إعداد: جميلة حسين
حملت التوترات الأخيرة فى منطقة الشرق الأوسط والتأزمات بين الدول الكبرى والإقليمية قدرًا من التغيرات على المستوى الداخلى للدول فى المنطقة ويستدل على ذلك الدعوات العراقية لإنهاء مهام التحالف الدولى لمكافحة تنظيم داعش فى العراق والتى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وعليه تم إطلاق عدد من المحادثات الأمريكية العراقية حول انسحاب قوات التحالف العسكرية واقتصارها على الجانب الاستشارى فقط، آخرها المحادثات المستأنفة يوم الأحد الماضى لتحديد جدول زمنى للانسحاب التدريجى لاسيما بعد اشتداد الضربات المتبادلة بين القوات الأمريكية والفصائل الموالية لإيران والمقاومة الإسلامية فى العراق والتى تدفع الحكومة العراقية نحو ضرورة الانسحاب من البلاد.
استئناف المباحثات
نشرت الدول الأعضاء فى التحالف الدولى مئات العناصر القتالية ضمن قوات التحالف فى الأراضى العراقية منذ عام 2014 لدحر تنظيم داعش والقضاء عليه فى سوريا والعراق بعدما توغل وفرض سيطرته على معظم الأراضى تمهيدًا لإعلان دولة الخلافة الإسلامية وفق تطلعاته، ويضم التحالف فى الوقت الحالى حوالى 2500 جندى أمريكى، فضلًا عن 1000 عنصر من الدول الأعضاء فى التحالف كفرنسا وإسبانيا وبريطانيا لدعم القوات العراقية وتقديم المساعدة والمشورة لمنع تدفق التنظيم مرة أخرى.
وترجع أصوات المطالبة بتراجع قوات التحالف وانسحابها منذ إلحاق الهزيمة بالتنظيم، والسبب يرجع إلى انتفاء سبب التواجد، ولكنه أصبح يأخذ صدى مؤخرًا بعد السياسات التى تتخذها الولايات المتحدة تجاه بعض الفاعلين فى العراق واغتيال بعض القيادات الفاعلة المنتمية إلى محور تدعمه إيران داخل العراق بذريعة دور التحالف فى حماية الشعب العراقى ضد أى تهديد، وفى يناير عام 2020 صادق البرلمان العراقى على قرار يلزم الحكومة بالعمل على إنهاء وجود أى قوات أجنبية على الأراضى العراقية.
وبدأت المفاوضات بين الحكومة العراقية والأمريكية بشأن قوات التحالف فى أغسطس العام الماضى حول صياغة جدول زمنى يحدد مدة وجود مستشارى التحالف الدولى فى العراق وإنهاء المهمة العسكرية للتحالف ضد داعش، ولكنها أصبحت معلقة بحكم التطورات المتصاعدة فى منطقة الشرق الأوسط وتم إطلاق المحادثات مرة أخرى بناء على دعوة رئيس الوزراء العراقى “محمد شياع السودانى” فى آواخر الشهر الماضى حيث بدأت اللجنة العسكرية المشتركة أولى جلساتها فى العاصمة “بغداد” وشارك فيها كبار قادة الجيش العراقى والأجهزة الأمنية وقادة التحالف الدولى الذى يضم عشرات الدول الأجنبية.
ويوم الأحد الماضى استأنفت اللجنة الثنائية العسكرية الفنية العليا بين العراق والولايات المتحدة أعمالها لمناقشة وجدولة إنهاء مهمة التحالف الدولى فى العراق بعد صياغة جدول زمنى للانسحاب التدريجى، وأكدت الولايات المتحدة أن واشنطن وبغداد على مقربة من خلق توافق لبدء عمل اللجنة العسكرية العليا من أجل تحويل مهمة التحالف الدولى لمكافحة داعش إلى علاقات ثنائية مع أعضاء التحالف ليشمل التعاون العسكرى خاصة فى مجال التدريب والعتاد، ومن ناحية أخرى أكد الجانب العراقى على تواتر الاجتماعات بصورة دورية من أجل إتمام أعمال اللجنة بأقصى وقت ممكن، وعليه تضمنت أعمال اللجنة 3 مستويات رئيسية وهى مستوى التهديد الذى يمثله تنظيم داعش، والمتطلبات العملیاتیة والظرفیة، وتعزيز القدرات المتنامية للقوات الأمنیة العراقیة.
