دبلوماسيةُ توظيفِ مصطلحِ “معاداةِ الساميةِ” في السياسةِ الخارجيةِ الإسرائيليةِ

إعداد : آية أشرف

المقدمة:

في الوْقتِ الحَاليِ وفي ظِلِّ الانْفتَاحِ المَعْرفيِ الهَائلِ المُصَاحبِ للعَولمةِ أصبحتْ اللغةُ ومصْطَلحاتُها منْ أهمِّ أدواتِ السياسةِ الخَارجيةِ، بلْ ٕنَّها أصْبحتْ سِلاحاً لاَ يقلُ أهمّيةً عنٍ الأسٍلِحةِ المَيْدانيةِ التَقْليديةِ وغَيرِ التَقليديةِ، وقدْ أظْهَرتْ الحربُ الأخيرةُ في غَزةَ جانباً مختلفاً منَ الحروبِ الناعمةِ التي تعتمدُ على هذهِ المصطلحاتِ والسجالِ فيمَا بينَها والتيِ تعملُ إسرائيلُ ومنْ خلفِها الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ على توظيفِها في حربِها غيرِ العادلةِ ضدَّ الشعبِ الفلسطينيِ، ولعلَّ مصطلحَ “معاداةُ الساميةُ” الذيُ طُُرحَ في القرنِ 19 والمناقشاتِ العديدةِ التيِ تدورُ حولَهُ حتّىَ الآنَ بينَ مؤيدٍ ومعارضِ منْ أبرزِ السردياتِ التيِ تمَّ توظيفُها لتحقيقِ المصالحِ الإسرائيليةِ على مدارِ تاريخِ الحركةِ الصهيونيةِ على مستوىَ العالمِ حتًىَ قبلَ تأسيسِ إسرائيلَ على الأراضيِ الفلسطينيةِ، خاصةً فيِ ظلِّ امتلاكِ إسرائيلَ كافةَ المواردِ والقدراتِ وخاصةً الإعلاميةَ والترويجيةَ والسياسةَ التي تمكنُها منَ استغلالِ هذاَ المصطلحِ لصالحِ أهدافِها الاستعماريةِ على حسابِ الحقِّ التاريخيِ للفلسطينيينَ، وفي هذاَ الإطارِ يحاولُ هذاَ المقالُ تحليلَ التوظيفِ الإسرائيليِ المستمرِّ لمصطلحِ “معاداةِ الساميةِ” مِنْ خلالِ تعريفِ المصطلحِ وتوضيحِ الفارقِ بينَ “معاداةِ الساميةِ” و”معاداةِ الصهيونيةِ” وقدرةِ الأجهزةِ والساسةِ في إسرائيلَ على استخدامِ كِلاَ المصطلحينِ بشكلٍ تبادليٍ لبناءِ الحالةِ التي يتمُ تناولُها ثمَّ التطرقُ لعرضِ مبرراتِ هذاَ الاستخدامِ.

مَفْهومُ “مُعاداةِ السَّاميةِ”:

إرتبطَ ظهورُ مصطلحِ “معاداةِ الساميةِ” بعددٍ منَ النقاشاتِ التيِ تمتْ في ألمانيَا حولَ إمكانيةِ دمجِ اليهودِ وغيرهِم منَ الأقلياتِ العرقيةِ والدينيةِ في المجتمعِ الألمانِي عامَ  1879م علىَ يدِ الكاتبِ الألمانِي “ويلهيلم مار” وارتبطَ هذاَ المصطلحُ منذُ ظهورهِ وحتىَّ فترةِ ما بينَ الحربينِ بكراهيةِ اليهودِ على وجهِ التحديدِ بالقولِ أو الفعلِ وذلكَ على الرغمِ منْ أنَّ الساميةَ تشملُ أعراقاً عدةً غيرَ اليهودِ بمَا فيهمُ العربُ، لمْ يتوقفْ تطورُ المفهومِ عندَ مجردُ حصرِ الساميينَ في اليهودِ واليهوديةِ فحسبْ بلْ أصبحَ يُناطُ بهِ كلُّ فعلٍ ينتقدُ التوجهَ والسياسةَ الإسرائيليةَ بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ فأصبحَ يشملُ  كلَّ معادٍ للطرحِ الصهيونيِ بإنشاءِ وطنٍ قوميٍ لليهودِ على الأراضيِ الفلسطينيةِ.

