إعداد: ميار هانى
باحثة فى الشأن الدولى
بلغ مستوى العلاقات بين الهند وجزر المالديف نقطة منخفضة جديدة، مع انسحاب الدفعة الأولى من القوات الهندية من البلاد، 15 مارس الجارى، على خلفية طلب الرئيس الحالى “محمد مويزو”، الذى يتبنى شعار “خروج الهند” من بلاده، وفى المقابل، يُعرف بتأييده للصين من خلال اتخاذه خطوات لتحول الدولة الأرخبيلية إلى مدار بكين، وبالتالى تعكس التطورات الأخيرة تحولًا كبيرًا فى سياسة جزر المالديف، الأمر الذى من شأنه التأثير على الديناميات الجيوسياسية بين الهند والصين فى المحيط الهندى، وفيما يلى نتناول مؤشرات التوتر بين الهند وجزر المالديف، ومؤشرات التقارب الصينى مع الأخيرة، والتبعات المُحتملة للتحول الإستراتيجى فى سياسة المالديف، وذلك على النحو التالى:
تحولات مالية: إنهاء سياسة “الهند أولًا”
أثارت دعوة رئيس الوزراء الهندى، ناريندرا مودى، السياح بزيارة جزيرة لاكشادويب الهندية، فى 4 يناير من العام الجارى، خلافًا دبلوماسيًا بين البلدين عقب انتقاد ثلاثة وزراء فى حكومة المالديف تصريحات مودى، باعتبارها دعوة ضمنية لامتناع السياح الهنود من زيارة جزر المالديف، وهى دولة تعتمد بشدة على السياحة على شواطئها، ما أدى إلى دعوات من مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى الهنود لمقاطعة جزر المالديف كوجهة سياحية، وسرعان ما انتشر هاشتاج #BoycottMaldives، وقد حاولت الحكومة المالديفية التخفيف من حدّته بوصفها التصريحات بأنها آراء شخصية، ولا تعبر عن موقفها الرسمى.
فى حين يبدو الحدث ظاهريًا وكأنه خلاف بسيط على وسائل التواصل الاجتماعى، إلا أنه يسلط الضوء على التوتر بين الهند وجزر المالديف منذ انتخاب الرئيس المالديفى الجديد، محمد مويزو، الحاصل على نسبة 54.04 فى المئة من الأصوات، مقابل حصول الرئيس الأسبق إبراهيم صليح على 45.96 فى المئة من الأصوات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى موقفه المناهض للهند تحت تعبير ملطف “استعادة الحرية المالديفية”، والدعوة إلى سياسة خارجية أكثر استقلالية، وتجلى ذلك على النحو التالى:
أرسلت الهند، خلال حفل تنصيب مويزو رئيسًا للبلاد فى 17 نوفمبر 2023، وزير علوم الأرض كيرين ريجيجو ممثلًا لها، وذلك على عكس حضور رئيس الوزراء “ناريندرا مودى” فى حفل تنصيب صليح عام 2018. وعلى الصعيد الآخر، مع حفاظ رؤساء جزر المالديف السابقين باختيار الهند كأولى محطات زياراتهم الرسمية الخارجية، قرر الرئيس الحالى التخلى عن هذا التقليد، ببدء زيارته الرسمية بعد توليه السلطة إلى تركيا، ثم التوجه إلى زيارة الإمارات العربية المتحدة فى ديسمبر 2023، ثم زيارة الصين بدعوة من نظيره الصينى “شى جين بينغ” خلال الفترة من 8 إلى 12 يناير 2024، والتى تم خلالها الاتفاق على تأسيس شراكة تعاونية إستراتيجية شاملة بين البلدين، وهو ما أثار قلق نيودلهى فى ظل التنافس الدائر بينها وبين بكين فى المنطقة.
