صراع مؤجل: حالة الأمن المائي في العراق

صراع مؤجل: حالة الأمن المائي في العراق

إعداد: حسناء تمام كمال

حالة الأمن المائي في العراق

 

 

شهد الداخل العراقي في الآونة الأخيرة أصواتًا مرتفعةً، تأتي من مناطق مختلفة من العراق، تشكو خطر نقْص الموارد المائية الملحوظ في العراق لهذا العام، والذي أثَّر بشكلٍ واضحٍ على العديد من القطاعات في العراق، منها “الأمن الغذائي، والزراعة، والثروة السمكية”، وعلى الاحتياجات اليومية.

 ويُعدُّ ملف الأمن المائي ملفًا مصيريًّا لأيِّ دولة، ويُعدُّ الحفاظ عليه مصلحةً رئيسيةً وحيويةً لدى الدولة، وفي العراق تسيطر على الأجواء حالةٌ من التعثُّر السياسي منذ عام؛ ما أدَّى إلى انشغالٍ نسبيٍّ عن إدارة هذا الملف، لكن الجدير بالذكر، أن هناك عددًا من الملفات لا تقلُّ أهميةً في تأُثيرها على حالة الاستقرار الداخلي، ومؤثرة في المشهد، يجب إعطاؤها قدْرًا أوفر من الاهتمام، وإلا فحلُّ الصراع السياسي قد يلحق بصراعٍ آخر على الموارد.

 وفي هذا الصدد، نسلط الضوء على الأمن المائي في العراق، وحالته، والإشكاليات المحيطة، وكيف يمكن أن يؤثر على الاستقرار الداخلي، وماهي طُرُق احتوائه؟

أولًا: أعراض الجفاف تُنْذِر بتغيُّرات حادّة

خلال العام الجاري، رُصدت العديد من الظواهر، التي تدل على تأثُّر قطاعات مختلفة بنقْص المياه، منها، المتعلق بالقطاع الزراعي، أو تلوُّث المياه، أو قرارات إدارة الحكومة للمياه، أو تغيُّر المناخ تغيُّرًا سلبيًّا، نشير إلى أبرزها فيما يلي:

 بلغ الجفاف مستويات متقدمة في بحيرة الموصل، للحد الذي ساهم في اكتشاف مدينة زاخيكو القديمة في بحيرة سدِّ الموصل، التي تعود إلى العصر البرونزي.

تصاعدت شكاوى المزراعين من عدم القدرة على زراعة أرز العنبر، واعتبروه مُهدَّدًا بالاندثار؛ نتيجة الجفاف الذي يضرب البلاد، وتراجع مخزونات المياه الحيوية لبقائه.

وفي محافظة المثنى، رصد جفاف بحيرة ساو، التي لم يعُدْ موجودًا منها سوى القليل جِدًّا، ومصيرها يتجه نحو الجفاف الكامل، ورُصد تضرر الحيوانات في محمية ساو بشكلٍ كبيرٍ؛ بسبب الجفاف الذي نتج عنه قلة الغذاء، وبالتالي، نفوق عشرات الغزلان هناك.

 في مناطق الأهوار جنوب العراق، تشهد موجة جفاف غير مسبوقة؛ تسبّبت في هجرات جديدة طالت مئات الأُسَر، إلى جانب خسائر في المواشي والمزروعات؛ الأمر الذي دفع عددًا من العراقيين المهتمين إلى التحرُّك، من بينهم ناشطون ومدوّنون عراقيون أطلقوا حملةً واسعةً على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان “أنقذوا أهوار العراق”.

 من جهةٍ أُخرى، يشهد المياه تراجعًا في نهر دجلة إلى الحد الذي يدفع الأشخاص إلى عبور بعض المناطق مشيًا؛ الأمر الذي أدَّى إلى تقليص المساحات الزراعية بأهم المحاصيل الإستراتيجية، في مقدمتها، القمح والأرز، بالإضافة إلى المحاصيل الحقلية والخضراوات.

كما انخفض منسوب بحيرة حِمرين الاصطناعية – الواقعة في وسط العراق – إلى مستويات حادّة، وحسب مستشار وزارة الموارد المائية، عون ذياب، أضاف مجموع التخزين الحالي فيها بحدود 130 مليون مترٍ مكعبًا، فيما طاقتها الاستيعابية مليارا مترٍ مكعبًا، كمية المياه فيها قليلة جدًّا.