وقد اعتمدتْ إسرائيلُ وأنصارُ الحركةِ الصهيونيةِ على وجهِ التحديدِ على نشرِ المصطلحِ بكافةِ الوسائلِ المتاحةِ بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ وعملتْ على الترويجِ لأيِّ حدثٍ خاصةً فيمَا يتعلقُ بالقضيةِ الفلسطينيةِ على أنّهُ “معاداة للسامية” لتبريرِ ردِّ الفعلِ الذيِ يأتيِ دائماً في إِطارٍ مُبَالغٍ فيهِ إلى حدٍّ كبيرٍ، وقدْ عرفَ التحالفُ الدوليُ لإحياءِ ذكرىَ الهولوكوستِ مصْطلحَ “معاداةِ الساميةِ” على أنّهَا نظرةٌ معينةٌ لليهودِ وتتضمنُ  كافةَ المظاهرِ الخطابيةِ والجسديةِ نحوَ اليهودِ وممتلكاتهِم أو مؤسساتِ المجتمعِ اليهوديِ، وقدْ أجبرتْ الضغوطُ الدوليةُ والإقليميةُ التي تمارسهُا إسرائيلُ بدعمٍ أمريكيٍ العديدَ منَ الأطرافِ الدوليةِ دولاًً ومُنظماتٍ على تبنيِ هذا التعريفِ، وأخَذَ هذاَ المصطلحُ يتسعُ بشكلٍ كبيرٍ في إطارِ هذهِ الضغوطِ للحدِّ الذيِ أصبحَ فيهِ هذاَ المصطلحُ مطَّاطاً ويحملُ معنىً غيرَ الذيِ يُطبقُ بهِ في أرضِ الواقعِ، وقدْ استخدمَ الساسةُ في إسرائيلَ هذاَ الخلطَ بشكلٍ متعَمّدٍ لمواجهةِ تناميِ الفكرةِ السلبيةِ التي أصبحَ يحملُها العالمُ عنْ إسرائيلَ ودعمِها الذي بدىَ واضحاً أنهُ ينحسرُ بشكلٍ كبيرٍ حتى في المحافلِ الدوليةِ التي كانتْ بمثابةِ منابرَ داعمةٍ للسياسةِ الإسرائيليةِ خاصةً بعدَ الممارساتِ الإسرائيليةِ الأخيرةِ في قطاعِ غزةَ.

“معاداةُ الساميةُ و”معاداةُ اليهوديةِ”:

وفي ِإطارِ هذاَ الخلطِ الواضحِ والاستخدامِ المخادعِ لمصطلحاتِ وألفاظِ اللغةِ أصبحَ هناكَ عدمُ تميزٍ مُتعَمّدٍ بينَ مصطلحِ “معاداةِ الساميةِ” والعديدِ منَ المصطلحاتِ الأخرى أهمُها وأكثرهُا حساسيةً “معاداةُ اليهوديةِ”، الأمرُ الذيِ جعلَ هناكَ حاجةً مُلحةً لوضعِ أُطرٍ فاصلةٍ بينَ المصطلحينِ، ويتطلبُ التميّزَ بينَ كلاَ المصطلحينِ التميزِ بينَ الصهيونيِ وهوَ الدًَاعمُ للمشروعِ الاستيطانيِ في فلسطينَ وبينَ اليهوديِ المُعْتَنقِ لليهُوديةِ كَديانةٍ ويرىَ أنَّ إقامةَ دولةٍ يهوديةٍ أمرُ خارجٌ عنٍ إطارِ التعاليمِ التي جاءتٍ بها الديانةُ اليهوديةُ، وعليهِ فإنَّ “معاداةَ الساميةَ” هيَ معاداةُ السياسيةِ الإسرائيليةِ في الأرضيِ الفلسطينيةِ ورفضُ الطرحُ الصهيونيِ الاستيطانيِ، بينَما “معاداةُ اليهوديةِ” هيَ معاداةُ اليهوديةِ كديانةٌ، وعليهِ فقدْ ظهرتْ أصواتٌ يهوديةٌ كثيرةٌ تقاومُ هذاَ الخلطَ المتعمّدَ بينَ كلاَ المصطلحينِ أو بمعنىً آخرَ الخلطُ بينَ الصهيونيةِ (التي تعتمدُ إسرائيلَ على ربطِها بمعاداةِ الساميةِ) وبينَ اليهوديةِ؛ وذلكَ للفصلِ بينَ “معاداةِ الساميةِ” التيِ أصبحتْ سلاحاً لغوياً يفضّلهُ الساسةُ في إسرائيلَ لقمعِ الأصواتِ المناهضةِ للانتهاكاتِ اليهوديةِ التي تتمُ ضدَّ الشعبِ الفلسطينيِ، وأكدَّ العديدُ منَ الحاخاماتِ والأكاديميينَ اليهودِ أنَّ “معاداةَ اليهوديةِ” لا تعدُّ “معاداةَ الساميةِ” وأكدُّوا أنَّ تعمّدَ طمسِ الفوارقِ والتميزِ بينَ المصطلحينِ يشوشُ التعريفَ ويصّدرُ صورةً مُشوهةً ومَغلوطةً عنْ اليهودِ، الأمرُ الذي جعلُ هناكَ أصواتاً يهوديةً معاديةً للساميةُ ورافضةً بشكلٍ قطعيٍ التوجهَ الإسرائيليَ المدعومَ دولياً، الأمرُ الذي جعلهَم محلَ انتقادٍ وملاحقةٍ مِنْ قِبلِ أجهزةِ الأمنِ الإسرائيلية وحلفائِها.