وخلال أول خطاب له بعد أدائه اليمين، أبدى الرئيس “مويزو” رغبته فى انسحاب الجنود الهنود من جزر المالديف، كما أكد مرة أخرى الأمر ذاته خلال لقائه مع رئيس الوزراء الهندى على هامش مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ “كوب 28” بالإمارات فى ديسمبر 2023، ويبلغ عددهم 80 جنديًا تقريبًا، تتمثل وظيفتهم فى تقديم الدعم للمعدات العسكرية التى قدمتها الهند لجزر المالديف، إلى جانب المساعدة فى الأنشطة الإنسانية فى المنطقة، فضلًا عن غياب ممثل حكومة المالديف عن اجتماع كولومبو الأمنى الذى تم عقده فى موريشيوس فى ديسمبر 2023.
كما قررت حكومة المالديف عدم تجديد اتفاقية التعاون الأمنى لإجراء مسوحات هيدرولوجية فى مياه جزر المالديف التى تم توقيعها مع الهند فى عام 2019 وتنتهى فى يونيو من العام الحالى، وكانت تهدف تلك المسوحات إلى تعزيز الأمن البحرى وتحسين الملاحة والاقتصاد الأزرق.
ولدى الهند وجزر المالديف روابط تاريخية متجذرة فى الروابط العرقية واللغوية والثقافية والدينية والتجارية، وتعد الهند من أوائل الدول التى اعترفت بجزر المالديف منذ أن تخلى البريطانيون عن السيطرة عليها فى عام 1965، وتم تطوير العلاقات الثنائية بدقة على مدى ستة عقود، على الرغم من المد والجزر التاريخى نتيجة لتأثر العلاقات فى المقام الأول بالقيادة السياسية لجزر المالديف، وذلك على النحو التالى:
تم اعتبار الهند بمثابة “المستجيب الأول” للبلاد فى أوقات الأزمات، ففى عام 1988، تدخلت الهند عسكريًا من خلال تنفيذ عملية الصبار لمنع محاولة انقلابية قام بها مرتزقة “التاميل” السريلانكيون ضد الرئيس “عبد القيوم”، وكانت الهند من أوائل الدول التى قدمت المساعدات الطبية العاجلة، خلال تسونامى عام 2004، والذى تسبب فى مقتل ما يقرب من 100 شخص، ووسط أزمة الشرب عام 2014، سلمت البحرية الهندية 374 طنًا من المياه المعبأة فى زجاجات فى غضون نصف يوم، كما أجرى الموظفون الهنود، منذ عام 2019، أكثر من 500 عملية إجلاء طبى، مما أسهم فى إنقاذ حياة 523 شخصًا، كما وفرت الهند الأدوية وفرق المساعدة والطعام خلال جائحة COVID-19.
ويعد مجال الأمن والدفاع أحد مجالات التعاون الحيوية بين البلدين منذ عام 1988، لأهمية المالديف فى تحقيق الأمن الإستراتيجى والبحرى للهند، وتجلى ذلك من خلال توقيع خطة العمل للدفاع فى عام 2016، وتوفير المعدات العسكرية من الطائرات والمروحيات للمراقبة الجوية، وإجراء التدريبات المشتركة التى تمثل ما يقرب من 70 فى المائة من التدريب الدفاعى المالديفى.
وتعد الهند خامس أكبر شريك تجارى لجزر المالديف، إذ نمت صادرات الهند إلى جزر المالديف، بين عامى 1995 و2021، بمعدل سنوى قدره 10.4 فى المائة، من 31.6 مليون دولار أمريكى إلى 416 مليون دولار أمريكى، بينما ارتفعت صادرات جزر المالديف إلى الهند بمعدل سنوى قدره 22.9 فى المائة، من 230,000 ألف دولار أمريكى إلى 48.8 مليون دولار أمريكى.
وعلى مر السنين، استطاعت الهند تقديم نفسها باعتبارها الوجهة المفضلة للعديد من الطلاب المالديفيين، حيث تعد المصدر الرئيسى للتعليم العالى، كما تهيمن الهند على سياحة المالديف، والتى تشكل 11.2 فى المئة من إجمالى السياح الوافدين فى عام 2023.