في ديسمبر، وفي خطوةٍ لمواجهة حالة الجفاف التي تضرب العراق، أعلنت الحكومة المركزية في بغداد، إطلاق مياه السدود لتغذية الأراضي الزراعية والاحتياجات الأخرى، وسط تحذيرات من أن يكون الوضع الراهن هو الأخطر على العراق مائيًّا.

 وعلى هذا النحو، أصبحت ظاهرة تراجع مناسيب المياه، وجفاف البحيرات، والتراجع في معدلات الزراعة، مسيطرة على قطاعات مختلفة، وعلى اهتمام فئات متنوعة من المواطنين العراقيين الذين تضرَّرت مصالحهم.

ثانيًا: إجراءات أحادية من دول الجوار

 تكْمُن المشكلة الرئيسية للموار المائية في العراق، إما أن تأتي من البلدان المجاورة، أو تمرُّ عبْرها، ومؤخرًا، أخذت العديد من هذه الدول إجراءات أُحادية – غير منسقة- أدَّت إلى التأثير على موارد العراق المائية، وكان جزءًا من تكوين الظواهر السالفة، أهم هذه الإجراءات مايلي:

قطعت إيران طوال الشهور الماضية معظم مياه الأنهار المتدفقة من أراضيها نحو العراق، فقد اقتطعت روافد نهر دجلة، التي يبلغ عددها 42؛ ما تسبَّب في انخفاض منسوب المياه نحو العراق بأكثر من 75%..

من ناحيةٍ أُخرى، أقامت تركيا سد “إليسو” على نهر دجلة، وتحديدًا على بعد 65 كيلومترًا عن الحدود العراقية؛ تسبَّب في خفْض حصص العراق المائية بشكلٍ كبيرٍ، وصلت إلى 53%؛ الأمر الذي سيحرم 696 ألف هكتار من الأراضي الزراعية العراقية من المياه.

 وجديرٌ بالذكر، أن هذه الإجراءات هي امتداد لمجموعة من الإجرءات الأُحادية التي بدأتها تركيا في أوائل السبعينيات، منها، البدء في مشروع جنوب شرق الأناضول، ببناء (22) سدًّا و (19) محطة طاقة هيدروليكية للمقاطعات النامية في الجنوب الشرقي، وفي التسعينيات، رفعت تركيا مستوى المياه في سدِّ أتاتورك دون علم سوريا والعراق.[1]

[1]  مركز الدراسات الاستراتيجية، تحديات الأمن المائي العراقي  https://is.gd/ZcpJ6V   

ثالثًا: حالة العراق وفقًا لمؤشرات الأمن والفقر المائييْن

ما هو الفقر المائي: حدَّدت منظمة الأغذية والزراعة الأممية (الفاو)، نصيب الفرد الواحد من المياه العذْبة، بنسبة 10% من متوسط استهلاك الفرد، الذي يقدر بـ1000 مترٍ مكعبًا سنويًّا[1].

 ووفقًا للبنك الدولي، فإنه حتى عام 2017، فكان نصيب الفرد من المياه يبلغ 916 مترًا مكعبًا، وهو آخر إحصائية متوفرة للعراق، وبالتالي، فواقع متوسط ما يحصل عليه الفرد مرجَّحٌ أن يكون أقلَّ بكثيرٍ من هذه النسبة، في ظلِّ موجات الجفاف المتلاحقة، التي يعاني منها في السنوات الثلاث الأخيرة، وجديرٌ بالذكر، أنها كانت تقدر بـ3321 في عام 1972، وفقًا للمصدر ذاته، أيْ أنها انخفضت للثُّلث تقريبًا. [2]

وفي محاولةٍ لتقدير حجم التراجُع في حصة المياه بعد موجات الجفاف هذه، قال الرئيس العراقي السابق، برهم صالح، تعليقًا على جفاف بحيرة ساوة: إنه من المتوقع، أن يصل عجْزُنا المائي إلى 10.8 مليارات مترٍ مكعبًا، بحلول عام 2035؛ بسبب تراجُع منسوبيْ دجلة والفرات، والتبخُّر في مياه السدود، وعدم تحديث طُرُق الرَّي”.[3]