محفزات الانسحاب
زخم الهجمات الأمنية المتبادلة:
فى مطلع الشهر الحالى تعرضت مواقع للحشد الشعبى فى منطقتى “القائم” و”عكاشات” بمحافظة الأنبار إلى قصف جوى أمريكى أسفر عن سقوط 16 عنصرًا وإصابة 36 شخصًا آخرين، وذلك القصف أثار غضب الحكومة العراقية التى استدعت القائم بأعمال السفارة الأمريكية وسلمته مذكرة احتجاج على الضربات الجوية، فى حين كانت تلك الضربات بمثابة رد فعل على الهجوم من جانب فصائل موالية لإيران الذى استهدف القوات الأمريكية فى شمال شرق الأردن، وأسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة العشرات بجروح، وفى هجوم أمريكى آخر فى منطقة “المشتل” شرق بغداد جرى استهداف “أبو باقر الساعدى” القيادى فى كتائب حزب الله، إحدى فصائل المقاومة الإسلامية العراقية، والذى كان مسؤولًا عن التخطيط المباشر والعمليات الصاروخية وهجمات الطائرات دون طيار.
وسبقها فى الشهر الماضى استهداف قوات التحالف بضربة جوية لمقر “اللواء 12” التابع لقوات الحشد الشعبى فى بغداد، أسفرت عن مقتل نائب قائد عمليات حزام بغداد فى الحشد الشعبى “مشتاق طالب السعيدى” ومساعده، فضلًا عن إصابة آخرين، وقد حملت السلطات العراقية قوات التحالف مسؤولية هذا الهجوم واعتبرته خارج الصلاحيات الممنوحة لها خاصة وأن الهجوم على جهة أمنية تابعة للقوات العراقية.
زعزعة الاستقرار الداخلى:
وسط تصاعد الهجمات فى العراق اتهمت الحكومة العراقية التحالف الدولى لمكافحة تنظيم داعش بقيادة واشنطن أنها تحولت إلى عامل عدم استقرار للعراق ومهددًا للسلم والأمن المجتمعى فى العراق، كما أنها تقوض من التفاهمات بين القوات العراقية وقوات التحالف، خاصة وأن بعض الضربات تخرج عن مهام قوات التحالف الرئيسية التى تشارك القوات المسلحة العراقية معها فى تنفيذها فى ضوء امتلاك الحكومة العراقية صلاحية اتخاذ القرارات ذات الطابع الأمنى التى تتعلق بأمن ومصلحة العراق واستقراره، ومن ثم تمس العمليات المنفردة المتكررة فى بعض الأحيان السيادة العراقية وتهدد السلام، وتزيد من الرغبة فى الانسحاب وإنهاء وجود قوات التحالف الدولى بعد أن انتهاء مبررات وجوده.
نزع مبررات الهجمات من قبل قوات التحالف الدولى:
بعد الهزيمة العسكرية التى لاحقت تنظيم داعش فى الموصل عام 2017 باتت الهجمات العسكرية على الأراضى العراقية التى تقوم بها أمريكا بذريعة تدخل التحالف الدولى لفرض الأمن مرفوضة من جانب عدة أوساط سياسية، لاسيما مع محاولات القوات العراقية لاكتساب قدرات لمكافحة الإرهاب من ناحية، ومن ناحية أخرى تضاءل التهديد من جانب الخلايا النائمة لتنظيم داعش البالغ عددها حوالى 4 آلاف عنصر، وعليه تأتى الرغبة فى إنهاء الدور العسكرى والإبقاء على الدور الاستشارى لدول التحالف فى إطار توقيع مذكرات تفاهم ثنائية وشراكة للاستفادة من بعض الخدمات التنقية والاستخباراتية التى تقدمها دول التحالف، إلى جانب نقل جهود التحالف العسكرية إلى دول أخرى ما زال يستمر فيها الإرهاب مثل سوريا ودول غرب إفريقيا ومناطق فى آسيا الوسطى يتعاظم فيها الخطر الإرهابى لاسيما الخطر الداعشى.
التأثر بتوترات المنطقة بشأن الأحداث فى غزة:
وسط التداعيات الإقليمية للحرب فى قطاع غزة، وصفت السلطات العراقية القوات المتواجدة على أراضيها بأنها مزعزعة للاستقرار خاصة مع انتقال الحرب بصورة غير مباشرة على الأراضى العراقية، وجاء تصنيف واشنطن لكتائب حزب الله المتواجدة على أراضيها أنها منظمة إرهابية بعد تقديمها للدعم للمقاومة الفلسطينية فى القطاع وتبنيها لبعض الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة ضد القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولى، وقدرت الهجمات على القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولى انعكاسًا للممارسات الإسرائيلية فى غزة وردًا على الموقع الغربى الداعم لإسرائيل بحوالى 165 هجومًا منذ عملية “طوفان الأقصى”، وعليه جرى استهداف تلك الفصائل من خلال قوات التحالف بعدة غارات الفترة الماضية.
