إعداد: أحمد محمد فهمي
باحث متخصص في الشؤون التركية والإقليمية
انطلقت في العاصمة المصرية القاهرة “قمة القاهرة للسلام”، والتي عقدت بمشاركة قادة إقليميين ودوليين ممثلين عن 31 دولة و3 منظمات دولية، بعد دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي إليها بهدف بحث تطورات ومستقبل القضية الفلسطينية، والدفع نحو تفعيل عملية السلام في الشرق الأوسط للشروع في تسوية عاجلة وشاملة للصراع المستمر لعقود، بالإضافة إلى وقف التصعيد في قطاع غزة.
سعت مصر جاهدة في سبيل تحقيق هذه الأهداف من خلال تحديد ثلاث أولويات رئيسية وضعتها على أجندة القمة، الأولوية الأولى تتعلق بالضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار بهدف وقف الأعمال العدائية ووقف الدمار المستمر في غزة، الأولوية الثانية تتمثل في السماح بإدخال المساعدات الإنسانية والإمدادات إلى قطاع غزة للتخفيف من الأوضاع الإنسانية الصعبة التي يعاني منها ما يزيد عن 2.3 مليون شخص في غزةوالتي تتفاقم يومًا بعد يوم، أما الأولوية الثالثة فهي السعي إلى تحقيق تسوية شاملة للصراع “الفلسطيني-الإسرائيلي”، مستندة إلى مبدأ حل الدولتين، ويتمثل هذا الهدف في إيجاد حلاً دائمًا لهذا النزاع، والذي يمكن أن يساهم في تحقيق الاستقرار والأمان في المنطقة.
وتأتي هذه القمة في ظل استمرار فشل مجلس الأمن خلال جلسات التصويت على مشروعي القرارين الروسي والبرازيلي. كما فشلت قمة رباعية كان من المفترض أن تعقد الأربعاء الماضي في الأردن، والتي كان من المقرر أن تجمع بين الرئيس عبد الفتاح السيسي، والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، والرئيسين الفلسطيني محمود عباس والأمريكي جو بايدن. وهذا الوضع جعل القمة المصرية تحظى بالاهتمام العالمي، حيث تهدف إلى دعم الرؤية المصرية لإجراء مناقشات بهدف التوصل إلى حلاً شاملاً للقضية الفلسطينية وتنشيط عملية السلام.
أولًا: الأهداف المصرية وراء الدعوة لانعقاد القمة
هدفت مصر من وراء عقد قمة إقليمية دولية في القاهرة إلى مناقشة تطورات ومستقبل القضية الفلسطينية، وذلك بهدف تحقيق مجموعة من الأهداف، وذلك على ضوء إصدار مجلس الأمن القومي المصري ست قرارات خلال اجتماعه الأخير برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي انعقد لمناقشة تطورات الأوضاع الإقليمية، وتحديدًا التصعيد العسكري في قطاع غزة. ومن بين تلك القرارات، توجيه مصر الدعوة لاستضافة قمة إقليمية ودولية حول القضية الفلسطينية بهدف مناقشة وإيجاد حلاً للأزمة والصراع الحالي بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. ومن بين أبرز تلك الأهداف ما يلي:
- رفض تصفية القضية الفلسطينية: وهذا هو الموقف الثابت والحازم للسياسة المصرية تجاه مثل هذه المحاولات، بالإضافة إلى رفضها لمخططات نقل الفلسطينيين من أراضيهم إلى دول الجوار مثل مصر والأردن. وتهدف مصر من خلال عقد هذه القمة إلى التنسيق والتعاون المشترك مع الأطراف الفاعلة في المشهد الإقليمي والدولي، ذلك بهدف تنسيق الجهود الدولية واستكشاف جميع الوسائل الممكنة لإنهاء التصاعد الحالي واستعادة آفاق العملية السياسية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بهدف التوصل إلى حل دائم وشامل للقضية الفلسطينية وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.
