دراسة حول الجذور التاريخية للغزو: أوكرانيا منطقة الصراع الجيوسياسي بين “التخوُّف الروسي وتمدُّد المعسكر الغربي”

إعداد: بسمة أنور     

منذ تفكُّك الاتحاد السوفيتي 1991م، تمكَّنت أوكرانيا من الحصول على استقلالها، وأصبحت دولةً مُوحَّدةً، تتألف من 24 أبلاست (محافظة) وعاصمتها “كييف”، بالإضافة إلى “جمهورية القرم” ذاتية الحكم، ومدينتين ذواتيْ حُكْمٍ مركزيٍّ خاصٍّ “سيفوستوبول، وسيفاستوبول”؛ حيث تقع في أوروبا الشرقية، تحدُّها روسيا من الشرق، بيلاروسيا من الشمال، “بولندا، وسلوفاكيا، والمجر” من الغرب، “رومانيا، ومولدوفا” من الجنوب الغربي، و “البحر الأسود، وبحر آزوف” من الجنوب، ولكن منذ ذلك التاريخ الاستقلالي، لم تهْنَأْ العلاقة بين أوكرانيا وجارتها روسيا بأي شيءٍ من الاستقرار، بل عاشت حالةً من التذبذُب، ويرجع أسباب هذا التوتُّر المتصاعد إلى خوْف “موسكو” من موالاة “كييف” للمعسكر الغربي، الذي يشمل “الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو”، والذي تعتبره تهديدًا بالغ الخطورة على أمنها القومي من الجهة الغربية.

في هذا الإطار، تستعرض هذه الدراسة الجذور التاريخية لنشْأة الأزمة الأوكرانية، التي أحدثت حربًا فعليّةً في قلب القارة الأوروبية، التي تنْعمُ بالأمن والاستقرار، فقد وقَعَتْ قَدَمُ روسيا في مستنقع أفغانستان جديدٍ بأوروبا، وسوف نستعرض مراحل تطوُّر الصراع والركائز الأساسية التي أجَّجت منطقة الحدود الأوكرانية، ووضعتها على صفيحٍ ساخنٍ، أشعل فتيل الحرب بين «موسكو، وكييف»؛ بالتركيز على أبرز المراحل التاريخية التي قذفت الأوضاع نحو التصعيد، هذا إلى جانب الأطراف الدولية التي انتزعت “الولاء الأوكراني” لروسيا، ووضعته في جُعْبَتِها؛ ما نتج عنه تفاقُم الأوضاع، واشتداد العداء بين طرفيْ الصراع- روسيا، وأوكرانيا- إضافةً إلى تشبُّث “كييف” بحلم الانضمام لحلف الناتو ، وزيادة تعنُّت الدُّب الرُّوسي وممارسته سياسة الوصاية على جارته الشرقية.

خلفية الصراع:

بدأت القوة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، في محاولة فكِّ الارتباط بين روسيا وأوكرانيا، عَبْر إجراء عدة محاولات لضمِّ أوكرانيا إلى “الاتحاد الأوروبي”، عقب الثورة الأوكرانية الثانية 2014، وفي مطلع شهر مارس، من ذات العام، اندلعت مظاهرات من قِبَلِ الجماعات الموالية لروسيا، والمناهضة للحكومة الأوكرانية في “دونباس”، وتصاعدت الاحتجاجات المؤيدة لروسيا في جنوب شرق أوكرانيا، و تفاقمت الأوضاع إلى نزاعٍ مسلحٍ بين [القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في جمهوريتيْ “دونيتسك ولوجانسك” الشعبيتيْن، وقوات الحكومة الأوكرانية]، هذا إلى جانب تبلور العلاقات بين “الاتحاد الأوروبي، وأوكرانيا”، منذ عام 2012، من خلال “اتفاقية الشراكة” بينهما، وذلك في فترة رئاسة “فيكتور يانوكوفيتش”، الموالي للجانب الرُّوسي، وقد حضر قمة الاتحاد الأوروبي، في “فيلنيوس”، في 28 و 29 نوفمبر 2013، ولكنه لم يُوقِّع الاتفاقية؛ ما أدَّى إلى ظهور حركة “يوروميدان”، المناصرة للاتحاد الأوروبي، والذي أدَّت بدوْرها إلى الإطاحة بنظام “ياموكوفيتش” من قِبَلِ البرلمان، بعد اندلاع الثورة الأوكرانية، في فبراير 2014، وعملت “كييف” جاهدةً للاندماج في الاتحاد الأوروبي، لكن عارضها مؤيدو موسكو في الجزء الشرقي من البلاد.

