إعداد: أكرم السيد
وسط إطلاق صفارات إنذار عمت أنحاء العاصمة الأوكرانية كييف، توجه الرئيس الأمريكى “جو بايدن” إلى أوكرانيا، وجاءت هذه الزيارة فى أجواء غلبت عليها السرية، وبعد مرور عام على اندلاع الصراع، وذلك للتأكيد على مواصلة “واشنطن” دعمها المستمر للعاصمة الأوكرانية “كييف” لحسم المعركة لصالحها، بجانب حلفائها الغربيين.
ويذكر أن “بايدن” لم يكن الزعيم الأول الذى زار أوكرانيا منذ فبراير من العام الماضى، حيث بداية الصراع، إذ سبقه عدد من المسؤولين الغربيين، لتأتى هذه الزيارة تماشيًا مع الزيارات السابقة.
لكن ثمة ثقل للزيارة كونها من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها الداعم الأكبر لأوكرانيا، فهل من الممكن أن تؤدى هذه الزيارة إلى إحداث تغيير فى مجريات الأحداث أم أن الطابع الرمزى سوف يغلب عليها؟
سرية الترتيبات
كان توجه الرئيس الأمريكى “جو بايدن” إلى كييف أمرًا غير معلن فى بداية الأمر، فعلى الرغم أنه كان من المعلوم مسبقًا توجه بايدن إلى بولندا، الثلاثاء، ومن ثم إلقاء خطاب بمناسبة مرور عام على بدء الحرب من “وارسو”، إلا أن هناك إضافات على جدول أعمال بايدن لم يعلن عنها، بالإضافة إلى محاولة البيت الأبيض صرف الأذهان عن زيارة “بايدن” إلى كييف من خلال نشر برنامج عمل الرئيس ليوم الاثنين، والذى لم يتضمن لا من قريب أو من بعيد الإشارة إلى زيارة “كييف”، بل التأكيد على أن بايدن سيكون فى “واشنطن” يوم الاثنين، ويغادرها فى المساء للذهاب إلى بولندا، حيث الزيارة المرتقبة له، توازى مع ذلك نفى مسؤولون أمريكيون فكرة وجود زيارة لـ “بايدن” إلى كييف، ليفاجأ العالم الاثنين الماضى بزيارة استثنائية يجريها “بايدن” إلى كييف، قادمًا من الحدود البولندية بعد استقلال القطار لمدة تقارب العشر ساعات، حيث جرى التكتم على كل هذه الترتيبات لأسباب أمنية على الرغم من علم “موسكو” بهذه الزيارة، ووجود تنسيق بينها ويين واشنطن بشأنها.
بين الرمزية ونقيضها
يذهب البعض إلى أن ثمة أهمية رمزية لهذه الزيارة، تنبع من ناحية أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يذهب بنفسه إلى قلب العاصمة “كييف” للقاء نظيره الأوكرانى، على الرغم مما تحمله هذه الزيارة من مخاطر عليه شخصيًا، وهو ما يجعل رمزية هذه الزيارة تفوق بكثير تأثيرها على تغيير مجرى الصراع الدائر، إذ أنه من غير المرجح فى الوقت الراهن، كنتيجة لهذه الزيارة، أن تنخرط “واشنطن” وحلفاؤها بشكل مباشر لإحداث تغييرات ميدانية تصب فى مصلحة “كييف”، بل ستستمر وتيرة المساعدات المقدمة إلى “كييف” على وتيرتها الآخذة فى التصاعد.
ومما يؤكد ترجيح الطابع الرمزى للزيارة وأنها لن تؤدى إلى حرب مباشرة بين موسكو ضد واشنطن وحلفائها، إنه كان لدى الجانب الروسى علم مسبق بموعد هذه الزيارة ومن ثم تم التنسيق بين الجانبين الروسى والأمريكى بخصوصها، فوفقا لمستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومى “جيك سوليفان” بشأن إبلاغ موسكو بالزيارة قال: “أبلغنا الروس بأن الرئيس بايدن سيتوجه إلى كييف، وذلك قبل ساعات من مغادرته”.
لذا فإن ثمة رغبة أمريكية وكذلك روسية بعدم تصعيد الأوضاع ودخولها مرحلة المواجهة المباشرة، فواشنطن بإعلامها الجانب الروسى والتنسيق معه تتبين نواياها غير الهادفة للتصعيد، وكذلك تجاوب موسكو والتنسيق مع واشنطن بشأن الزيارة تتبين نواياها المماثلة.