التوجه لبكين: نفوذ متنامٍ بالمنطقة
مع كسر الرئيس مويزو التقاليد بزيارة الصين قبل الهند، أشاد ببكين باعتبارها “واحدة من أقرب الحلفاء وشركاء التنمية لجزر المالديف”، وشهدت الزيارة الاتفاق على رفع مستوى العلاقات إلى شراكة تعاونية إستراتيجية شاملة، وتوقيع 20 اتفاقية شملت التعاون فى التجارة والاقتصاد والبنية التحتية والحد من مخاطر الكوارث والتنمية الخضراء والمنح والسياحة ومشروعات التنمية الأخرى، إلى جانب توقيع وزير الدفاع المالديفى “محمد غسان مأمون” واللواء “تشانج باو تشون” نائب مدير مكتب الصين للتعاون العسكرى الدولى، اتفاقية بشأن “تقديم الصين مساعدة عسكرية مجانية لجمهورية المالديف”، فضلًا عن إعلان “مويزو” نية إدارته تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، والتى لم تدخل حيز التنفيذ فى الإدارة السابقة، وتنص على خفض التعريفات الجمركية على أكثر من 95 فى المئة من السلع إلى الصفر والتعاون فى المجالات الرئيسية.
وقد شهدت العلاقات (الصينية – المالديفية) تطورًا كبيرًا مع زيارة “شى جين بينغ” الأولى للبلاد عام 2014، ووسعت الصين على نحو متزايد وجودها فى جزر المالديف، من خلال الاستثمار النشط فى مشروعات البنية التحتية واسعة النطاق، وتفضيل الشركات الصينية بدلًا من الهندية خلال فترة حكم الحكومة السابقة الموالية للصين، وتضمنت أحد هذه المشروعات توسيع مطار “فيلانا” الدولى فى ماليه وإنشاء جسر الصداقة بين الصين وجزر المالديف بتكلفة تبلغ 200 مليون دولار.
الأهمية الجيوستراتيجية لجزر المالديف
إن الموقع الإستراتيجى لجزر المالديف، مقابل الممرات البحرية التجارية والتى يمر عبرها ثلث نفط العالم، يجعلها لاعبًا حاسمًا فى الجغرافيا السياسية للمحيط الهندى، وبالتالى تسعى الدول لتوسيع مجال نفوذها بالمنطقة لتأمين مصالحها التجارية وإمدادات الطاقة.
ويعد اهتمام الهند الإستراتيجى بجزر المالديف مدفوع بسياسة “الجوار أولًا” التى تتبعها نيو ديلهى، إلى جانب قربها من جزيرة لاكشادويب الهندية والساحل الغربى للبر الرئيسى الهندى، وبالتالى يتماشى اهتمام الهند مع أولوياتها الإستراتيجية الشاملة، فى مراقبة حركة الملاحة البحرية وتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمى.
وتفتقر الصين للوصول المباشر إلى المحيط الهندى، وبالتالى تسعى بكين لتوسيع مجال نفوذها بالمنطقة، مدفوعًا بالحاجة إلى التغلب على معضلة “ملقا”، وهى قناة مائية ضيقة تُحاط بدول محايدة كماليزيا وحلفاء للولايات المتحدة الأمريكية مثل سنغافورة ومنافسين جيوسياسيين مثل الهند، تفترض الصين إمكانية قيام القوات البحرية الأمريكية أو الهندية بتعطيل أو حصار الطرق البحرية الصينية فى المحيط الهندى خارج المضيق فى زمن الحرب، وبالتالى تسعى بكين لتعزيز وجودها المتنامى من خلال جزر المالديف، التى تلعب دورًا رئيسيًا فى تحقيق هذا الهدف.