على الرغم من ذلك، تمَّ توقيع الجزء السياسي من “اتفاقية الشراكة”، في 21 مارس 2014، من قِبَلِ رئيس وزراء أوكرانيا الجديد “أرسينس ياتسينيوك”، وفي الوقت نفسه، حاول الاتحاد الأوروبي تحقيق الاستقرار في أوكرانيا، وتقديم المساعدات المالية لها، وفي وقتٍ لاحقٍ، تمَّ توقيع الجزء الاقتصادي من اتفاقية الشراكة في 27 يونيو 2014، من قِبَلِ الرئيس الأوكراني الجديد، وفي 1 يناير/ كانون الثاني 2016، انضمت أوكرانيا إلى “اتفاقية التجارة الحرة” الأوروبية مع الاتحاد الأوروبي، ومُنِحَ المواطنون الأوكرانيون إمكانية السفر دون تأشيرةٍ إلى منطقة “للشنغن”، في 11 يونيو 2017، ودخلت اتفاقية الشراكة حيِّز التنفيذ رسميًّا، في 1 سبتمبر 2017.

وفي المقابل، أصبحت أوكرانيا عقب سقوط الاتحاد السوفيتي مِحْوَرَ الصراع الجيوسياسي بين “الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا”، فقد ذكر “زبيغنيو ببريجنسكي”، مستشار الأمن الأمريكي الأسبق، في كتابه [رقعة الشطرنج الكبرى]، “أن هيمنة روسيا على أوكرانيا كفيلةٌ بعودة الاتحاد السوفيتي من جديد؛ لذلك كانت أوكرانيا ساحةً للصراعات والانقسامات والثورات، منذ عام 2004″، هذا إلى جانب سعْي أعضاء حلف الناتو، وفي مقدمتهم، الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاربة أيِّ فكرةٍ تساعد على إحياء الكيان السوفيتي المتفكك من جديد؛ لذا فإن حلف الناتو يعمل على منْع «موسكو» من محاولات الاقتراب من «كييف»، بل يُمهِّدُ للأخيرة الطريق للانضمام تحت لوائه.

إضافةً لذلك، فقد زعزع الكيان الرُّوسي تطوُّر العلاقات بين “أمريكا، والدول الأوروبية، وأوكرانيا”، في ظروفٍ متوترة، سُمِّيَتْ [بالحرب الباردة الجديدة] بين “روسيا، والمعسكر الغربي”، خاصةً بعد خروج «كييف» من [كومنولوث الدول المستقلة CIS]، التي سبق وأسَّسها طرفا الصراع «موسكو، وكييف»، بالإضافة إلى بيلاروسيا “روسيا البيضاء”، 8 ديسمبر1991؛ حيث اجتمعت الدول الثلاث، وتمَّ توقيع اتفاق إنشاء منظمة إقليمية “أورو – آسيوية” تكون بديلًا عن الاتحاد السوفيتي، ومقرّها في “مينسك”، عاصمة روسيا البيضاء، وتهدف لتنظيم العلاقات وتطوير التعاون بين عددٍ من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، ومن ثمَّ انضم إلى المنظمة عددٌ من الدول الآسيوية والقوقاز، وهم: (مولدافيا، وجورجيا، وأرمينا، وأذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وكازكستان، وطاجكستان، وقرغيرنا)، وقامت المنظمة بتوسُّع أنشطتها؛ لتشمل مجالات متعددة، منها: «التجارة، والتمويل، وسن القوانين، والأمن»، كما تعزّز التعاون في مجال «الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب»، وتشارك منظمة رابطة الدول المستقلة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

