فإن ثمة تناقضًا ومبالغة فى تعامل “واشنطن” مع التطبيق الصينى “تيك توك”، فعلى الرغم من كل الاتهامات التى وجهتها “واشنطن” إلى التطبيق، فإنها لم تقدم دليلًا واضحًا على خطورة أنشطة هذا التطبيق إلا قولها بأنه يقدم بيانات إلى “بكين”، وهو ما لا يمكن بأى حال من الأحوال اعتباره دليل إدانة تجاه “تيك توك”، حيث تمتلك الولايات المتحدة على سبيل المثال “فيسبوك” والذى يقوم بدوره بنفس أنشطة “تيك توك” التى تهاجمها “واشنطن” من حيث جمع البيانات وتحليلها وبيعها.

لذا فإن دوافع “واشنطن” من وراء إجراءاتها التصعيدية لا يمكن فصلها عن صراعها المتواصل تجاه التفوق التكنولوجى لمنافسيها السياسيين والتى تعتبر الصين مثالًا بارزًا عليهم، وهو ما يجعل محاولتها لعرقلة أى نجاح لأى شركة صينية فى الداخل الأمريكى محل ارتياب وقلق، يتطلب بالضرورة اتخاذ إجراءات مضادة لكبح جماح هذا النجاح.

كلمات مفتاحية