وعلى صعيد آخر، فإن ثمة أهمية لهذه الزيارة لا تجعلها ذات طابع رمزى فحسب، هذه الأهمية اتضحت من إعلان “بايدن” خلال زيارته، أن دفعة جديدة من المساعدات سوف ترسلها واشنطن إلى كييف، وهو ما يخرج هذه الزيارة إلى حد كبير من طابعها الرمزى، حيث ستشمل قيمة هذه المساعدات وفقا لخطاب بايدن، ما يعادل نصف مليار دولار من المساعدات العسكرية تتضمن ذخيرة المدفعية وصواريخ “جافلين” المضادة للدبابات، وأنظمة مضادة للدروع ورادارات المراقبة الجوية، وهو ما يجعل هذه الزيارة ينظر إليها على ناحيتين، رمزية القيام بها من ناحية، وتأثيرها نتيجة للمساعدات التى تم الإعلان عنها من ناحية أخرى.
رسائل مهمة
حملت زيارة “بايدن” إلى كييف رسائل مهمة بين ثناياها، رغبة إدارة الرئيس الأمريكى توجيهها ليس فقط إلى كييف والحلفاء الغربيين أو موسكو، بل إلى الداخل الأمريكى على المستوى الرسمى والشعبى أيضًا، ويمكن الإشارة إلى رسائل الزيارة على المستويين الداخلى والخارجى فى النقاط التالية:
1- بحلول اقتراب الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتى دخلت الولايات المتحدة مرحلة الإعداد لها، كإعلان بعض الأسماء عزمها التقدم لخوض المنافسة، وبروز عدة مؤشرات ترجح بدرجة كبيرة عزم الرئيس الأمريكى “بايدن” خوضه سباق المنافسة لكسب ولاية ثانية، فإن ثمة ارتباطًـًا لصيقًا بين قيام بايدن بهذه الزيارة ورغبته الترشح فى الانتخابات المقبلة، حيث من شأن هذه الزيارة أن تكون بمثابة رسالة موجهة إلى معارضى ترشح “بايدن”، بزعم تقدمه فى العمر وعدم امتلاكه القدرة الجسدية والعقلية التى تساعده على القيام بوظيفته كرئيس للولايات المتحدة على الوجه المطلوب، وهو ما تنفيه هذه الزيارة من خلال إبراز حرص “بايدن” على دعم “كييف” من قلب الميدان بعد رحلة شاقة تتخللها بعض المخاطر الأمنية، كل هذه الادعاءات التى تتعلق بصحة “بايدن” فندتها زيارته إلى “كييف” بصورة أو بأخرى.
2- استمرار دعم أوكرانيا، حيث تبرز هذه الزيارة حرص الولايات المتحدة على استمرار تقديم دعمها إلى أوكرانيا، وذلك بعد نحو عام على اندلاع الصراع، وهو ما سينعكس بالإيجاب على مواصلة القوات الأوكرانية الحرب وتحقيقها تقدمًا ميدانيًا، نظرًا لإعلان الحليف الأول والدولة صاحبة الدعم الأكبر لها منذ اندلاع الصراع، عزمها مواصلة إمدادها بالمساعدات العسكرية والمادية، وزيادة وتيرة هذه المساعدات طبقًا لتطور مجريات الأوضاع.
3- الانخراط مع الحلفاء فى مواصلة دعم أوكرانيا، يذكر فى هذا السياق، الإشارة إلى مماطلة “برلين” من قبل فى إرسال منظومة دبابات “ليوبارد” إلى كييف، مصرّحة بأنها لن تفعل ذلك إلا إذا اتخذت الولايات المتحدة قرارًا بإرسال دبابات “أبرامز” كشرط مسبق وضعته “برلين” حتى تنخرط فى دعم أوكرانيا بهذه المنظومة الأحدث من الدبابات فى العالم.
4- وهذه الحادثة كانت بمثابة تأكيد على استمرار قيادة الولايات المتحدة لحلفائها، وكذا التأكيد على أنه بإمكان “واشنطن” تحريك دفة الأوضاع، وأنه من شأن طرحها لأى مبادرة تجاه الأزمة الأوكرانية أن يتلقاها حلفاؤها الغربيون بالتأييد والانخراط ضمنها؛ لذا فإن من شأن هذه الزيارة أن توجه رسالة لحلفاء واشنطن الغربيين بضرورة استمرار الوقوف إلى جانب أوكرانيا، حتى تخرج كييف منها ميدانيًا، ودبلوماسيًا فيما بعد بأقل خسائر ممكنة.