وتعود بوادر الأزمة منذ مغادرة أوكرانيا رابطة الاتحاد الروسي؛ ما أدَّى إلى ارتفاع منسوب التوتُّر الروسي، خاصةً بعد سعْي أوكرانيا جاهدةً للانضمام إلى حلف الناتو؛ ما أصاب «موسكو» بحالةٍ من القلق وعدم الارتياح؛ حيث تعتبر الوضْع السياسي الأوكراني، هو صميم أمنها القومي، وانضمام «كييف» للمعسكر الغربي بمثابة تهديدٍ بالغ الخطورة من الجهة الغربية، قد يعْصِفُ بها، فبديهية الأمر، أن نتيجة ذلك الانضمام؛ سيجعل من «كييف» عضوًا في “اتفاقية الدفاع المشترك الأوروبي”؛ ما يعني تواجُد قوات حلف الناتو وقوات أوروبية على الحدود الروسية، وهو ما لا تتقبله روسيا بأيِّ شكلٍ كان؛ حيث ترى أن الحدود الأوكرانية معها بمثابة “أداة ضغط” يُلِّوح بها المعسكر الغربي في مواجهته؛ لذا فإن روسيا لم تمنح أوكرانيا استقلاليةً مطلقةً، ولن تُفْلِتَها من قبضتها لتنضم إلى الجانب المعادي لها، هذا إلى جانب عدة تحديات أُخرى، ما زالت عالقةً بين دولتيْ “روسيا، وأوكرانيا”، أدَّت إلى ارتفاع درجات التصعيد، واستعصاء الحل السياسي لها؛ سوف نستعرضها في السطور التالية:

أسطول البحر الأسود والترسانة النووية:

تدهورت الأهمية العسكرية لأسطول الاتحاد السوفيتي بعد انهياره؛ بسبب «انخفاض التمويل، وتراجُع أهميته الرئيسية»؛ ومن ثمَّ جرى تقسيم الممتلكات العسكرية بالجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، في النصف الأول من التسعينيات، وفي معظم الحالات، جرى التقسيم بشكلٍ أكثر مرونةً؛ حيث وافقت أغلب الجمهوريات السوفيتية السابقة على مقترحات موسكو، التي احتفظت بعد عام 1991م، بالسيطرة على أكبر مستودعات المعدات والذخيرة العسكرية، إلَّا أن أغلب المرافق الساحلية التابعة للأسطول والأسلحة، كانت تحت الولاية القضائية الأوكرانية؛ لذا أمرت الحكومة الأوكرانية بتأسيس البحرية الأوكرانية الخاصة بها، ووفقًا لذلك، تمَّ نقْل أسطول البحر الأسود السوفيتي السابق تحت ولايتها، وأعلنتها منطقةً خاضعةً لها، في 5 نيسان/ أبريل 1992.

وكان هذا بمثابة اعتداءٍ صارخٍ من قِبَلِ “كييف”، على أسطول البحر الأسود بأكمله؛ نظرًا لأنه في ذلك الوقت، كان جزءًا من القوات المسلحة المتحدة لـ[كومنولث الدول المستقلة]؛ ما أثار غضب «موسكو»، ودفع رئيس الاتحاد الرُّوسي “بوريس يلتسين”، إلى إصداره مرسومًا مضادًا له، في 7 أبريل1992، ينُصُّ على وضْع أسطول البحر الأسود تحت ولاية روسيا، وقد اقترح «الكرملين» حلّ الأزمة، من خلال المفاوضات، والتي تمَّ خلالها تعليق كلا المرسوميْن، واستمر الطرفان باللجوء للمفاوضات إلى أن تمَّ توقيع اتفاقية [سوتشي] لتقاسُم أسطول البحر الأسود بين أوكرانيا وروسيا؛ حيث كانت مسألة وجود أسطول البحر الأسود الرُّوسي في [سيفوستوبول]، واحدةً من التحديات الأكثر حِدَّةً في العلاقات بين “موسكو وكييف”، إلَّا أن القضايا المتعلقة بـ«الملكية، والبنية التحتية لأسطول البحر الأسود» أثارت عدة أزمات حادة جديدة بيْن الطرفيْن، ولم ترغبْ «موسكو» في خسارة النقاط الأساسية في «شبه جزيرة القرم»، والتي كانت تخضع للسيادة الأوكرانية؛ حيث سعت الأخيرة إلى إعادة تعيين «البنية التحتية، والممتلكات الكاملة» لأسطول البحر الأسود، واتخذت خطوات جادة وصارمة في هذا الاتجاه.