إلحاح المقاومة الإسلامية فى العراق لخروج قوات التحالف الدولى:
تصاعد الضغط على الحكومة العراقية من قبل القوى والفصائل الموالية لإيران لإنهاء تواجد قوات التحالف لاسيما القوات الأمريكية من العراق عبر شن هجمات على القواعد الأمريكية ومقرات قوات التحالف الدولى مثل مطارى “عين الأسد وأربيل” فى الغرب من ناحية، ومن ناحية أخرى تفعيل الجانب الدعوى للمشاركة فى طرد القوات من الأراضى العراقية تحت عنوان “نداء إلى أخوة الجهاد” خاصة بعد الاستهدافات المتكررة لعناصر وقيادات المقاومة فى بغداد، الأمر الذى بات يمثل توترًا وأزمة متصاعدة ويهدد الداخل العراقى ويضغط على مسار الحكومة العراقية التى تحاول إرساء تواجدها فى ظل التهديدات متعددة الأبعاد.
عواقب متعددة للانسحاب
انقسامات القوى الفاعلة حول إنهاء مهام التحالف الدولى:
يحمل قرار الحكومة العراقية الحاجة إلى إسناد سياسى من القوى السياسية الفاعلة، فى ضوء الانقسامات الكبيرة للمكونات الاجتماعية والطائفية داخل المجتمع العراقى حيث يأتى تأييد القوى الشيعية الانسحاب الكامل للقوات، مقابل رفض بعض القوى السنية والكردية قرار الانسحاب تخوفًا من إمكانية تمدد إيران عن طريق أذرعها المسلحة على المحافظات الغربية وإقليم كردستان، وعليه يتوجب على السلطات العراقية وضع بعض الخطط فى المرحلة المقبلة لتفادى التأثيرات والضغوطات المصحوبة بالجدل السياسى على كافة المستويات.
تصاعد دور الحشد الشعبى:
تظهر بعض التخوفات من تمدد دور الحشد الشعبى الذى يضم بعض الفصائل المرتبطة بإيران، وبات جزءًا من القوات المسلحة العراقية العقد الماضى، وكان هناك رفض من قبل الحكومة ضد استهدافه من جانب قوات التحالف باعتبار الهجمات تستهدف قوات أمنية رسمية للبلاد، ولكن يمكن أن يسهم خروج القوات فى استغلال الفصائل المسلحة المتحالفة مع فيلق القدس فى العراق، وتوسيع الهيمنة على الأراضى العراقية كما هو الحال فى الدول المجاورة فى الإقليم، ويزيد من التوتر بين إيران وأمريكا والتى تدفع العراق جزءًا منه.
محاولة إرساء الوضع قبيل الانتخابات الأمريكية:
فى أعقاب الانتخابات الأمريكية تمر الولايات المتحدة بحالة من الضغط الداخلى والخارجى متعدد الأبعاد، تحاول الاستجابة للمباحثات مع الطرف العراقى، وأن تتحول العلاقات إلى التعاون المشترك فى المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية وتطوير القدرات الدفاعية، ولكن قد تتمدد تلك المباحثات والحوار ويبقى مفتوح إلى حين تأتى إدارة جديدة بعد الانتخابات الرئاسية التى من المتوقع أن يتنافس فيها الرئيس الحالى “جو بايدن” والرئيس السابق “دونالد ترامب” تستطيع تحديد قواعد الانسحاب وكذلك شكل العلاقة المقبلة، ولا يمكن غض الطرف فى تلك المفاوضات أن تحقق الولايات المتحدة تسوية تضمن فيها مصالحها مع إيران لكن بالشكل الذى تسمح له أمريكا دون تقديم تنازلات جوهرية للطرف الآخر.
وجوب تضافر جهود القوات العراقية:
فى ضوء الرغبة لإنهاء مهام التحالف الدولى فى العراق يتوجب على الحكومة العراقية تطوير قدراتها وإمكانياتها للتعامل مع عنصر الفراغ الذى قد يحدثه الانسحاب لاسيما الفراغ الأمنى، الأمر الذى أكده “محمد شياع السودانى” رئيس مجلس الوزراء العراقى قائلًا “إن بلاده أمام استحقاق لإنهاء وجود التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة فى العراق ولا بد من أن تكون لدى بغداد الإمكانية للتعامل مع كل مكامن الخلل إن وجدت، وعليه يجب قطع كل المنافذ التى يفكر بها الإرهابى لإحداث خلل أمني”، والفترة الماضية حاولت السلطات العراقية تطوير قدراتها العسكرية وقوات أجهزة مكافحة الإرهاب وساهمت بشكل كبير فى القضاء على تنظيم داعش عبر توالى الضربات على فلول داعش، وانخفاض معدل تهديد العناصر الإرهابية كذلك عملياته الدموية، مع العلم بحاجة القوات العراقية إلى إسناد ودعم لوجستى وعملياتى وتدريبى فى مجال تطوير قدرات القوات الجوية العراقية والدفاع الجوى، ويجب على قوات التحالف الدولى قبل خروجها تمكنها من إنجاز تلك العملية.