5- رسالة إلى موسكو، وبطبيعة الحال فإن قيام “بايدن” بمثل هذه زيارة بعد نحو عام من اندلاع الحرب، وتزامنًا مع خطاب الرئيس الروسى “فلاديمير بوتين”، من شأنه إيصال رسالة إلى موسكو، مفادها بأن “واشنطن” لن تتراجع عن دعم “كييف” حتى تتحقق أهدافها، وأنه بفضل هذا الدعم جنبًا إلى دعم الحلفاء، لم تتمكن “موسكو” بعد عام كامل من السيطرة على الأراضى الأوكرانية إلا عدة مدن فى الشرق الأوكرانى, والتى تشهد معارك متواصلة بين موسكو وكييف، والذى كان للدعم الغربى أثر كبير فى أن تنحصر المعارك فى هذه الرقعة الجغرافية فقط.
6- رسالة إلى بكين، وبالتحديد فى الآونة الأخيرة، حيث ترددت تصريحات فى الأوساط الرسمية الأمريكية تفيد بأن الصين عازمة على الانخراط فى الصراع من خلال دعمها المباشر للجيش الروسى، وهو ما تناوله وزير الخارجية الأمريكى “أنتونى بليكين” خلال لقائه بنظيره الصينى “وانغ يى” على هامش مؤتمر “ميونخ”، مشيرًا إلى أن ثمة مخاوف لدى “واشنطن” جراء ورود معلومات استخباراتية تفيد بوجود مساعٍ لدى “بكين” لإمداد “موسكو” بمساعدات عسكرية فى الفترة المقبلة، وهو ما قوبل بالنفى من بكين، وسواء نفت بكين أو أيدت هذا الادعاء، فإن هذه الزيارة تحمل بين طياتها إشارة موجهة إلى حلفاء موسكو بعدم تراخى واشنطن فى دعم “كييف” مهما طال أمد الصراع.
تفاعل روسى متوقَع
كان لهذه الزيارة ردود فعل متناغمة مع بعضها البعض من قبل “موسكو”، إذ أنه من غير المتوقع أن تشيد “موسكو” بأهمية الزيارة ورمزية توقيتها، وهو ما أيدته ردود الفعل الروسية، حيث تفاعل “الكرملين” مع هذه الزيارة مشيرًا إلى أن ثمة متابعة حثيثة من قبل موسكو للزيارة، مؤكدًا فى نفس الوقت أنها لم تكن زيارة استثنائية، حيث كانت زيارة معلومة بالنسبة لروسيا.
بالإضافة إلى ذلك فقد نفى “الكرملين” أى تأثيرات من شأن هذه الزيارة أن تحدثها على السياسة الروسية أو على التراجع الروسى فى ميادين الصراع، وفى هذا السياق، أشارت الناطقة باسم الخارجية الروسية فى تعقيبها على الزيارة إلى أن مصير أى حليف للولايات المتحدة هو اللعنة من شعبه نظرًا لخيانته، مشيرةً فى هذا الصدد إلى مصير الرئيس الجورجى السابق “ميخائيل ساكشفيلى”، والمعارض الفنزويلى “خوان جوايدو”.
من جانبه، وصف وزير الخارجية الروسى “سيرجى لافروف” هذه الزيارة “بالمسرحية”، مشيرًا إلى أنه لا جديد يمكن أن تأتى به هذه الزيارة، حيث إن الدعم الغربى والأمريكى مستمر، كما أن المحاولات الجارية لإنقاذ النظام النازى فى أوكرانيا هى محاولات عقيمة على حد وصفه.
ختامًا
فإن الزخم الأكبر لهذه الزيارة ليس بسبب النتائج التى ستسفر عنها، بل لكونها تأتى من رئيس الولايات المتحدة فى وقت تشهد فيه البلد الذى يذهب لزيارته حربًا لم تشهدها القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية على مستوى ضخامتها وتأثيرها، أما على مستوى نتائج الزيارة، بعيدًا عن طابعها الرمزى، فهو مواصلة واشنطن وحلفاؤها تقديم مزيد من الدعم لكييف يؤهلها إلى كسب أوراق تفاوضية تعزز مطالبها عند اللجوء إلى طاولة المفاوضات، والتى لا يلوح فى الأفق فى الفترة الراهنة أى اقتراب لجلوس الجانبين الروسى والأوكرانى عليها والاحتكام لها.