تقسيم الممتلكات الموروثة عن الاتحاد السوفيتي:

واستكمالًا لتلك المشهدية، بعد فترات من الشَّدِّ والجذْبِ في تقسيم الممتلكات بين البلديْن، واعتداءات كُلٍّ منهما على ممتلكات الآخر، اجتمع رأْيُ الطرفيْن على عدة اتفاقيات، من بينها: تراجُع روسيا عن “شرط الاعتراف” بـ«سيفوستوبول» كقاعدةٍ رئيسيةٍ لأسطول البحر الأسود، ومغادرة المقر الرئيسي لها، كتنازلاتٍ تُقدِّمُها روسيا لـ«كييف»، وتمَّ بالفعل في حزيران / يونيو 1995، مقابل الحصول على 81.7 % من السفن؛ ما مهَّدَ سُبُل بناء الثقة وتوافقت «موسكو، وكييف» على تقسيم القواعد فيما بينهما، ولحق هذا اتفاقيات حكومية دولية عدة، عزَّزت الاتفاقيات السابقة بين الطرفيْن، وبناءً عليه؛ حصلت روسيا على ما يقْرُب من 400 سفينةٍ مختلفةٍ و161 طائرةً، وتمكَّنت روسيا من استخدام ثلاثة مراكز للسفن في «سيفوستوبول، وفيودوسيا، ونيكولايف» مؤقتًا، وكان الطيران البحري لأسطول البحر الأسود يستخدم اثنين من مطارات «القرم»، وحدَّدت أوكرانيا عدد الأسلحة وقوات البحرية الروسية التى يُمكنها التواجُد على أراضيها؛ بحيث لا تتجاوز 25 ألف شخص، وفى المقابل، تعهَّدت روسيا باستئجار البنية التحتية بمبلغ 98 مليون دولار، وانتهت مدة الإقامة الروسية بـ«شبه جزيرة القرم»، فى 82/ آيارمايو 2017، وكان الرئيس المخلوع “فيكتور يانوكوفيتش” فى عام 2010، يعتزم تمديد عقد الإيجار لروسيا حتى 2042؛ ما أثار غضب المعارضة الأوكرانية بذلك القرار، وجعله ينتفض بشدة.

في ملمحٍ متصلٍ، تمَّ خلال الحرب الباردة، بناء ترسانة نووية على الأراضي الأوكرانية؛ حيث امتلكت الأخيرة أقوى ثالث قوةٍ نوويةٍ في العالم آنذاك، ولذا كانت تعد ساحة نووية سوفيتية على أراضيها، وهذه الأسلحة أيضًا تُعدُّ جُزْءًا من الترسانة النووية الروسية، الواقعة على الأراضي الأوكرانية، وعقب استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، ورِثَتْ “كييف” تلك الترسانة النووية الهائلة، التي تُقدَّر بحواليْ 176 صاروخًا عابرًا للقارات، وأكثر من2500 صاروخٍ تكتيكيٍّ.

تنازُل أوكرانيا عن ميراثها الاتحادي مقابل ضمان وحدة أراضيها:

واستطرادًا، كان البرلمان الأوكراني يأمل في 1990، أن تصبح أوكرانيا دولةً غير نوويةٍ؛ لذا تبنَّى منذ ذلك العام “سياسة غير نووية”، بأن تصبح الدولة المستقلة الجديدة خاليةً من السلاح النووي، ولكن رئيس الوزراء الأوكراني “ليونيد كوتشما”، في ذلك الوقت، والذي أصبح رئيسًا للبلاد فيما بعد، أعلن بعد عامٍ من الاستقلال عن رفضه بالتخلِّي عن السلاح النووي بشكلٍ كُليٍّ، وأنه ليس من مصلحة البلاد أخْذ هذه الخطوة، ويجب على أوكرانيا، الاحتفاظ بجُزْءٍ من ترسانات الأسلحة النووية، ولكنه لم ينجح في إقناع البرلمان الأوكراني، الذي صوَّت في 1994، على أن تصبح أوكرانيا بلدًا خاليًا تمامًا من الأسلحة النووية، وفي ذلك العام، وقَّعت أوكرانيا على [مذكرة بودابست الدولية]، التي تضم “روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا”، والتي وافقت “كييف” من خلالها، على تفكيك مخزونها من الأسلحة النووية، فقد شكَّلت قضية الأسلحة النووية على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق، عقب تفكُّكه، تحدِّيًا مُلِحًّا على خلفية الانهيار الاقتصادي، واندلاع الصراعات الإقليمية في المنطقة، فقد سبقت أوكرانيا عدة دول سوفيتية، قد تخلَّت خلال مرحلة تفكُّك الاتحاد عن ترسانتها النووية، ونقل روؤسها النووية إلى روسيا، بموجب الانضمام إلى معاهدة “حظْر انتشار الأسلحة النووية”، إلَّا أن أوكرانيا كان لها موقف مغاير؛ حيث طالبت بعدة ضمانات لتأمين سيادتها، وضمان وحدة أراضيها.

لذا جاءت النقاط الرئيسية لـ[مذكرة بودابست] تُقدِّمُ الضمانات والالتزامات الدولية، بعدم المساس بوحدة الأراضي الأوكرانية، وفي المقابل، ألزمها بإزالة جميع الأسلحة النووية من أراضيها في الوقت المحدد، وتعهَّد كُلٌّ من “الاتحاد الروسي والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة”، بما يلي:

  • احترام سيادة أوكرانيا وحدودها واستقلالها، وفقًا للوثيقة الختامية لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
  • لا تستخدم أي أسلحة ضد الاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية لأوكرانيا، إلَّا للدفاع عن النفس، وفي حالاتٍ أُخرى، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة.
  • الامتناع عن الإكراه الاقتصادي، الذي يهدف إلى إخضاع ممارسة أوكرانيا للحقوق المتأصلة في سيادتها لمصالحها الخاصة، وبالتالي، تأمين أي مزايا لنفسها.
  • مطالبة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، باتخاذ إجراءٍ فوريٍّ إذا أصبحت أوكرانيا باعتبارها طرفًا في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية- هدفًا مهددًا، أو ضحيّة عدوان باستخدام الأسلحة النووية.
  • لا تستخدم الأسلحة النووية ضد أوكرانيا، باستثناء حالات هجومٍ من هذا البلد على الدول المرتبطة بالمذكرة وأراضيها وحلفائها.
  • تقديم المشورة إذا نشأت نزاعات بشأن الالتزامات المذكورة أعلاه.

وضْع «شبه جزيرة القرم» تحت السيادة الروسية:

تقع «شبه جزيرة القرم» على جنوبيْ أوكرانيا، وتمتد بين [البحر الأسود، وبحر أزوف]، ويفصلها عن روسيا من الشرق، مضيق كيرتش، الذي يحظى بأهميةٍ كُبْرى؛ لأنه الرابط الوحيد بين البحريْن، وعبرها فقط، يمكن الوصول إلى الميناءيْن الأوكرانييْن المهميْن، وهما: [ماريوبول، وبيرديانسك]، ويعتبر الطريق البحري ذا أهميةٍ قُصْوى بالنسبة إلى “ماريوبول” في الشرق الأوكراني، بمصنعيه لإنتاج المعادن، وقد جعلت أوكرانيا المستقلة  حديثًا وضْع “جمهورية القرم” محتفظًا بحكمه الذاتي، في حين أكَّد «مجلس القرم الأعلى» على سيادة «القرم» كجزءٍ من أوكرانيا، وحدَّتْ السلطات الأوكرانية من استقلال «القرم»، في عام 1995، فقد نصَّ الدستور الأوكراني، الذي قُنِّنَ في 1996، على أن «القرم» لها وضْع الجمهورية ذاتي الحكم، ولكن اشترطت أن القوانين التي تُسَنُّ في «جمهورية القرم» يلزم أن تتماشى مع القوانين الأوكرانية، وألَّا تخالفها، وجعلت لها حكومةً وبرلمانًا خاصَّيْن بها، يستطيعان إدارة شؤونها الداخلية.