ضرورة تأمين الحدود:
يعانى العراق منذ سنوات حالة من الانفلات الأمنى على حدوده التى تسمح بعبور عناصر إرهابية وميليشيات مسلحة أو تهريب مواد مخدرة وأسلحة خطرة وغيرها، ومؤخرًا ضبط الأمن على الحدود أصبح من أولويات الحكومة، ويتفاقم التهديد لاسيما مع الحدود الغربية مع سوريا نظرًا لأن مناطق شمال شرق سوريا ما زالت خاضعة لسيطرة تنظيم داعش، ووجود مخيمى الهول والروج الذى يحوى على آلاف النازحين وعوائل تنظيم داعش، فضلًا عن وجود سجن الحسكة على بعد 10 كم من الحدود العراقية ذلك السجن الذى يضم العديد من عناصر التنظيم، الأمر الذى يمثل تهديدًا على الداخل العراقى خاصة فى ظل احتمالات تحرر بعض تلك العناصر من السجن.
وعليه أعلنت وزارة الداخلية نهاية شهر يناير الماضى، بناء جدار خراسانى عازل بطول 160 كيلومترًا وبارتفاع 3 أمتار، على الشريط الحدودى مع سوريا، فى منطقة القائم شمال نهر الفرات، من أجل تعزيز أمن الحدود ومنع عمليات التهريب وتدفق المتسللين من التنظيمات المسلحة المختلفة.
تخوفات إعادة الإحياء لتنظيم داعش:
على الرغم من إلحاق الهزيمة العسكرية لتنظيم داعش فى العراق وسوريا إلا أنه لم يتم الانتصار الكامل فى القضاء على الخطر الإرهابى الذى يمثله التنظيم، بمعنى آخر فإن التنظيم تعرض للضعف وليس للتلاشى، وما زالت تشكل خلاياه النائمة فى المحافظات الصحراوية الشمالية مثل “كركوك” و”صلاح الدين” خطورة لا يستهان بها، حيث يواصل التنظيم شن هجمات محدودة تأخذ أحيانًا نمط “الذئاب المنفردة”، وتأتى إمكانية انسحاب قوات التحالف لمكافحة داعش لتثير تساؤلات حول احتمالات عودة التنظيم الإرهابى مرة أخرى، ولكن عودة تنظيم داعش لسابقه أمر ليس من السهل حدوثه، فعلى الرغم من محاولاته المستمرة لإثبات تواجده إلا أنه يعانى من تراجع للقدرات التمويلية وغياب للحواضن الاجتماعية، حيث خسر الكثير على المستوى البشرى والمادى فى الحرب التى تم شنها عليه بطريقة لا تسهم فى عودته السريعة المحتملة كما ترآى للبعض، وأن حتى الانسحاب لا يعنى التخلى بالكامل عن القوات العراقية أو مساعدتها بشكل غير مباشر فى سياساتها تجاه مكافحة التنظيم.
مما سبق؛ عكست الرغبة فى الانسحاب التدريجى لقوات التحالف الدولى ضد داعش من العراق عددًا من الدلالات التى تأتى فى خضم الصراع الإقليمى الظاهرى بين القوات الأمريكية وحلفائها وإيران وأذرعها فى المنطقة، ومن المتوقع استمرارية المباحثات حول مستقبل التحالف وتنظيم العلاقة مع الدول الأعضاء خاصة الولايات المتحدة وجدولة الانسحاب لفترة طويلة حتى انتهاء الانتخابات الأمريكية، مما يوحى بمواصلة أطراف الصراع للتصعيد فى الفترة المقبلة، إلى جانب ضرورة التعبئة الداخلية للقوات العراقية على المستويات كافة من أجل تحقيق الاكتفاء فى الدفاع عن نفسها، لاسيما من جانب التهديدات الداخلية حتى لا يحدث فراغ مشابه للفراغ المترتب على سحب القوات الأمريكية فى ديسمبر عام 2011، وعادت لتدخل مرة أخرى تحت لواء التحالف الدولى لدحر تنظيم داعش فى عام 2014.