 يمكن ملاحظة ضعْف العراق الشديد تجاه تغيُّر المناخ في معدلات هطول الأمطار المتراجعة بسرعة، والتي انخفضت بنسبة 25٪ إلى 65٪ دون المستويات العادية؛ ما أدَّى إلى فترات جفاف طويلة؛ إذ يشهد العراق أيضًا موسم الجفاف الثاني خلال 40 عامًا؛ بسبب انخفاض معدل هطول الأمطار، منذ ثمانينيات القرن الماضي، انخفضت المياه المتدفقة من نهريْ دجلة والفرات بنسبة 30٪، ومن المتوقع، أن ينخفض ​​تدفُّق المياه أكثر من ذلك، بنسبة 50٪ (الفرات) و 25٪ (دجلة) بحلول عام 2025.[4]

[1] الدول العربية والفقر المائي، مينا مونتير، https://is.gd/3ewjeb

[2]البنك الدولي، نصيب الفرد من الموالرد المائية العذبة، https://is.gd/CszK3s

[3] بي بي سي عربي، بحيرة ساوة لماذا تتفاقم أزمة المياة، https://is.gd/ff0j1R

[4] Arab Gulf States Institute in Washington, Iraq’s Water Crisis: An Existential But Unheeded Threat https://is.gd/ISs1s9

رابعًا: إشكاليات متعددة تحيط بالأمن المائي

لا تُوجد اتفاقيات حاكمة:

الإشكالية الرئيسية أتت بسبب غياب اتفاقٍ يشمل كافة الدول المشترطة في النهريْن (دجلة والفرات) لتنظيم الانتفاع بهما؛ لذا تعمل دولة المنبع ودول الروافد (إيران، وتركيا) على إنشاء مشاريعها وتشغيلها بشكل أُحادي، واستنادًا لتفسيرٍ يعتمدونه لطبيعة النهريْن، حتى وإن وصل الأمر للمساس بالحقوق التاريخية للعراق، أو تهديد أمنها المائي.

 الخلاف حول مُسمَّى وتصنيف النهريْن: تستند وجهة النظر العراقية إلى مبادئ القانون الدولي بشأن تنظيم استغلال المياه، فنهرا دجلة والفرات دوليّان طبقًا لتعريف الأمم المتحدة، الذي يقول: إن النهر الدولي هو المجرى المائي الذي تقع أجزاءٌ منه في دول مختلفة.

 أما تركيا فتستند في تفسيرها لطبيعة نهريْ دجلة والفرات إلى نظريةٍ قديمةٍ، تمنح الدولة السيادة المطلقة في التصرف بما يقع ضمن أراضيها، بما في ذلك مياه الأنهار، دون قيدٍ أو شرطٍ، وطبقًا لذلك، فمن حقها إقامة ما تشاء من مشاريع للانتفاع بهذه المياه، وإحداث أيِّ تغييرات فيه، بما في ذلك تغيير مجرى النهر، بغض النظر عما يترتب عليه من أضرار بمصالح الدول الأخرى.

وعلى هذا الأساس، ترى تركيا أن نهريْ دجلة والفرات ليسا نهريْن دولييْن كيْ تنطبق عليهما أحكام القانون الدولي للمياه، وتُطلق عليهما في المقابل، وصْف المياه العابرة للحدود؛ وذلك كونهما ينْبُعَان ويتغذَّيَان ثم يَجْرِيان عبْر الأراضي التركية.

التغيُّرات المناخية:

تصنف الأمم المتحدة العراق، بأنه خامس دولة معرضة لتغيُّر المناخ؛ حيث شهدت درجات الحرارة تزايدًا بمقدار 1.8 درجة مئوية، خلال ثلاثة عقود، فالعراق كان الأكثر تأثُّرًا، وهو واحد من بيْن أكثر خمس دول في العالم تأثرت بالشُّح المائي والجفاف والتصُّحر وتقلُّص المساحات الزراعية، فضْلًا عن الضغط الكبير؛ الناتج من ارتفاع درجات الحرارة وطلب الطاقة.

الزيادة السكانية:

من ناحيةٍ أُخرى، لدى العراق معدلات زيادة سكانية مرتفعة، بخاصةٍ أن عدد العراقيين أصبح أكثر من 41 مليون نسمة، ذلك أن نسبة الزيادة السنوية فيه تصعدُ بمقدار 900 ألف إلى مليون نسمة سنويًّا، بحسب إحصاءات وزارة التخطيط، هذه الزيادة بدوْرها تضع عبء توفير الموارد المائية لاحتياجات الفئة السكانية المتزايدة.