وبالرغمِ منَ التعريفِ الذيِ طرحَه التحالفُ الدوليُ لإحياءِ ذكرىَ الهولوكوست غيرِ ملزمٍ قانونياً للدولِ والمؤسساتِ إلاَّ أنَّ إسرائيلَ تنتقدُ وتنددُ بكافةِ الأصواتِ الداعمةِ للحقِّ التاريخيِ الفلسطينيِ في الأرضِ وضدَّ الوضعِ الإنسانيِ الكارثيِ الذي يشهدهُ الفلسطينيونَ ولمٍ يقتصرْ الأمرُ على الأفرادِ سواءٌ مدينينَ أو حقوقيينَ أو أكاديميينَ أو حتّىَ الدولِ فقدْ تصاعدَ إلى أنْ وصلَ إلى إدانةِ ممثلِ إسرائيلَ في الأممِ المتحدةِ الأمينِ العامِ للمنظمةِ “أنطونيو جوتيرش”  بمعاداةِ الساميةِ وحظرتْ منعَ تأشيراتِ دخولٍ لموظفيِ الأممِ المتحدةِ.

أَهْدافُ الدبلوماسيةِ الإسرائيليةُ في توظيفِ مصطلحِ “معاداةِ الساميةِ”

ويعتبرُ الاهتمامُ الذي توليهِ إسرائيلُ وأجهزتُها لاتخاذِ “معاداةِ الساميةِ” كدرعٍ وغطاءٍ لممارساتِها الخارقةِ في فلسطينَ في سبيلِ تحقيقِ عددٍ منَ الأهدافِ التاريخيةِ التي وضعتْها الأجندةُ الصهيونيةُ وفي مقدمتها تشجيع الهجرة اليهودية لإسرائيلَ، وفي هذا الإطارِ عملتْ إسرائيلُ على استغلالِ الحوادثِ التي تتمُ ضدَّ يهودِ أوروبا على وجهِ التحديدِ للترويجِ لفكرةِ أن إسرائيلَ هي الوطنُ والملاذُ الوحيدُ الآمنُ لليهودِ وفي بعضِ الأحيانِ عملتْ على افتعالِ حوادث ضدَّ اليهودِ لإثارةِ شعورِ الخوفِ والرهبةِ في نفوسهِم لتشجيعِ هجراتِهم لفلسطينَ على أنهَا ملتقىَ يهودِ العالمِ ، وكذلكَ عملتْ الحركةُ الصهيونيةُ لتوظيفِ كافةِ أدواتهِا الإعلاميةِ للترويجِ لهذهِ الحوادثِ خاصةً في المجتمعاتِ التي تقتصُ حكوماتٌ جزءٌ من ضرائبِها لصالحِ إسرائيلَ، وبالتاليِ استخدامُها كأداةٍ للردِ على الانتقاداتِ التِي تقدمُ ضدَّ إسرائيلَ في إطارِ المجتمعِ المحليِ والدوليِ على حدٍ سواءٍ.

كما تعملُ إسرائيلُ على توظيفِ هذا المصطلحِ لتعزيزِ الحسِّ القوميِّ لليهودِ والعملِ على إيجادِ مظلةٍ تجمعُ كافةَ أنصارِ الصهيونيةِ بغضِ النظرِ عن مدى درجةِ تدينهِم خاصةً وأنَّ “معاداةَ الساميةِ” لهُ صدىً أكبرَ منْ “معاداةِ اليهوديةِ”، وبالرغمِ من ذلكَ فإن إسرائيلَ توظفُ المصطلحينِ وتحاولُ الاستفادةَ منهمُ، فتعملُ على استخدامِ “معاداةِ الساميةِ” معَ المجتمعاتِ ذاتِ التوجهِ العرقيِ  ومصطلحِ “معاداةِ اليهوديةِ” في المجتمعاتِ ذاتِ الحسِ الدينيِ العاليِ وبالتاليِ الوصولِ لكافةِ الفئاتِ والطوائفِ والحصولِ على دعمِها بشكلٍ مطلقٍ مادياً ومعنوياً.