- إعادة الزخم للقضية الفلسطينية: كما تهدف مصر من خلال دعوتها لعقد القمة إلى إعادة الزخم العالمي للقضية الفلسطينية، بعد فترة طويلة من التهميش نتيجة عدم قبول الجانب الإسرائيلي لحلاً تفاوضياً يقوم على تنفيذ عملية الشرق الأوسط بناءً على مبدأ حل الدولتين، وذلك إلى جانب استمرار الجانب الإسرائيلي في الاستفزازات المتكررة من خلال اقتحام المسجد الأقصى المبارك وبناء المزيد من المستوطنات على أراضي المواطنين الفلسطينيين، وشن عمليات عسكرية في غزة والضفة الغربية واستهداف أهالي القدس. وكذلك بالنظر الى الأهداف التي من أجلها قامت المقاومة الفلسطينية بشن عمليتها العسكرية “طوفان الأقصى” يوم السابع من أكتوبر، والذي يعكس احباطها الشديد وعدم وجود أي أمل في تحقيق السلام.
- دعم التحركات المصرية في مواجهة التطورات الحالية: تسعى مصر إلى حشد الدعم من الدول الغربية والإقليمية النشطة لدعم جهودها، التي تهدف إلى تأمين ممر آمن وعاجل لتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية العاجلة للفلسطينيين في قطاع غزة، في ظل استمرار عمليات القصف المستمرة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وقطع الكهرباء والمياه، وفرض الحصار على قطاع غزة.
- تعزيز التعاون الإقليمي والدولي: تهدف مصر من خلال القمة لأن يتحدث المجتمع الدولي من خلال قادة دول لها تأثيرها ومكانتها، سواء كانت إقليمية أو دولية، للتحدث بصوت واحد للتأكيد على ضرورة التهدئة ومراعاة الأوضاع الإنسانية، وفتح آفاق لتسوية الصراع على أساس حل الدولتين، وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة بشكل يحقق طموحات شعوبها.
- تعزيز الدور المصري الريادي والمؤثر في الملف الفلسطيني: تمثل السياسة المصرية عنصرًا بارزًا وحيويًا في التعامل مع مختلف الملفات المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وذلك سواء في سياق دعم جهود المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية، أو المشاركة الفاعلة في عملية التسوية السياسية، وكذلك في السعي لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة وتحقيق إعادة الإعمار في القطاع، وذلك بحكم علاقاتها الخاصة والتأثيرية مع مختلف الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية.
ثانيًا: مجريات القمة بين الرسائل المصرية والتباينات الدولية
- خطابات الإدانة المتباينة: ظهر خلال القمة تباين واضح في الخطابين العربي والغربي تجاه تطورات الأوضاع في قطاع غزة، وتجلى هذا التباين في كلمات المشاركين والتي تطرقت إلى إدانة إسرائيل أو في المقابل إدانة المقاومة الفلسطينية. فبينما أدان القادة العرب في كلماتهم خلال القمة الهجمات العسكرية الإسرائيلية وسياسة العقاب الجماعي المفروضة على قطاع غزة، مع مطالبتهم بوقف القصف ومحاولات التهجير. إلا أن كلمات وفود الدول الغربية، قد أكدت على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، إلى جانب انتقاد حركة المقاومة “حماس” وتحميلها مسؤولية تداعيات عملياتها العسكرية “طوفان الأقصى”.
وكان الخطاب العربي يُراعي إدانة القصف العنيف للمدنيين والذي استهدف أو قتل أو روع العديد من المدنيين الأبرياء، بالإضافة إلى الأزمة الإنسانية الكارثية التي يعاني منها سكان قطاع غزة، والإجراءات العقابية الجماعية التي تُفرض عليهم، بما في ذلك الحصار والجوع وضغوط التهجير القسري، كما أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته خلال القمة.
كان الخطاب الغربي يروِّج للرد الإسرائيلي في سياق الدفاع عن النفس، وهو ما برز في كلمات وفود الدول الغربية، حيث أكدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع التزامها بالقانون ووصفت ما حدث بأنه “إرهاب من جانب حماس”، مع التأكيد على التزام ألمانيا بحماية أمان إسرائيل، الذي وصفته بأنه غير قابل للتفاوض، وكذلك تشديد وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي على أن حركة حماس لا تتجه نحو السلام ولا تسعى لمنع التصعيد في قطاع غزة، بجانب إشارة وزيرة خارجية فرنسا كاترين كولونا إلى أن حركة حماس أرادت القضاء على إسرائيل في عملية “طوفان الأقصى” التي وقعت في السابع من أكتوبر، وإعلان وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي أن كندا تعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
- كلمة الرئيس السيسي: عبر الرئيس السيسي في كلمته عن كامل الموقف المصري الجامع حكومًا وشعبًا، ازاء التطورات الخطيرة في قطاع غزة، والتي أوضحها سابقًا خلال اتصالات هاتفية ولقاءات ثنائية مع العديد من قادة وزعماء الدول، وكذلك تعبيرًا عن الموقف الشعبي المساند لتحركات القيادة المصرية والتي جسدها في خروجه في تظاهرات يوم الجمعة السابقة ليوم عقد القمة، والتي عبرت فيها عن رفضها للسياسات الإسرائيلية ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، مع تفويضه ودعمه الكامل للقيادة السياسية باتخاذ الإجراءات الكفيلة لحماية الأمن القومي المصري والعربي، والوقوف ضد المخططات الإسرائيلية.