تبعات مُحتملة
قد تلقى التوترات الحالية، التى تشوب العلاقات (الهندية – المالديفية)، بظلالها على عدد من الأصعدة، وذلك على النحو التالى:
أولًا – التأثير على العلاقات الاقتصادية بين نيودلهى ومالية:
يرتبط الاقتصاد المالديفى بدرجة قوية بالهند، خامس أكبر شريك تجارى للبلاد، وتعتمد عليها “ماليه” فى توفير معظم احتياجاتها الأساسية من الغذاء والأدوية، كما تشكل السياحة الهندية نسبة 11 فى المئة للبلاد فى عام 2022، وعليه، إذا ظلت علاقة المالديف مع الهند متوترة من ناحية، مع تزايد نفوذ بكين من ناحية أخرى، قد يترتب عليه عواقب اقتصادية، لأنها قد تؤثر على حصولها على المساعدات والاستثمارات الهندية نسبيًا، فضلًا عن إمكانية انخفاض أعداد السائحين القادمين من الهند إلى جزر المالديف على خلفية الاضطرابات الدبلوماسية الأخيرة، وبالتالى انخفاض دخل البلاد فى قطاع السياحة، أحد أهم المصادر الرئيسية للدخل القومى.
ثانيًا – تزايد التوترات الدبلوماسية بين البلدين:
تنظر الهند بعين القلق إزاء الانخراط الصينى مع جزر المالديف، والآثار المترتبة على الاتفاقيات الـ 20 الموقعة بين البلدين والتى تغطى مجموعة متنوعة من مجالات التعاون، إلى جانب الرغبة بارتقاء مستوى العلاقات إلى شراكة تعاونية إستراتيجية شاملة، وبالتالى قد ينعكس ذلك على وجود اضطرابات دبلوماسية نسبية بين البلدين.
ثالثًا – تحركاتها عسكرية هندية فى المحيط الهندى:
مع توقيع ماليه وبكين اتفاق دفاعى بشأن تقديم الأخيرة مساعدات عسكرية مجانية، بالتوازى مع رغبة حكومة المالديف مغادرة العسكريين الهنود بلادها، وبالتالى تتصاعد المخاوف الأمنية لنيوديلهى من إمكانية استبدال الوجود الأمنى الهندى بوجود صينى فى المستقبل، وهو ما يمثل تهديدًا محتملًا لمصالحها الأمنية، على الرغم من تعهد “مويزو” فى وقت سابق بأن سحب الأفراد العسكريين الهنود لا يعنى السماح بدخول جنود دولة أخرى.
وعليه، مع قرب موقع الهند الجغرافى من جزر المالديف وأهميتها الإستراتيجية فى المحيط الهندى، ستحرص الهند على مراقبة أى زيادة فى الحد الأدنى الحالى من التعاون الأمنى بين جزر المالديف والصين، فضلًا عن توسيع الهند تحركاتها العسكرية فى المحيط الهندى، وهو ما بدى مع إعلانها عن تشغيل قاعدة بحرية جديدة تسمى “آى إن إس جاتايو”، بالقرب من جزر المالديف، لتكون بذلك القاعدة البحرية الثانية للهند.
وخلاصة القول:
تعكس التطورات الأخيرة تحولًا كبيرًا فى سياسة جزر المالديف، بالنظر إلى إنهاء سياسة “الهند أولًا”، ونفوذ بكين المتنامى بالمنطقة، إلى جانب الرغبة فى توسيع نطاق شراكاتها وتنويع خيارات السياسة الخارجية للبلاد.
وتقرأ بكين تلك التطورات السياسية باعتبارها فرصة لتوسيع نطاق نفوذها بشكل أكبر فى الفناء الخلفى الإستراتيجى للهند. وفى المقابل، يضيف انخراط الصين المتنامى مع جزر المالديف إلى الضغوط التى تواجهها الهند فى حماية مصالحها فى المحيط الهندى.
وعليه، تستعد التحولات السياسية الأخيرة لممارسة تأثير كبير على الديناميات الجيوسياسية بين الهند والصين فى المحيط الهندى، إذ ستواصل بكين توسيع نطاق نفوذها بجزر المالديف ومنطقة المحيط الهندى عبر تقديم المساعدات الاقتصادية والاستثمارات فى البنية التحتية بشكل رئيسى. وفى المقابل، فى ظل الأهمية الخاصة التى تمثلها جزر المالديف للهند، قد تسعى الهند للحفاظ على نفوذها الإستراتيجى، وتسوية الخلافات عبر القنوات الدبلوماسية، وتعزيز التدابير الأمنية فى المنطقة.