1- توتُّر الداخل الأوكراني:

وفي سياقٍ موازٍ، شهدت الأوضاع الداخلية الأوكرانية عقب استقلالها- فترةً من الصراع السياسي؛ ذلك بسعي سياسيين رُوس في «القرم»، إلى توطيد علاقة «شبه جزيرة القرم» مع روسيا، وإلى تثبيت سيادتها، من خلال عدة خطوات، اعتبرتها الحكومة الأوكرانية مخالفة للدستور الأوكراني، وصاحب ذلك، قيام روسيا منْح جوازات سفرٍ روسيةٍ لمواطني «القرم»، فقد اتهم وزير الشؤون الخارجية الأوكراني “فولوديمير أوريزكو”، «موسكو»، بالتدخُّل في شؤونها، ووصفها “بالمشكلة الفعليّة”؛ نظرًا لإعلان روسيا التدخُّل العسكري خارج أراضيها؛ من أجل حماية المواطنين الرُّوس؛ حيث كان يُشكِّل الرُوس الأصليون الغالبية العظمى من سُكَّان «القرم»، بينما يشكل أوكرانيو وتتار الأصل الأقلية منها، وبالتالي، فإنها تضُمُّ ديمغرافيًّا إحدى أكبر فئات السكان ذوي الأصول الرُّوسية في أوكرانيا، ولكن أخفقت الأخيرة كُلَّ محاولات الاتحاد الروسي التدخُّل في سيادتها، وجعلت «القرم» ذات سيادةٍ محدودةٍ.

2-  حُجج الغزو الرُّوسي للقرم:

إيضاحًا لذلك، اتخذت روسيا عدة حُجج للتدخُّل في الشأن الأوكراني، وأهمها: ذريعة تأمين حدودها الغربية؛ تأهبًا لأيِّ خطرٍ يُحدِثُه المعسكر الغربي، قد يمسُّ النطاق الرُّوسي سيادةً وإقليمُا؛ حيث تُشكِّلُ “كييف” مصدرًا لخطرٍ أيديولوجيٍّ محتملٍ على أمنها القومي، خاصةً بعد إبداء أوكرانيا ولاءها إلى المعسكر الغربي علنًا، ونظرًا للاشتراك الجغرافي بيْن «موسكو، وكييف»، فلأوكرانيا أهميةٌ كُبْرى بالنسبة لها، لا تستطيع  غضّ الطرف عنها، فسياسيًّا واقتصاديًّا: أوكرانيا جارة رئيسية بالنسبة لروسيا، تتمتع بثروات وإمكانيات عسكرية وصناعية وزراعية ضخمة، وتاريخيًّا: هي مهْد حضارة “مملكة كييف روس” وبحسب مؤرخين، اشتقّت روسيا وبيلاروسيا اسمها من “رُوس” في اسم المملكة، التي كانت «كييف» عاصمة حكمها، ولهذا تسمى بـ”أم المدن الرُّوسية”، توجد “البوابة الذهبية” لمملكة “كييف رُوس” حتى اليوم، و”قوس الصداقة بيْن الشعوب”، هذا إلى جانب العِرْق السُّلافي، المنتشر بيْن (أوكرانيا، وروسيا، وبيلاروسيا)، وجغرافيًّا: تحدُّها شرقًا، وتصل بينها وبين معسكر القوى الغربية، واجتماعيًّا: يربط بينهما علاقات كثيرة، خاصةً في المناطق الحدودية، كُلُّ هذه الأمور تجعل من أوكرانيا ورقة ضغطٍ تهدد “عرين الدُّب الرُّوسي” يمكن أن يمتلكها المعسكر الغربي إذا تمكَّن من ضمِّ أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي؛ لذا ترفض «موسكو» التخلِّي عنها، وتأبى أن تتحول «كييف» إلى تبعية وموالاة منافسيها بالمعسكر الغربي.