وفي كلمته، جدد الرئيس التشديد على الرفض التام للتهجير القسري للفلسطينيين وتهجيرهم إلى سيناء، مؤكدًا أن مثل هذا التهجير ليس سوى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية وإنهاء لحلم الدولة الفلسطينية المستقلة وإهداراً لكفاح الشعب الفلسطيني، على مدار ٧٥ عاماً، كما أكد الرئيس أن إرادة جميع أبناء الشعب المصري تقف صلبة ضد محاولات تصفية القضية الفلسطينية دون حل عادل، وأن مصر لن تسمح أبدًا بأن تتم هذه التصفية على حسابها. وأوضح أن حل للقضية الفلسطينية ليس التهجير ولا نقل الشعب إلى مناطق أخرى، ولكن الحل الحقيقي يكمن في تحقيق العدالة من خلال تمكين الفلسطينيين من تحقيق حقوقهم المشروعة وتقرير مصيرهم والعيش بكرامة وأمان في دولة مستقلة على أرضهم، داعيًا إلى التوافق على خارطة طريق تستهدف إنهاء المأساة الإنسانية الحالية، وإحياء مسار السلام، من خلال عدة محاور، والتي تبدأ بضمان التدفق الكامل والآمن، والسريع والمستدام، للمساعدات الإنسانية لأهل غزة، وتنتقل فوراً إلى التفاوض حول التهدئة ووقف إطلاق النار، ثم البدء العاجل في مفاوضاتٍ لإحياء عملية السلام، وصولاً لإعمال حل الدولتين، على أساس مقررات الشرعية الدولية.
- رفض سياسات التهجير القسري للفلسطينيين: خلال الكلمات التي ألقاها المشاركون في القمة، تم التأكيد بقوة على رفض فكرة التهجير القسري للفلسطينيين، جنبًا إلى جنب مع الحاجة الملحة لحل دولتين وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967. فبجانب كلمة الرئيس السيسي، ركزت كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، على ان الفلسطينيين لن يرحلوا عن أراضيهم، محذرًا من محاولات تهجير شعب غزة الى خارجها، كم حذر كذلك من أي عمليات طرد للفلسطينيين من بيوتهم أو تهجيريهم من القدس أو الضفة الغربية.
كما أكد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، أن التهجير القسري أو الداخلي للفلسطينيين يُعتبر جريمة حرب، مضيفًا أن المملكة ستعمل على وقف هذه الكارثة الإنسانية التي تدفع المنطقة إلى الهاوية. كذلك شدد العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، على رفض بلاده القاطع لتهجير شعب غزة من أرضه وأرض أجداده. وأكد أيضًا وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، رفض المملكة لمحاولات التهجير القسري للفلسطينيين.
وبالمثل، رفض ولي العهد الكويتي الشيخ مشعل أحمد الصباح، التهجير القسري للشعب الفلسطيني، محذراً من تداعيات خطيرة على المنطقة والعالم كله، وبينما دعا وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى خفض التصعيد في قطاع غزة وحقن الدماء ووقف الاعتداءات العسكرية، أكد رفض بلاده كل الحلول الهادفة للتهجير، وكذلك أعلن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، رفض الحصار المفروض على غزة ومحاولات التهجير القسري لسكان القطاع بما ينتهك القوانين الدولية.