وختامًا:

فإنَّ إسرائيلَ تعملُ بشكلٍ كبيرٍ على توظيفِ كافةِ المواردِ المتاحةِ لديَها للضغطِ على العالمِ لتقبلِ مشروعِها الاستيطانيِ في فلسطين وتعتبرُ الأدلةَ والسردياتِ التاريخيةَ _حتى وإنْ كانتْ مغلوطة_ من أهمِّ هذه المواردِ التي تحاولُ الدبلوماسيةُ الإسرائيليةُ على الاستفادةِ منها بأفضلِ شكلٍ ممكنٍ في تحقيقِ المصالحِ الجوهريةِ لإسرائيلَ والحفاظِ على بقائِها في منطقةٍ محفوفةٍ بالمخاطرِ والتحدياتِ والردِ على كافةِ الانتقاداتِ التي توجهُ لهَا في مختلفِ المحافلِ دولياً وإقليمياً ومحلياً، وفي سبيلِ ذلكَ تعملُ على الضغطِ على الدولِ والهيئاتِ المختلفةِ لتبنّيِ المفهومِ المغلوطِ عنْ “معاداةِ الساميةِ” في إطاِر حملتهِا لتوسيعِ إطارِ هذا المفهومِ ليشملَ المقاومةَ الفلسطينيةَ أو أيَّ شكلٍ منْ أشكالِ الدعمِ الذي يتلاقاهُ الفلسطينيونَ، والردِ على أيِّ انتقاداتِ لسياساتِ إسرائيلَ العنصريةِ تجاهَ الفلسطينيينَ، كَما نجحتْ السياسيةُ الإسرائيليةُ في الاستخدامِ المتبادلِ لكلِ منْ “معاداةِ اليهوديةِ” التي تدلُ على التأصيلِ الدينيِ و “معاداةِ الساميةِ” التي تدلُ على التأصيلِ العرقيِ بشكلٍ متبادلٍ الأمرُ الذي يجعلهمُا وجهانِ لعملةٍ واحدةٍ هي إنشاءُ دولةٍ يهوديةٍ في فلسطينَ دونَ وجودِ أيِّ شكلٍ منْ أشكالِ المعارضةِ أو النقدِ، لكنْ بشكلٍ عامٍ  يمكنُنا القولُ أنَّ إسرائيلَ تستخدمُ هذا المصطلحَ كوسيلةٍ للدفاعِ عن نفسِها وتبريرِ سياستِها ضد الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمنتقدينَ الدوليينَ، وأنَّ توظيفَها لهذا المصطلحِ وغيرِه منَ السردياتِ الزائفةِ والمغلوطةِ هو أمرٌ ذوُ جذورٍ تاريخيةٍ تحاولُ التلاعبَ بالمشاعرِ القوميةِ لليهودِ خاصةَ في ظلِّ المعاناةِ التي عاصرُوها في المجتمعاتِ الأوروبيةِ ويتعلقُ بالتاريخِ والسياسةِ والأيديولوجيةِ والهويةِ اليهوديةِ وتوظيفِيها بشكلٍ مزدوجٍ لخدمةِ الأهدافِ الصهيونيةِ.

قائمة المراجع

الجزيرة، غارديان: إدانة منتقدي إسرائيل باعتبارهم معادين للسامية تحريف للتاريخ (2024)، متوفر على: https://www.ajnet.me

سبيتي، فيديل، حرب غزة تدحرج كرتي “معاداة السامية” و “الإسلاميوفوبيا” حول العالم، إندبندنت عربية (2023)، متوفر على:  https://www.independentarabia.com

عبد الحي، وليد، استراتيجية التوظيف الإسرائيلي ل”معاداة السامية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات (2021) متوفر على: https://www.alzaytouna.net

الهنيدي، سحر، حماد، إيزابيلا، توظيف اللغة في حرب المصطلحات الإسرائيلية على فلسطينيين، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية، (2024)، ص 5، متوفر على: file:///C:/Users/UG/Downloads

يونغ، مايكل، استخدام تهمة معاداة السامية كسلاح، مركز مالكوم كير_ كارينغي للشرق الأوسط (2023)، متوفر على: https://carnegie-mec.org

كلمات مفتاحية