تهالُك البُنَي التَحتيّة:

أدَّت حالة الصراع المختلفة التي يشهدها العراق منذ عام 2003 إلى إلحاق أضرار واسعة في البُنَي التحتية في العراق، من ناحيةٍ أُخرى، لم تلقَ هذه البُنَى الاهتمام الكافي، ويُقدّر بعض الاختصاصيين، أنَّ البُنَى التحتية العراقية عمرها الافتراضي يكون من 15-20 سنة، إضافةً إلى الخسائر المادية، المتمثلة في تدمير السيارات وخروجها من الخدمة، هذا السوء أيضًا أصاب المرافق الخاصة بالموارد المائية؛ ما أثَّر على وصول المياه للمواطنين في مناطق مختلفة.

خامسًا: ماهي التَّبِعَات والنتائج

 تمسُّ تَبِعَات هذا التهديد للأمن المائي السكان بشكلٍ أساسيٍّ، وتهديد وصولهم إلى احتياجاتهم اليومية، بجانب تهديد العديد من القطاعات ذات الصلة بالموارد المائية:

  وتوضح إحصاءات أولية إلى أيِّ مدى يمكن أن يصل هذا الضرر عالميًا، فبحسب منظمة اليونيسيف، يواجه أكثر من نصف الأطفال – 58 %- صعوبةً في الحصول على مياه كافيةٍ يوميًّا[1]، من ناحيةٍ أُخرى، كان لتدهور الجودة وانخفاض الوصول إلى المياه في العراق آثار سلبية في المجتمع العراقي، فقد أفادت المنظمة الدولية للهجرة في عام 2019، أنَّ 21,314 عراقيًّا أُجبروا على الهجرة؛ بسبب نقْص مياه الشرب في المحافظات الجنوبية والوسطى من العراق.

 أما عن معدلات الفقْد المتوقعة في  حصة المياه، والتأثير على الأراضي الزراعية، فقد حذَّر الرئيس العراقي السابق، برهم صالح، من أنَّ العراق قد يواجه عجْزًا سنويًّا، قدْرُه (10.8) مليارات مترٍ مكعبًا بحلول عام 2035، مع تهديد (54%) من الأراضي الصالحة للزراعة في العراق بارتفاع نسبة الملوحة، في الواقع، سيتضرر القطاع الزراعي العراقي بشدة في المستقبل؛ بسبب انخفاض منسوب المياه، على الرغم من أن الزراعة تُمثِّل أقل من (5%) من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنَّها تُوظِّف حواليْ ثُلث العراقيين الذين يعيشون في المناطق الريفية ويعتمدون على الزراعة.          

لا شكَّ أن الأمن المائي جزْءٌ لا يتجزأ من احتياجات الاستقرار الداخلي، الذي يتطلب القدرة على التعامل بنجاح مع الأزمات؛ لاستيعاب الصراعات التي تدور داخل المجتمع وتوفير احتياجاتها الأساسية، وهذا ما يجب أن تأخذه الحكومة العراقية في الاعتبار، وإلا فإن التحدي القادم في العراق والتعثُّر الأكبر سيكون متعلقًا بملف المياه، وبين الحكومة والمواطنين.

من ناحيةٍ أُخرى، على الجانب التركي والإيراني التوقُّف عن استغلال الموارد المائية لنهريْ دجلة والفرات بهذا الشكل الذي لا يراعي حقَّ دول الجوار التاريخية، وإلا فسيكون هذا الملف هو منبع الصراع القادم بين العراق ودول الجوار من ناحيةٍ أُخرى.

 لا غنى عن تقاسُم الموارد المائية الخاصة بنهريْ دجلة والفرات، والتعجيل باعتمـاد مبدأ “الحل الوسط”، الذي يحقق بعض المطالب والأهداف الأساسية للأطراف المشتركة في هذه الأنهار، بما يشكل نقطة التقاء “الوسط” بين الأطراف المتنازعة.

وبالطبع، فإن عملية تقاسُم الموارد المائية، أو الوصول إلى الحل الوسط، وهي عملية مُعقَّدة ليس من السهولة تحقيقها، وتتطلب مخاضًا للمفاوضات والمساومة، تقوم على قاعدة الأخْذ والعطاء، ولكن هذا المسار يُشكِّل إطارًا مبدئيًّا، يتم العمل به للوصول من خلاله إلى تسوية للملف.

[1]  اليونيسيف، الأمن المائي للجميع، https://cutt.us/6tMhs

كلمات مفتاحية