- عدم صدور بيان ختامي: كانت التباينات التي برزت خلال كلمات الوفود في افتتاح القمة، قد ألقت بظلالها أيضًا على البيان الختامي، فبالرغم من دعوة مصر للتركيز على أن الأزمة الحالية غير مسبوقة وتتطلب اهتمامًا كاملاً لمنع اتساع رقعة الصراع بما يهدد استقرار المنطقة والسلام والأمن الدوليين، إلا أن اختلاف الرؤى الدولية كان أقوى وأثر في عدم التوافق على صدور البيان الختامي.
وقد أشارت مصادر دبلوماسية إلى أن السبب في عدم إصدار بيان ختامي للقمة يعود إلى خلافات بين المجموعة العربية وممثلي الغرب المشاركين في القمة، الذين عرقلوا صدوره. ويرجع ذلك إلى رغبة ممثلي الغرب في أن يتضمن البيان فقط إدانة لحركة حماس، بينما رفضوا إدانة إسرائيل بقتل آلاف المدنيين في غزة، أو المطالبة بوقف عاجل لإطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر.
- بيان الرئاسة المصرية: بسبب عدم إصدار بيان ختامي للقمة، أصدرت الرئاسة المصرية بيانًا يعبر عن وجهة نظرها حول الأزمة، وأشارت الى ما كانت تأمله من خلال دعوتها لإقامة هذه القمة، وفيما يلي أهم النقاط المتضمنة في البيان:
- إن مصر كانت تتطلع إلى أن يطلق المشاركون نداء عالميا للسلام يتوافقون فيه على أهمية إعادة تقييم نمط التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية على مدار العقود الماضية.
- هدفت مصر من خلال دعوتها إلى قمة السلام، إلى بناء توافق دولي ينبذ العنف والإرهاب ويشجب الحروب والأضرار الناجمة عنها في فلسطين وإسرائيل.
- انتقد البيان قصور جسيم في المشهد الدولي في إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية على مدار العقود الماضية.
- التأكيد على أهمية حماية المدنيين وضرورة تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى سكان غزة، مع التحذير من انتشار الصراع إلى مناطق أخرى في الإقليم.
- التأكيد على أهمية احترام حقوق الإنسان لجميع الأفراد، بما في ذلك الفلسطينيين، وضرورة توفير الحياة الكريمة والحق في الحياة والمأوى والرعاية الصحية والتعليم للفلسطينيين.
- التقدير للمشاركين في القمة والالتزام بالعمل المشترك لتحقيق الأهداف المطروحة.
- الالتزام بالسلام كخيار استراتيجي والعمل من أجل تحقيق حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967.
- تجديد مصر تأكيدها أنها لن تقبل أبدا بدعاوى تصفية القضية الفلسطينية على حساب أي دولة بالمنطقة، ولن تتهاون للحظة في الحفاظ على سيادتها وأمنها القومي في ظل ظروف وأوضاع متزايدة المخاطر والتهديدات.
وإجمالًا
يمكننا التأكيد على أهمية قمة القاهرة للسلام وتوقيتها المثالي للانعقاد والرسائل القوية التي نقلتها إلى العالم، فقد قدمت هذه القمة رؤية واضحة للتعامل مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وأكدت على مبدأ رفض تهجير الفلسطينيين، ويُتوقع أن تشكل القمة نقطة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية التي تعرضت لانتكاسات عديدة.
كما مثلت القمة مناسبة تاريخية هامة، حيث انطلقت رسائل السلام القوية والصادقة من قادة العالم تجاه القضية الفلسطينية والوضع الصعب الذي يعانيه الفلسطينيون، وعلى الرغم من وجود تباينات في الآراء والرؤى السياسية، إلا أن القمة نجحت في تسليط الضوء على الأوضاع الإنسانية الصعبة في غزة والضفة الغربية، وأكدت على حقوق الشعب الفلسطيني.
وفي ظل التحديات الكبيرة التي تواجه المنطقة والعالم، يمثل مؤتمر القاهرة للسلام خطوة مهمة نحو بناء مستقبل أكثر إشراقًا وأمانًا للجميع، ويجب على المجتمع الدولي أن يتحد ويتعاون لدعم جهود تحقيق السلام والعدالة في الشرق الأوسط نحو دعم القضية الفلسطينية وتقديم الدعم الإنساني والاقتصادي للفلسطينيين، والعمل على توجيه الجهود نحو حلول سلمية تحقق استقرار المنطقة.