3- بداية التصعيد الروسي:

بناءً على ما سبق, فقد اشتعلت شرارة الأزمة منذ بداية مفاوضات “كييف” مع الاتحاد الأوروبى، للانضمام للكتلة التى تضمُّ 27 دولةً فى القارة الأوروبية, وهذا من شأنه، سيجعلها  عضوًا فى [اتفاقية الدفاع المشترك الأوروبي]؛ ما يعني تواجُد قوات حلف شمال الأطلسي وقوات أوروبية على الحدود الروسية؛ ونتيجةً لذلك، رأت «موسكو» أن هذا بمثابة تهديدٍ فعليٍّ مباشرٍ لأمنها واستقرارها؛ لذا تدخلت  فى سيادة «كييف» بشكلٍ سافرٍ، ورفضت عضويتها في أيِّ تكتُّلٍ غربيٍّ، خاصةً حلف الناتو، وهو الذي لاتقبل به مطلقًا, ولهذا كثَّفت جهودها؛ بهدف عرقلة مساعي أوكرانيا فى ذلك الاتجاه، والإبقاء عليها منطقةً رماديةً  فاصلةً مع القوى الغربية، بعد أن بات خيار عودة الولاء الأوكراني لها مُسْتَبْعَدًا؛ ما جعل «كييف» ساحة حرب غير معلنة بين “روسيا، والغرب”, ولا تزال في مرحلة الجمود, إلَّا أن روسيا بين الحين والآخر، تُحرِّك مؤشرات البدْء بحربٍ وشيكةٍ قد تؤدي إلى  تصدُّعٍ هائلٍ، يَطَالُ المنطقة الأوروبية بأكملها.

هذه الأسباب هي التي اتخذتها «موسكو» مبررًا؛ لتتمكن من احتلال «شبه جزيرة القرم» صاحبة الحكم الذاتي، وضمتها إليها, فقد اقتنصت فرصة قيام ثورة 2014 بأوكرانيا، وعدم استقرار أوضاعها الداخلية؛ حيث شهدت العاصمة الأوكرانية فى تلك الفترة احتجاجات واسعة النطاق, إلى جانب مواجهات بين “حركات انفصالية موالية، مدعومة من قِبَلِ «موسكو، والقوات النظامية الأوكرانية»”، وفرَّ هاربًا على إثْرها، الرئيس الأوكرانى السابق “فيكتور يانوكوفيتش”، في فبراير 2014, وبعد أيامٍ من هروب “يانوكيتش”, سيطر رجالٌ مسلحون معارضون لحركة “الميدان الأوروبي” على «شبه جزيرة  القرم», وتمَّ احتلال «البرلمان القرمي» من قِبَلِ قوات مجهولة الهوية, والتي يُعتقد أنها قوات خاصة روسية، وعقبها، أعلنت «القرم» أنها ستُجري استفتاءً على الانفصال عن أوكرانيا, وأعقب هذا الاستفتاء المثير للجدل، إعلان الاتحاد الرُّوسي فى منتصف آذار/ مارس، من ذات العام، ضم “شبه جزيرة القرم” إليها؛ تلبيةً لنتيجة الاستفتاء الشعبي, ومنذ ذلك الوقت، كثَّفت الحكومة الروسية حشودها العسكرية فى المنطقة الحدوية, وبهذا الفعل الغير مشروع دوليًّا، اخترقت روسيا المعاهدات والاتفاقيات مع أوكرانيا, خاصةً “مذكرة بودابست”، التي تمَّ توقيعها من قِبَلِ الطرفيْن، وضُرِبَ بها عرْض الحائط, وافتأتت على أوكرانيا باحتلالها «شبه جزيرة القرم» وضمها إليها بشكلٍ غير قانونيٍّ,  فقد كانت هذه علامة فارقة، وبداية لحرب غير معلنة.

تعنُّت الدُّب الرُّوسي وتراشُق الاتهامات بين طرفيْ الصراع:

أ. الموقف الرُّوسي: تتملص روسيا من جميع التُّهم التي تلاحقها، حول انتهاكها للاتفاقيات الدولية مع أوكرانيا، خاصةً [مذكرة بودابست] 1994، وتتخذ استفتاء «القرم» ذريعةً لهذا الضمِّ العدواني، وتبرِّر ذلك، بأنها تعتبر أوكرانيا بعد ثورتها الثانية 2014، دولةً حديثة النشأة؛ لذا فإن “مذكرة بودابست” لا يمكن تطبيقها؛ لأن روسيا لم تُوقِّع على أيِّ وثيقةٍ ملزمةٍ تجاه هذه الدولة الجديدة، وبالتالي، لا تنطبق عليها “مذكرة بودابست” لعام 1994، ولا على الظروف الحديثة التي نشأت نتيجةً لهذه الثورة الجديدة، وأوضحت موقفها تجاه المذكرة، بأن «موسكو» ترى أن مفهوم هذه الوثيقة هو التزامها بعدم التهديد النووي، وعدم استخدامه ضد الدول غير النووية، وأنها بذلك تفي بشروط المذكرة، ولم تنتهك أيًّا منها، كما ترى أن الاستفتاء العام الذي جرى في «القرم» هو استفتاءٌ شرعيٌّ، ولم يتناقض مع القوانين الأوكرانية والدولية؛ حيث أصبح كلُّ من «شبه جزيرة القرم، ومدينة سيفاستوبول» تابعًا لروسيا، بموجب استفتاء مارس 2014، الذي أيَّده 96.77 من ناخبي «القرم»، 95.6 من ناخبي مدينة «سيفاستوبول»، كما صوَّت أعضاء «برلمان القرم»، في 6 مارس، على تأييد الانفصال عن أوكرانيا، والانضمام إلى روسيا الاتحادية، ووافقت روسيا على مشروع الضمِّ، بالإضافة إلى تأكيد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتن”، أن مسألة «القرم»، “أُغلقت بشكلٍ نهائيٍّ”.

ب. المواجهة الأوكرانية: بينما ترى الحكومة الأوكرانية أن الاستفتاء الذي أجرته السلطات القرمية غير دستوريٍّ وغير شرعيٍّ، للانفصال عنها والانضمام للاتحاد الروسي، وهذا انتهاكٌ لتشريعاتها الداخلية ولسيادتها، ومخالفٌ أيضًا لقواعد القانون الدولي المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة؛ لأنها جُزْءٌ من الأراضي الأوكرانية، وقد أعلن «البرلمان الأوكراني»، أن «شبه جزيرة القرم» هي أرض محتلة مؤقتًا من قِبَلِ روسيا، وهذا ما ذكره القائم بأعمال وزير خارجية أوكرانيا “أتدري ديشيتسا”، فى27 مارس 2014، خلال خطابٍ ألقاه في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكَّد على أن الاستفتاء الذي عُقد في «شبه جزيرة القرم» باطلٌ، وطلب “ديشيتسا” من الجمعية العامة، دعْم قرارٍ بشأن السلامة الإقليمية لأوكرانيا، ندَّدت به «كييف، والغربيون»، باعتباره غير شرعيٍّ.

ختامًا:

على مدار السنوات القليلة الماضية، تأزَّمت الأوضاع في الشرق الأوكراني، بيْن “الانفصاليين الأوكرانيين، والقوات الحكومية الأوكرانية”؛ حيث شهدت المنطقة الحدودية الأوكرانية في أواخر عام 2014، صراعًا داميًا، استمر لمدة أربعة أشهرٍ، أسفر عن مقتل أكثر من 2600 شخصٍ؛ ما أدَّى إلى زعزعة الاستقرار والأمن الأوروبي، الذي بدوره أثَّر على الأسواق الرئيسية والبورصات الأوروبية، وارتفاع سعر العملة الروسية “الروبل”، وكانت لهذه التطورات دورٌ مهمٌ في إبرام اتفاقات “مينسك”؛ لفرْض هدنةٍ، وإحلال السلام بالمنطقة، ونظرًا لفشل هذه الاتفاقيات في نزْع فتيل الأزمة، فقد عُقدت “رباعية نورماندي”، بواسطة “ألمانيا، وفرنسا”، كل هذه الاتفاقيات لم تُسْفِرْ عن أيِّ حلولٍ جازمةٍ أو مُلْزِمةٍ للطرفيْن، بل على النقيض جاءت بنوده فضفاضة، واستطاع طرفا النزاع اختراقها؛ ما أسفر عن وقوع حربٍ فعليةٍ، بدأت أحداثها بغزو روسيا لأوكرانيا، في مطلع العام المنصرم 2022م، وفرضت سيطرتها على نطاقٍ واسعٍ من الأراضي الأوكرانية.

كلمات مفتاحية